سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    التعاون يتغلّب على الخالدية البحريني بثنائية في دوري أبطال آسيا 2    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    شخصنة المواقف    النوم المبكر مواجهة للأمراض    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    الفيحاء يواجه العروبة.. والأخدود يستقبل الخلود.. والرياض يحل ضيفاً على الفتح    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    المستجدات العالمية والتطورات الجيوسياسية تزيد تركيز المملكة على تنويع الموارد    تميز المشاركات الوطنية بمؤتمر الابتكار في استدامة المياه    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    نور الرياض يضيء سماء العاصمة    قيصرية الكتاب تستضيف رائد تحقيق الشعر العربي    الشائعات ضد المملكة    الأسرة والأم الحنون    سعادة بطعم الرحمة    اجتماع قادة الصناعة المالية الإسلامية في اللقاء الاستراتيجي الثاني لمناقشة الابتكار المستدام    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    باحثة روسية تحذر الغرب.. «بوتين سيطبق تهديداته»    إشادة أوروبية بالتطور الكبير للمملكة ورؤيتها 2030    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    التويجري: السعودية تُنفّذ إصلاحات نوعية عززت مبادئها الراسخة في إقامة العدل والمساواة    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    60 صورة من 20 دولة للفوتوغرافي السعودي محتسب في دبي    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    «مساعد وزير الاستثمار» : إصلاحات غير مسبوقة لجذب الاستثمارات العالمية    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    بهدفين في الدوحة| الاتفاق ينفرد بالصدارة عبر بوابة العربي القطري    قمة آسيا للذئاب    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    مشروعات طبية وتعليمية في اليمن والصومال.. تقدير كبير لجهود مركز الملك سلمان وأهدافه النبيلة    ميقاتي يحذر النازحين من العودة السريعة.. وإسرائيل تعلن اعتقال 4 من حزب الله    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    نوافذ للحياة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم كان المريض يداوى ويكسى ويعطى مالاً يساعده على النقاهة . بيمارستان نور الدين : من مستشفى وجامعة علمية الى متحف لحضارة بقيت ذكرياتها
نشر في الحياة يوم 20 - 09 - 1999

منذ اللحظة التي تجتاز فيها المدخل الرئيسي ل"بيمارستان نور الدين" تأخذك مناظر الطبيعة الخلابة وانواع الاشجار والازهار الشامية متمايلة عاكسةً ظلالها فوق مياه "البحرة" الكبيرة التي تتوسط الفناء. على الفور يسري في أوصالك نوع من الراحة النفسية وتشعر كما لو انك عدت مئات السنين الى الوراء، الى تلك الازمان السعيدة التي كانت الحضارة العربية - الاسلامية تعيش فيها ازهى لحظاتها. ومع هذا لبعض دقائق خلت كنت تجتاز للوصول الى "البيمارستان" منطقة "الحريقة" التي تعتبر اكثر مناطق دمشق اكتظاظاً بالبائعين وبالسيارات وبالزبائن.
اذاً، دقائق قليلة هي تلك التي تفصل بين الحاضر بصخبه والماضي بهدوئه. اما "البيمارستان" نفسه فإن الحاضر عرف كيف يحوله الى "متحف للطب والعلوم عند العرب" متحف فريد من نوعه يعطي زائر اليوم الف حقيقة وحقيقة عما كان اجداده حققوه في الامس.
فالمتحف عبارة عن حيز يشتمل على الابتكارات والادوات والكتب التي انتجتها الحضارة العربية في ميادين الطب والصيدلة والفلك والرياضيات والجغرافيا والموسيقى، حاملة بذلك مشعلاً أضاء الحضارة الانسانية ردحاً من الزمن و"ساهم في تطور البشرية في وقت كانت فيه اوروبا غارقة في بحر من ظلمات التخلّف والجهل" حسبما يقول المؤرخون.
