قبل ان تصل الى ضريح "الشيخ الاكبر" محي الدين بن عربي ومسجده، في صالحية دمشق، لا بد ان تجتاز مسالك صعبة، مكتظة بالعابرين، صنعتها عربات الباعة، والبضائع المكدسة امام المتاجر الضيقة، فسوق "الجمعة" او "سوق الشيخ محي الدين" كما يحلو لكثيرين ان يسمّوه، واحد من اشهر اسواق دمشق اليوم، واكثرها ازدحاماً. وفي الطريق الى ضريح "حكيم مرسيّة" تقرأ اسم "الشيخ الاكبر" كعلامة تجارية، من قبيل "مطبخ وحلويات الشيخ الاكبر"، "فروج الشيخ الاكبر"، "مطعم الشيخ الاكبر" …الخ وكأن قطب الصوفية الكبير لم يكن زاهداً في الدنيا ومتعها! على مقربة من مدخل المسجد تلمح نساء من مختلف الاعمار يوزعن الخبز والطعام على بعض الفقراء المنتشرين قرب الضريح، وهناك نساء اخريات يدفعن ثمن مقدار معين من الخبز، لأحد الافران المجاورة حيث يقوم بعض اهل الخير بإيصاله لأسر "مستورة". وكل ذلك وفاءً لنذور، او صدقات، يأملن ان تقبل "بكرامة الشيخ محي الدين". اذ على الرغم من وجود اضرحة ومقامات للكثير من الصحابة، والاولياء المشهورين، في دمشق وما حولها، الا ان العامة يقصدون بالزيارة والتبرّك، ضريحين اثنين اكثر من سواهما: ضريح النبي يحيى يوحنا المعمدان في الجامع الاموي، وضريح الشيخ محي الدين ابن عربي في الصالحية. الرحلة الى الشرق ولد ابو بكر محمد بن عربي الحاتمي الطائي، في مرسيّة جنوباسبانيا العام 560 للهجرة الموافق العام 1165 للميلاد، لقب بالشيخ الاكبر، وكني بمحي الدين، نشأ في اشبيلية، وتلقى علومه الاولى فيها، حيث وفّرت له اسرته الميسورة حياة مريحة وهنيئة، راح ابن عربي وهو بعد فتى متوقد الذكاء يطوف بين مختلف مدن الاندلس ويقابل العلماء أنى عثر عليهم، وحدث ان التقى إبن رشد في قرطبة خلال احدى رحلاته تلك، وقد وثق ابن عربي وقائع ذلك اللقاء في مؤلفه الضخم "الفتوحات المكية" كما ذكر شيئاً عن جنازة ابن رشد. وقضى ابن عربي حياته حتى عام 595 ه 1198م بين مدن الاندلس وشمال افريقيا في مقابلة المتعبدين وكان احياناً يعقد المناظرات مع الجماعات المختلفة، كالمعتزلة، وقد اتسع نطاق سفره حتى بلغ تونس، كما زار المريّة ايضاً، وكانت مركزاً لابن مسرة وهناك على حدّ قول آسين بالاثيوس: "بدأ ابن عربي رسمياً دراسة التصوّف". في العام 598 ه 1198م هاجر ابن عربي الى الشرق وبدأت فترة جديدة في حياته، فحج الى مكة، حيث "أُمر" كما قال بالشروع في تأليف الفتوحات المكية، وبعدها طاف في مدن الشرق العربي كالقاهرة والموصل وبغداد وحلب، ودخل في مجادلات مع الفقهاء عرّضت حياته للخطر. واخيراً قرر ابن عربي في العام 609ه 1223م ان يستقر في صالحية دمشق، بعد ان طبقت شهرته العالم الاسلامي قاطبة، وسط حي المدارس، الذي أسسه في القرن السادس الهجري بنو قدامة، المقادسة الذين أتوا الى دمشق هرباً من الصليبيين، حيث اصبح الحي في العهدين الايوبي والمملوكي، مدينة للعلم واكبر تجمع اكاديمي في القرون الوسطى، لقد اراد ابن عربي بعد حياة تجاذبتها الاسفار ان يقضي سنواته الاخيرة بهدوء وسلام، وفي العمل المتواصل ايضاً، حيث اتم "الفتوحات المكية" الذي يحتوي على اليوميات الروحية لثلاثين سنة، هي اخصب الفترات في حياته، وتوفي في دمشق سنة 638ه 1240م، فووري ثرى الصالحية عند سفح قاسيون شمال دمشق، في تربة ابن الزكي، تاركاً وراءه عدداً هائلاً من المؤلفات يتجاوز الاربعمئة، تبدأ من الرسائل الصغيرة، والخطابات المكونة من بضع صفحات الى "الفتوحات المكية" الضخم ذي المجلدات العشرة، ومن المقالات الفلسفية المجردة الى الاشعار الصوفية. قبل ان يبني السلطان سليم العثماني هذا المسجد على ضريح "الشيخ الاكبر" كان المكان مهملاً، لا بل يقول بعضهم انه كان مكبّاً للنفايات، اما هذا الاحترام عند العامة للمكان فلم ينشأ الا بعد ان امر السلطان العثماني ببنائه، وتعهده بالرعاية والاهتمام وهو ماقام به من جاؤوا من بعده من سلاطين وولاة. تذكر كتب التاريخ ان مصمم المسجد هو المهندس شهاب الدين بن العطار، وساعده في استملاك الارض والاشراف على البناء القاضي ولي الدين بن الفرفور، وقد وضعت الخطوط الاساسية للبناء في 26 رمضان سنة 923 للهجرة، وبوشر بالبناء، بعد ان اشتريت الارض والبيوت المجاورة، وهدمت كما هدمت المقبرة التي كانت هناك لحفر اساسات القبّة. زيارة السلطان سليم وفي آخر ذي القعدة من العام نفسه، ارتفعت اعمدة الجامع التي نقلت من دار السعادة المملوكي، ونصب المنبر في 24 محرم من سنة 924، وصليت في الجامع اول صلاة للجمعة وخطب ابن الفرفور بحضور السلطان سليم الذي حضر الى دمشق لهذه المناسبة، اي ان البناء لم يستغرق اكثر من اربعة أشهر. وبنيت مقابل الجامع تكية للفقراء ثم وسع المسجد من الشمال بعد إزالة مسجد كان هناك وعين الملا عثمان الحنفي التركي للخطابة، والمؤرخ ابن طولون للإمامة، وأحمد الأغواتي لمشيخة التكية، كما عين ثلاثون قارئاً يقرأون كل يوم ختمة، وغدا الجامع من أجمل مساجد دمشق، كما يقول إمامه ابن طولون، وقد نقش عليه بيت من الشعر يؤرخ تاريخ بناءه، وهو: سليم بنى لله خيراً ومسجداً وقد تم في تاريخه خير جامع أما التكية السليمية، التي لا يزال بناؤها قائماً إلى اليوم مقابل المسجد، فكانت تشتمل على بيت للفقراء من الرجال وآخر للنساء، وثلاثة حواصل للمؤن، ومطبخ كبير، وفيه فرن يخبز قنطارين في اليوم ويطبخ المطبخ ستين رطلاً 150 كلغ من اللحم، وفي يوم الخميس يطبخون الرز المفلفل مع اللحم، ومعه رز بعسل، حسبما يذكر المؤرخ الدمشقي ابن طولون الصالحي، وقد احترقت هذه التكية في عهد السلطان سليمان القانوني ابن السلطان سليم، وقام بتجديدها سنة 960 للهجرة، كما هو مثبت في الرخامة الخضراء المعلقة حتى اليوم، أعلى بابها. وفي هذا العام 1998 عادت التكية السليمية بعد توقف استمر 22 عاماً، بجهود بعض المتطوعين، وبأموال المتبرعين، لتقدم وجبة اسبوعية من حساء اللحم والقمح صباح كل خميس، حيث يطبخ ما مقداره 125 كلغ من اللحم مع نحو 125 كلغ من القمح في كل وجبة. وهو ما يكفي نحو 4000 شخص، في القدور ذاتها، التي ورثت من العهود السابقة، وقد حرص المشرفون على الأمر ان يستعيدوا الطباخ القديم أبو علي بصلة، الذي كان يقوم بالمهمة ذاتها منذ مطلع الخمسينات. أي أن التكية ما زالت تعمل منذ خمسة قرون من دون توقف يذكر. وعلى مقربة من المكان لا تزال ناعورة المسجد قائمة بعد أن توقفت عن العمل نهائياً عام 1908 عندما بدأت مصلحة المياه العثمانية بضخ مياه عين الفيجة إلى المنطقة بعدما اضطلعت الناعورة بهذه المهمة نحو أربعة قرون كانت ترفع فيها المياه من نهر يزيد إلى المسجد والتكية من دون توقف. ولكن لماذا اهتم سلاطين بني عثمان بابن عربي، وأحاطوه بهذا الاهتمام؟ يعتقد بعض الباحثين ان السبب في ذلك يعود إلى اهتمام السلاطين العثمانيين بالتصوف، فمعظمهم كان من أتباع الطرق الصوفية التي ازدهرت في عهدهم، وآخرهم السلطان عبدالحميد الذي كان من اتباع الطريقة الرفاعية، إضافة إلى رغبتهم في اعطاء بعد ثيوقراطي لحكمهم. أما سيرة "الشيخ الأكبر" فتخبرنا انه طاف في الاناضول خلال رحلته المشرقية، وفي مدينة قونية التقى صدر الدين القونوي، تلميذه المشهور الذي أصبح أعظم الشراح والدعاة لآثاره في الشرق. وربما من هنا أتى اهتمام السلطان سليم بضريحه، نظراً لمكانة