اربعون عاما من المشاهدة المجانية لمباريات كرة القدم والبطولات الرياضية عموما، عاشها الجمهور في البلاد العربية. وتأقلم على المتابعة وأدمن مشاهدة المسابقات. حتى بات فراقها بالنسبة اليه أمراً مراً. ولكن الأشهر الاخيرة من القرن العشرين حملت الى هذا الجمهور رياحاً سيئة. جماهير الكرة المصرية والسعودية - وكلاهما يمثل الغالبية في المنطقة العربية وفي افريقيا واسيا - تعرضت لصدمة عنيفة في بطولة القارات لكرة القدم في المكسيك خلال تموز يوليو الماضي. شركة راديو وتلفزيون العرب - ART - اشترت الحقوق الحصرية لبث مباريات البطولة العالمية في المنطقة. ورفضت كل عروض الجهات المعنية وضغوطها واغراءاتها لاذاعة المباريات، وبرر مسؤولو الشركة موقفهم هذا بالسعي الى الحصول على عدد اكبر من المشتركين في قنوات شركتهم من الدولتين الكبيرتين. وإزاء إصرار الشركة على موقفها لم يجد عشاق الكرة في مصر حلاً سوى الاندفاع الى المقاهي والفنادق لمشاهدة المباريات عبر شاشات كبيرة واجهزة تلفزيون عملاقة، وضاعفت المقاهي من مقاعدها ورفعت اسعار الجلوس الى مبالغ خيالية، وحقق بعضها ارباحاً ضخمة. ومن جانبها اثمرت خطة راديو وتلفزيون العرب فحصلت على عدد هائل من المشتركين بشكل تخطى كل التوقعات . وخرج جمهور الرياضة في مصر ودول اخرى من البطولة حائراً يتساءل، وما هي الخطوة المقبلة في تلك المعركة غير المتكافئة بين عشاق كرة القدم - وهم غالباً من الطبقة العاملة غير القادرة على مواجهة الاعباء المالية الضخمة للتشفير - وامبراطوريات شركات التلفزيون العملاقة التي قررت طي صفحة المشاهدة المجانية؟ التشفير بات حقيقة واقعة في الولاياتالمتحدة في بداية السبعينات، وهو الامر الذي حال دون مشاهدة الاميركيين مسابقاتهم المفضلة في كرة القدم الاميركية AMERICAN FOOTBALL - وهي غير كرة القدم التي يمارسها العرب - والبيسبول وكرة السلة وهوكي الجليد. ولكن المشروع الاميركي نجح نجاحاً باهرا في انتشار توزيع الكابل في المنازل، وارتفع سعر بث المباريات تدريجاً حتى وصلت الارقام المدفوعة للجهات المنظمة للبطولات الاربع للمحترفين في الولاياتالمتحدة الى حاجز المليار دولار سنويا، والعجيب ان انتشار الكابل وارتفاع سعر الاشتراك لم يقللا مطلقاً من متابعة الجمهور الاميركي للمباريات في الملاعب المختلفة. ومن الولاياتالمتحدة الى اوروبا انتقلت تلك الظاهرة الحديثة، مثل معظم الظواهر العلمية والصناعية والاقتصادية في القرنين الماضيين، وكانت البداية في انكلترا. ثم انتشرت في كل الدول الغربية. التشفير علمياً يعني بث الاشارة الخاصة بالحدث عبر الاقمار الاصطناعية لتصل الى الاماكن المخصصة لها على ظهر الكرة الأرضية. ولكن تلك الاشارة لا يمكن والتقاطها عن طريق اجهزة التلفزيون العادية ولا عن طريق الاطباق الكبيرة أو الهوائيات، ويلزم وجود جهاز لفك شفرة تلك الاشارة - ديكودر - لالتقاطها. ومع مزيد من التقدم دخل نظام المشاهدة الخاصة لأحداث فردية باستخدام بطاقات ممغنطة لها سعر خاص، ويتم تجهيزها دورياً لتباع وهي مخصصة لفك شفرة الارسال في المباريات او الحدث. وتوضع تلك البطاقات ايضا في جهاز الديكودر. وأطلق على النظام الاخير وهو الأحدث عبارة "ادفع لتشاهد" PAY PER VIEW وتلك النظم قادمة بسرعة الصاروخ الى العالم العربي. قانون "العرض والطلب" هو صاحب الكلمة العليا في السوق العالمية. وكشفته أحداث تشفير بطولة القارات لكرة القدم الاخيرة بين مصر والسعودية، وأكد النجاح المبدئي لتلك الظاهرة في العالم العربي. ويؤكد المهندس اسامة الشيخ مدير عام الشركة الاعلامية في القاهرة ان مبيعات اجهزة الديكودر وعدد المشاركين في قناة الرياضة في مصر خلال شهر واحد زاد عشرة اضعاف على المشاركين في اربع سنوات. وهو ما يعكس نجاح سياسة الشركة التي رفضت الحصول على مبلغ ضخم من التلفزيون