في تلك الازمان لم يكن "البيمارستان" مجرد مكان يُعالج فيه المريض، بل كان كذلك مدرسة للطب والعلوم يتلقى فيها الطلاب انواع العلوم واصول التداوي والعلاج.
وفي الزمن الذي انجز فيه بيمارستان نور الدين صارت دمشق تضم ثلاثة بيمارستانات: اولها عُرف ب"الدقاقي" ثم عرف ب"العتيق" وظل يقوم بوظائفه الى ما بعد القرن الثامن الهجري كما يقول ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية" حيث يشير الى انه "لم تخمد فيه النار منذ بني الى زماننا". ولقد جرى تجديده خلال النصف الثاني من القرن الثامن. اما البيمارستان الثالث فهو "القيمري" نسبة الى الامير الايوبي سيف الدين القيمري وبني في منطقة الصالحية قبل العام 654ه. ومنذ ذلك الحين بعد تهدم "الدقاقي" واهمال "القيمري" واغلاقه لم يبق في دمشق سوى "بيمارستان نور الدين" ولهذا البيمارستان في ما يتعلق ببنائه حكاية حدثت مع نور الدين بن محمود زنكي الذي شهدت دمشق ايام حكمه عصرها الذهبي. اذ تذكر كتب التاريخ ان نور الدين اثناء حروبه الطويلة مع الافرنج اسر احد ملوكهم، فأشار عليه مجلس اعيانه حين سأل المجلس عما يفعل بالأسير، ان يطلق سراحه مقابل فدية مالية "تُنفق في بناء بيمارستان يكون مشفى يقدم الدواء والعلاج للمرضى". وبالفعل راقت الفكرة لنور الدين، وحصل على الفدية واطلق الملك. ثم استقدم خيرة المهندسين والعمال المهرة لبناء ذلك البيمارستان الذي عُرف باسمه. وحين بدأ البيمارستان ممارسة وظائفه اجتذب اليه أمهر الاطباء في الشرق، فكان اول واعظم جامعة طبية في الشرق كله آنذاك.
وتشير المصادر التاريخية الى ان الخليفة الاموي السادس الوليد بن عبدالملك اول من بنى البيمارستان في دمشق وذلك سنة 707م وجعل فيه الاطباء واجرى عليه الارزاق وامر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا، واجرى عليهم وعلى العميان الارزاق، وفي هذا قال رشيد الدين بن الوطواط: "اول من عمل البيمارستان وأجرى الصدقات على الزمنى والمجذومين والعميان والمساكين، واستخدم لهم الخدّام الوليد بن عبدالملك".
وكان لاختيار موقع البيمارستان قواعد واصول اتبعها العرب منذ ايام العالم الكبير ابو بكر الرازي الذي عندما اراد اختيار موقع البيمارستان العضدي الذي بُني ببغداد في القرن العاشر الميلادي، تفتق ذهنه عن طريقة مبتكرة لا تزال محل تقدير الاطباء واعجابهم حتى يومنا هذا، فقد عمد الى وضع بعض قطع من اللحم في انحاء مختلفة من بغداد وراح يلاحظ سرعة سير التعفن فيها، وبطبيعة الحال كانت أنسب الاماكن من حيث نقاء الجو واعتداله هي اقلها تعفّناً.
وعلى رغم وقوع بيمارستان نور الدين في قلب دمشق القديمة الزاخرة بروائع فن العمارة العربية والاسلامية المتعددة والمتنوعة والمجسّدة في: البيوت، المكتبات، الحمّامات، الدكاكين، القهاوي… حتى الأروقة والحارات فهو مجاور لسوق الحميدية الشهير، ومقابل للطريق المؤيد الى سوق العصرونية القديم، والى الجنوب الغربي منه وعلى مسافة غير بعيدة يقع الجامع الاموي الكبير، المكتبة الظاهرية والحمام الظاهري الا انه يمثل طرازاً غريباً ومختلفاً عن بقية الابنية الاثرية القديمة المشيدة في المنطقة نفسها ويقال بأنه فن حمله معه الملك العادل نور الدين زنكي من العراق عندما حكم دمشق ايام الدولة الايوبية. واعتبر المختصون مبنى البيمارستان من الابنية المتكاملة التي تقدم نموذجاً يمثل فن العمارة السلجوقية من حيث مخططه وطراز عمارته وعناصره المعمارية والزخرفية التي ما زالت محافظة على وضعها الاصلي حتى يومنا الحالي، وهذا ما دفع الكثير من الباحثين والدارسين الى تشبيهه بالقصور الملكية وعده واحداً منها.
ويذكر بأن العلاج كان مجانياً حيث لا يتكلف المريض درهماً واحداً، بل كان المريض الفقير يُمنح لدى خروجه من المستشفى ثياباً ونقوداً تكفيه للعيش دونما اضطرار الى العمل طوال فترة النقاهة.
الموسيقى للمعالجة
وتذكر مصادر التاريخ ان الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك الذي كان رئيساً للاطباء والجراحين عام 637ه/1237م قد عمل على توسيع بيمارستان نور الدين بإضافة دور كانت حوله ليتسع لعدد اكبر من المرضى. كما دلّ بعض الكتابات التاريخية المنقوشة فيه على ترميم بعض اجزائه خلال العصر المملوكي ايام السلاطين: الظاهر بيبرس وقلاوون وابنه الناصر محمد في اواخر القرن السابع الهجري، وبقي يقدم رسالته حتى القرن التاسع عشر حين بني المستشفى الوطني الى جانب تكية السلطان سليم.
وقد زاره الرحالة ابن جبير في القرن الثاني عشر م. فقال فيه: "دخلت دمشق سنة 580ه وبها مارستان قديم الدقاقي وحديث نور الدين والحديث احفلهما واكبرهما وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً، وله قومة وبأيديهم الازمّة المحتوية على اسماء المرضى… والاطباء يبكرون اليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون باعداد ما يصلحهم من الادوية والاغذية حسبما يليق بكل انسان منهم، وللمجانين المعتقلين ايضاً ضرب من العلاج". وفي موضع آخر قال: "بأن الاطباء قد اهتدوا الى المعالجة بواسطة الموسيقى للترويح عن المرضى وتسليتهم عن آلامهم، فقد كانوا يجلبون القصاص والمطربين الى القاعات وكانوا يجعلون لمن يخرج من البيمارستان عند برئه كسوة وخمس قطع من الذهب كإعانة حتى تنتهي فترة نقاهته".
وفي ايامنا هذه وتقديراً لأهمية "هذا المبنى تاريخياً كونه احد الاماكن الاثرية القيّمة في فيحاء الشام"، اضافة "الى مساهماته الجليلة والكبيرة التي ساعدت في تطور العلوم الطبية والصيدلانية عند العرب على مرّ قرون عديدة"، ارتأت مديرية الآثار والمتاحف بدمشق ترميم هذا البيمارستان وتحويله الى متحف للطب والعلوم عند العرب وفتحه امام الرواد والدارسين... في البداية قد لا ينتبه السائر في منطقة الحريقة الى البيمارستان لكثرة المحلات التجارية لكنه مع بعض التمعن يمكن ان يتلمس دلائله من تميز بابه الخارجي عن واجهات المبنى الخالية من اي زخرف. ويعد المتخصصون في مجال الآثار والتراث هذا الباب قطعة فنية فريدة. فهو يتألف من مصراعين خشبيين مُصفّحين بالنحاس ومُزخرفين بمسامير ذات رؤوس كروية بشكل زهور صغيرة وعلى كل مصراع مدقّة نحاسية جميلة، والمصراعان مزخرفان من الخلف بالحشوات الخشبية المنقوشة بالرسوم النباتية. كما ان للباب ساكفاً مؤلفاً من حجر واحد منقول من بناء قديم يرجع الى العهد الروماني، وتعلو الباب واجهة من الزخارف الجصية تتألف من صف محاريب ذي أقواس مخصصة. اما المقرنصات فقد صممت من تسعة مداميك على شكل الورقة المجوفة وهو نمط قدم مع السلاجقة. وكذلك يلفت النظر تجويف البوابة حيث الاقواس المؤلفة من سبعة فصوص، اما القبة المقرنصة فوق المدخل فتعد من اجمل قباب دمشق واكثرها غرابة وبعداً عن طراز العمارة العربية المنتشرة في سورية وهي مشابهة لقبتي السيدة زبيدة والسيد السهروردي في بغداد.