المصري لبث المباريات على الهواء او مسجلة بعد نهايتها مباشرة. ورغم الحملة التي تعرض لها اسلوب "راديو وتلفزيون العرب" في الصحافة المصرية بسبب رفضه بث المباريات على الشاشة المحلية، فإنه حقق دعاية ضخمة، وبات معروفاً لدى رجل الشارع وهواة الرياضة. ووصل مشتركو قناة الرياضة ART في مصر الى العدد المستهدف لعام 2001. ويرى مسؤولو هذه القناة انهم حققوا الجزء الاول من خطتهم بالتشفير وجلب عدد ضخم من المشتركين. وبقي الجزء الثاني وهو الاصعب في العام المقبل للاحتفاظ بهؤلاء المشتركين لموسم آخر او لمواسم جديدة. وسعياً وراء تحقيق الهدف الثاني تبادر شركة "راديو وتلفزيون العرب" لشراء الأحداث الرياضية الكبيرة التي تهم المشاهد العربي اولا. ويبذل مسؤولوها جهوداً ضخمة في مواجهة المحطات العربية الاخرى - وعلى رأسها اوربيت واتحاد الاذاعات العربية لشراء الحقوق الحصرية للبث في المنطقة العربية لضمان استقطاب المشتركين. وستكون نهائيات كأس الامم الافريقية المقبلة المقامة في نيجيريا، غانا مطلع العام 2000 مسرحاً للصدام الأول خصوصا ان اربع دول عربية تشارك في النهائيات - مصر والمغرب وتونس والجزائر - واعتاد الجمهور في البلدان الاربعة مشاهدة نهائيات الأمم الافريقية بانتظام منذ 30 عاماً. صراع تلك القنوات لبث المباريات المشفرة دفع مالكي حقوق البيع الى المبالغة في تحديد الاسعار مع زيادات غير منطقية للبث الحصري في مناطق مختلفة من العالم. فشركة ABC الاميركية مالكة المحطة الرياضية ESPN التي دفعت مليون دولار عام 1970 الى اللجنة المنظمة للدوري الاميركي لرابطة اللاعبين المحترفين لكرة السلة NBA مقابل البث المشفر بالكابل الى المنازل، عجزت بمفردها عن الوفاء بالتزامها السنوي لمشاهديها في المواسم من 1999 الى 2003 بعد ان ارتفع سعر الشراء الى مليار دولار، أي أن السعر ارتفع الف مرة في 30 عاماً فقط. وهو ارتفاع مجنون لا يتوازى مع ارتفاع سعر أي سلعة اقتصادية في كل دول العالم، واضطرت شبكة ABN للتعاون مع شبكة CNN لشراء الحقوق معاً بنسبة 7 الى 3 مع تقسيم الارباح بينهما بالنسبة نفسها وكسبت CNN حق بث المباريات التي تلقى اقبالاً من جماهير الرياضة في العالم. ومباريات دوري السلة الاميركي يتابعها اكثر من 600 مليون مشاهد في 199 دولة سنويا، وتبثها 104 محطات فضائية بأربعين لغة ويشاهدها الجمهور العربي في العراق والجزائر والاردن والكويت والبحرين وليبيا والمغرب ولبنان وعمان وقطر والسعودية ومصر والصومال والسودان وسوريا وتونس والامارات. واذا كان التشفير عدواً لجماهير كرة القدم العربية غير القادرة ماليا على أعباء "الديكودر" والاشتراك السنوي في القنوات الخاصة، إذ يحرمها من هوايتها بل من متعتها وتسليتها الوحيدة في الحياة في ضوء الضغوط المتزايدة عليها، فإن عدداً من الخبراء يرى أن التشفير له اضرار وسلبيات ضخمة، وابرزها تقليل جمهور الرياضة وخفض درجة اهتمامه ومتابعته المباريات والمسابقات، وهو ما ينعكس سريعا على الاقبال على مشاهدة المباريات في الملاعب، ويؤدي الى خلو المدرجات من المتفرجين، ويحرم الاندية من الدخول العالية من بيع التذاكر، ويصيب الاندية بضرر شديد في ميزانياتها يجعلها عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها او عن سداد مخصصات لاعبيها وينتهي الامر بانخفاض المستوى وهروب اللاعبين الاكفاء، وتتفاقم الامور بمزيد من الانخفاض في اقبال الجماهير وخسائر مالية فادحة. ويتخذ اصحاب هذا الرأي من تلك النظرية - غير المؤكدة - سبباً للمطالبة بمحاربة التشفير والتصدي له حتى لا يقضي على الرياضة. ولكن عدداً كبيرا من خبراء الرياضة المعاصرين لديهم رأي مخالف مئة في المئة ويؤكدون ان التشفير هو الحل الامثل لإعادة المدرجات المكتظة الى الملاعب المصرية والعربية بعد ان ادى البث المباشر للمباريات الى