يلي الباب الرئيسي غرفة مربّعة الشكل تقوم مقام الدهليز، وتُعدّ حالياً من اجمل غرف المبنى عناية وزخرفة. كان يُطلق عليها بلغة ذلك العصر "الدركاة" وتقع بين البابين الخارجي والداخلي، مزودة بإيوانين صغيرين على جانبيها ويعلو جدرانها اشرطة كتابية تشير الى اعمال الاصلاح التي تمت في العهد المملوكي على اعتبار ان البيمارستان قد بُني على مرحلتين: الاولى تمت في عهد الملك العادل نور الدين بن محمود زنكي في حوالي 548ه/ 1154م وتضم البناء الاساسي، والثانية حين وسّعه الطبيب بدر الدين ابن قاضي بعلبك سنة 637ه. وما يزال القسم الرئيسي في البيمارستان محافظاً على وضعه الاصلي حتى الآن.
ويفضي الدهليز الى باحة سماوية كبيرة تتوسطها بحرة ماء مستطيلة مبنية من الحجر المنحوت لزواياها من الداخل حنايا نصف اسطوانية كعنصر زخرفي شاع في العهدين السلجوقي والايوبي. وتنتشر حول البحرة انواع من الاشجار المثمرة، الورود الجورية والازهار الدمشقية لأن الطب العربي انتبه ومنذ القديم الى تأثير الطبيعة الجميلة على الصحة النفسية للانسان، لذلك عمد الاطباء العرب الى استغلال هذه الميزة اثناء بنائهم للبيمارستانات.
كما انتبه اصحاب العمل في توزيع البيمارستان الى تخصيص اروقة خاصة بالذكور واخرى للإناث مع تجهيزها بكل ما يلزم من حمام عام وصيدلية ومكتبة ومكان يجلس فيه الاطباء لالقاء دروس في الطب ينتفع بها الطلبة، وكانت للبيمارستان اوقاف يسجلونها في حجج مكتوبة.
وينفتح على الباحة من كل جهة ايوان وعلى جانب كل ايوان قاعتان، وتشرف ابواب القاعات على صحن البيمارستان، ويعلو الابواب مناور على شكل شبك مصنوع من الجص المزخرف والاشكال النجمية، ومحاط بإطار جميل من الاوراق النباتية. وسميت الاواوين بحسب اتجاهاتها الغربي، الجنوبي، الشرقي… وقد تميز الايوان الجنوبي بكسوته الرخامية الرائعة ونقوش الزخارف النباتية المتميزة والاطارات التزينية والاقنية الحلزونية والتيجان الكورانثية… وقد عدّ استخدام هذا النوع من الفسيفساء استخداماً في العمارة العربية. ويتميز وسط الايوان الجنوبي بنقش زنبقية محاط بدائرة وهو شعار السلطان نور الدين او كما يسمونه قديماً "رنك" وكثيراً ما كان هذا الشعار يُشاهد في المبانى التي شُيدت في عهده. واقيم وسط هذا الايوان نموذج مصغر لناعورة عربية ما زالت تستخدم حتى الآن في حوض نهر العاصي لرفع المياه من اجل سقاية الاشجار والمزروعات.
اما الايوان الشرقي فهو الاكبر، وكان مخصصاً لعقد جلسات الاطباء والقاء المحاضرات. وتتصدر الايوان خزانتان جدرايتان كان ذكرهما طبيب معاصر لعهد السلطان نور الدين وقال: "انهما كانتا مملوءتين بكتب الطب التي اوقفها نور الدين على البيمارستان". ويضم الايوان لوحة رخامية اثرية تؤكد ان باني هذا المكان هو الملك العادل نور الدين زنكي حيث نقرأ على الرخامة "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أمر بتمام عمارته الفقير الى الله في سعة رحمته لا للخلود فيه بل للمقام به منذ مدة الاجل المحصى والعمر المقدر المقضي وذلك سنة تسع واربعين وخمسمائة للهجرة، مولانا الملك العادل العارف الزاهد المجاهد نور الدين ركن الاسلام والمسلمين ابو القاسم محمود بن زنكي بن سنقر". كما تزيّن جدران هذا الايوان لوحات رخامية قديمة كتبت عليها آيات من القرآن الكريم. ومع تحويل البيمارستان الى متحف تم توزيعه الى ثلاث قاعات رئيسية: العلوم، الطب، الصيدلة اضافة الى مكتبة صغيرة تضم انواعاً من الكتب العلمية المتخصصة.
ويطالعك في قاعة العلوم بعض اللوحات الفنية المتواضعة التي تدل على تطور العلوم عند العرب، ومجموعات من الادوات الفلكية العربية التي تبيّن للزائر دور العرب في تطور علوم الفلك، او كما يسمونه قديماً "علم الهيئة" فتقدم بذلك صورة تقريبية عامة عن المدى الذي بلغوه في اعلاء شأنه والجهود التي بذلوها في تكريسه علماً استقرائياً مستقلاً عن التنجيم يستند الى الملاحظة الحسية ويصطنع الارصاد لتعليل حركات الاجرام السماوية وتفسير الظواهر الفكلية، ولعل اهم ما في هذه المجموعة هو الاسطرلاب العربي، العائد تاريخه الى القرن الثاني عشر الميلادي، ويعتبر اداة فذّة للمراقبة خاصة وانه قابل للحمل، ويمكن بواسطته تقدير ابعاد النجوم والشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة وتبيان الوقت ايضاً، وقياس مدى ارتفاع جبل من الجبال او مدى انخفاض الآبار كما ان له قيمة عظيمة عند الملاحين.
ساعة مبكرة
ومن بين المعروضات آلة تم تطويرها انطلاقاً من الاسطرلاب وسميت "ربع الدائرة الفلكية" استعملها العلماء العرب لقياس الارتفاع الزاوي قبل ان يعرفها العلماء في اوروبا بقرون عديدة، وفي مكان آخر هناك ساعة دقاقة هي متطورة عن النموذج القديم الذي يعترف الكثير من الباحثين الغربيين ان العرب هم مخترعو الرقّاص، وينسب هذا الاختراع الى ابي سعيد عبدالرحمن بن يونس المصري. وكان الفلكيون العرب يستخدمون الرقاص لحساب الفترات الزمنية اثناء رصد النجوم، ويعتقد بأن العرب هم من طبّقوه على الساعة، ومثالهم على ذلك: الساعة الدقّاقة التي ارسلها هارون الرشيد الى شارلمان والتي تعجّب منها اهل ديوانه ولم يستطيعوا ان يعرفوا طريقة عملها ولا كيفية تركيب آلاتها، وهي ساعة مائية تدقّ كل ساعة بسقوط كراتها النحاسية على قرص معدني، كما تعرض قناديل قديمة تعتمد على ارجاع بخار الماء بالفحم المتوهج، وتستعمل مثل هذه القناديل في الامكنة التي يندر فيها تواجد الهواء، ونماذج اخرى متنوعة لأهم الموازين والاوزان العربية التي كانت وما زالت شائعة الاستعمال حتى وقتنا الحاضر. في الواجهة الجنوبية من القاعة تمثال مصنوع من الجص للعالم