هروب الجمهور الى المنازل والاستمتاع بمشاهدة مجانية ناعمة. ويقول المهندس عدلي القيعي عضو اتحاد كرة القدم المصري مدير عام النادي الاهلي السابق إن مشاهدي مباراة الاهلي والزمالك - قمة الكرة المصرية - في الخمسينات وبداية الستينات كان 40 الف متفرج - هي كل سعة الملعب الصغير الخاص بالناديين - وعندما دخل التلفزيون واعتاد الجمهور مشاهدة المباريات على الهواء قل عدد المتفرجين في كل المباريات واصبحت نصف مدرجات ملعب القاهرة الدولي وربما اكثر خالية في مباراة الاهلي والزمالك باستمرار. ويزيد من صعوبة الموقف ان مباريات ناديي الاهلي والزمالك في الدوري المصري امام الاندية الاخرى تقام في مواجهة مدرجات خالية تماما، ووصل عدد الحاضرين احياناً الى الفي متفرج فقط رغم ان سعة الملعب تتجاوز 100 الف متفرج. وعندما أصر الاهلي على عدم اذاعة مبارياته الا بزيادة مخصصاته المالية ارتفع عدد الحاضرين في المباريات غير المذاعة الى اكثر من 80 الف متفرج. ولا يتأثر النادي الذي تذاع مباراته فقط بالتدني الرهيب في عدد المتفرجين او في دخل المباراة ولكن كل المباريات الاخرى في المدن الصغيرة تتأثر سلبا لان الجماهير تفضل البقاء في منازلها لمشاهدة المباراة المذاعة. ويرى القيعي ان نظام التشفير هو الحل المثالي لإعادة الجماهير الى المدرجات وحثها على مغادرة منازلها والتوجه الى الملاعب وزيادة الايرادات لأن الجمهور العاشق للكرة لن يجد امامه حلا سوى الذهاب الى الملعب، وهو أمر اقل تكلفة على مدار العام من الاشتراك في القنوات الفضائية. وسيكون للمباريات المشفرة نصيب من الجماهير، ولكن النصيب الاكبر سيكون لجماهير الملاعب. وهو ما يفسر الأعداد الهائلة من الجماهير الاميركية التي تتابع المباريات في الملاعب. الدوري المصري لكرة القدم اقدم مسابقات الدوري في الشرق الاوسط وافريقيا - انطلق العام 1948 - اصبح قريبا من حدود التشفير ليصبح اول مسابقة عربية تدخل هذا الاطار. شركة "ايجيبشيان فوتبول" الراعية لكل اندية الدوري المصري - عدا الاهلي - تقدمت بطلب الى اتحاد كرة القدم للحصول على حقوق البث المشفر للمباريات ووافق الاتحاد من دون تردد لأنه يحصل على ارباح خيالية تتجاوز 10 ملايين جنيه من هذا المشروع، ويصل دخل النادي الذي يمتلك حق اذاعة المباراة الى ثلاثة ملايين جنيه، ومن الممكن ان يصل الى عشرة ملايين في حال المباريات المهمة مثل الاهلي ضد الزمالك، وهو ما يضمن انتعاشا هائلا للكرة المصرية. ويؤكد المهندس محمد ايهاب رئيس الشركة ان المشروع الجديد لا يمثل عبئا على المشاهد العادي ولا تزيد التكاليف لشراء الديكودر والهوائي على 300 جنيه بينما يصل سعر البطاقة الممغنطة لمشاهدة المباراة الواحدة الى جنيه ونصف او جنيهين فقط. وتكفي لان يشاهد كل افراد الاسرة - بمتوسط عشرة افراد - المباراة على شاشة التلفزيون ولا تقل سعر تذكرة دخول الملعب في مصر الان عن خمسة جنيهات ما يشير الى التوفير الكبير في المشروع. وتعتزم الشركة ايضا توزيع الديكودر بالتقسيط لضمان تطبيق المشروع في اقرب وقت، ولكن هذه الطموحات اصطدمت سريعا بسلطة التلفزيون المصري الذي يذيع المباريات منذ العام 1960 مجانا، ويضمن دخلاً قياسيا من الاعلانات خلالها، وسيؤدي مشروع التشفير الى فقدانه 20 في المئة من دخل الاعلانات السنوي وهي خسارة فادحة لا يقوى التلفزيون المصري على مواجهتها. والمشكلة تزداد تفاقماً بظهور القناة الرياضية المصرية الجديدة - النيل- وهي تذيع برامجها المشفرة على ديكودر خاص، وتنقل ايضا مباريات أجنبية وتسعى للحصول على عدد من المشاركين للوفاء بالتزاماتها، ولا يمكنها ايضاً مقاومة مشروع تشفير الدوري المصري. ولكن الرؤية الشاملة لاقتصاديات السوق العالمية والمحلية مع تطبيق نظرية العرض والطلب تؤكد أن التشفير قادم لا محالة الى الدوري المصري. والبقية تأتي