ابو النصر الفارابي المعتبر من اكبر النظريين العرب في علم الموسيقى وقد وصفه ول ديورانت بأنه اشهر من الف في العصور الوسطى في النظريات الموسيقية، فهو من صمّم الرباب واخترع آلة القانون الذي يعدّه الكثيرون أصل البيانو، وكان الفارابي الى جانب ذلك طبيباً مرموقاً ورياضياً وفلكياً من الدرجة الاولى. كما تضم القاعة ادوات فلكية اخرى، ولوحات فنية لاشهر العلماء المسلمين: البتاني، البيروني، الخوارزمي، ابن رشد، ابن الهيثم، الادريسي، ابن خلدون…
اما قاعة الطب فتحتوي على احدى عشرة خزنة تعرض فيها مجموعات من المخطوطات الطبية القديمة كمخطوطة تحفة الملوك - طب بالتمام للشيخ زين الدين الحلبي والعائد تاريخها الى اواخر القرن الثامن عشر، كما نجد في خزائن اخرى نماذج نحاسية لادوات طبية قديمة اخذت مصادرها من كتاب الطبيب العربي ابو القاسم الزهراوي المسمى "التصريف لمن عجز عن التأليف" وهي نماذج استخدمها الجراحون العرب في عملياتهم الجراحية مقصات، كلاّبات مشارط، مناشير، ملاقط… وشديدة الشبه بأدوات الجراحة العصرية. ويُعرض ايضاً قميص طبي يعود تاريخه الى اواخر القرن الثامن عشر ومجموعة تمائم مختلفة الاشكال والانواع كان يعتقد بها لدرء وإبعاد السوء.
وفي احدى الخزائن تتصدر بعض الصور التذكارية الطريفة لاول طائرة وصلت الى سورية، الى جانب مجموعة من الادوات والتجهيزات الطبية التي كانت شائعة في معالجة الاسنان وصناعتها.
اما اهم هذه الخزائن فتعرض لوحة ملونة فريدة تبين تشريح العين كما وردت في المخطوطة المحفوظة بدار الكتب في القاهرة عن كتاب للطبيب والمترجم حنين بن اسحاق حول موضوع بنية العين وامراضها ومعالجتها وهذا الكتاب وضعه في عشرة فنون، وفقاً لنظريات "ابي قراط وجالينوس".
وفي قاعة الصيدلة او "علم الادوية" كما كان يسميه العلماء العرب تطالعك نماذج الادوات والاجهزة التي كان العلماء العرب يقومون بواسطتها بمزج وتركيب الادوية المستخرجة من الاعشاب والنباتات الطبية مثل المهابيج والهاونات والمدقّات… بالاضافة الى اجهزة التقطير الخاصة المستخدمة في مثل هذه الامور، وتحفل خزائن هذه القاعة بكاسات مختلفة من الزجاج وضع في داخلها ما يزيد على ستين نوعاً من النباتات والاعشاب الطبية التي استُخدمت لاستخراج الادوية منها.
وفي محاولة لتكريس التقليد الذي كان معروفاً عن البيمارستان فقد خصصت للمتحف مكتبة صغيرة تضم عدداً لا يستهان به من المخطوطات النادرة والكتب العلمية المتخصصة، كنوع من اعادة شيء من عبق ماضي هذا المكان الذي كان يضجّ بالعلماء والاطباء والمرضى وطالبي الشفاء… وسبق ان اصطفت على رفوف مكتبته شتى انواع الكتب الطبية والعلمية والفلكية والرياضية… مادة غنية دسمة لكل طالب علم ودارس مهنة ومرجع للاطباء الاساتذة وملتقى لمن اراد الاستزادة والاطلاع من المرضى والمقيمين والمراجعين الزائرين.
ويبقى بيمارستان نور الدين شاهداً حاضراً ابداً على نبوغ العرب والمسلمين في علوم شتى ولقرون عديدة، امضوا خلالها جلّ وقتهم وجهدهم لخدمة الانسانية جمعاء، وما زالت آثارهم واكتشافاتهم تدرس في كثير من الجامعات، ويُستفاد من تطبيقاتها في شتى المجالات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.