القونوي لدى الأتراك. وقد لاحظ المؤرخون منذ القدم اهتمام المسلمين غير العرب به كما ذكر المؤرخ ابن طولون في كتابه "القلائد الجوهرية في تاريخ الصالحية"، إذ يقول: "واختلف الناس قديماً وحديثاً في ابن عربي هذا، ففرقة تعتقد ولايته وتقصده بالزيارة وتعده من الأقطاب وهم غالب الأعاجم الفرس وجميع الأروام الأتراك وفرقة تعتقد ضلاله وتعده مبتدعاً اتحادياً كافراً وهم غالب فقهاء ابناء العرب. وفرقة شكّت في أمره، وفرقة سكتت عنه وجعلت أمره إلى الله". مدح واتهام لقد اختلفت الآراء حول ابن عربي بين مغال في مدحه ومتهم له. وقد قال عنه ابن كثير في كتابه "البداية والنهاية": "صنف الفتوحات المكية وفيها ما يعقل وما لا يعقل، وما ينكر وما لا ينكر، وما يعرف وما لا يعرف، وله كتاب اسمه "فصوص الحكم"، فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح". ولا شك في أن أكثر كتب محي الدين بن عربي تداولاً بين القراء هو "فصوص الحكم" الذي يعتبر بمثابة وصيته الروحية، حسب الباحث الإيراني سيد حسين نصر، فالعنوان يرمز إلى محتوى الكتاب، كل فص يحتوي على جوهرة ثمينة ترمز إلى جانب من الحكمة الالهية. ويبقى كتاب "الفتوحات المكية" أكبر آثار ابن عربي وأوسعها، فهو يحتوي على 560 باباً، تبحث في مبادئ الالهيات والعلوم المقدسة على اختلافها، كما تبحث في تجربة محيي الدين الروحية. ويحتوي "الفتوحات" اضافة إلى علوم التصوف، على كثير من سير المتصوفين المتقدمين وأقوالهم والعقائد الكونية المستمدة من أصول هرمسية وأفلاطونية محدثة. لقد أثر ابن عربي في كل العقائد الصوفية التي أتت بعده، فعلى رغم ان بعض المدارس اللاحقة لم توافق على بعض نظرياته، انتشرت آثاره في أرجاء العالم الإسلامي، وبدأت مؤلفاته النثرية تدرس، وأشعاره تنشد في الزوايا على اختلاف طرقها، وما زالت تدرس وتنشد اليوم، كما كانت منذ سبعة قرون. إن انتشار عقائد ابن عربي في الشرق الإسلامي، غير العربي، يرجع إلى صدر الدين القونوي التركي، وهو أحد أقطاب الصوفية الكبار، الذي شرح آثار استاذه، وعن طريقه أيضاً وصل تأثير ابن عربي إلى جلال الدين الرومي كبير المتصوفين الفرس. كما ظهر له مريدون كثر على مر العصور قاموا بشرح آثاره في الهند وتركيا، ولعل اشهر مريديه في سورية الشيخ عبدالغني النابلسي، الذي يقبع ضريحه ومسجده بالقرب من شيخه، وفي مصر الشيخ الشعراني الذي بسط مؤلفات عدة لتوضيح مضمون عقائد "الشيخ الاكبر". وفي المغرب الشيخ محمود التادلي، وفي الجزائر الشيخ العلوي. حكايات غريبة! يتواتر العامة قصصاً غريبة عن ابن عربي وقدراته، تتجاوز حدود العقل والمنطق، ولعل اشهرها قصة لقائه ابن الفارض في بغداد، ثم في دمشق، حيث ظهر ابن عربي لابن الفارض في اربعين شكلاً، او قصة مزعومة عن توقعه أن السلطان سليم العثماني هو الذي سيبني مسجداً على قبره، وهي قوله: "عندما تدخل السين سليم بالشين شام سيظهر سر محي الدين". ولعل القصة الاشهر هنا هي قصة قتله، عندما قال للناس: "معبودكم تحت قدمي"، فهاجوا عليه وقتلوه قبل ان يتبين احدهم ان في المكان الذي وقف فيه الشيخ ديناراً من الذهب. علماً ان ابن عربي مات على فراشه ميتة طبيعية، وكانت جنازته حسنة كما يقول المؤرخ ابن كثير. قرب قبر الشيخ الاكبر يشاهد الزائر قبر ولديه سعد الدين وعماد الدين، وقبر الأمير عبدالقادر الجزائري، الذي قضى بقية عمره بعد ان نفاه نابليون الثالث في اعداد آثار ابن عربي للنشر، فقد كان من اتباع طريقته، ومن اشد المتحمسين لجمع آثاره وطبعها. وقد نقل رفات الأمير الى الجزائر بعد استقلالها. لقد احتفظ جامع الشيخ محي الدين، بالكثير من معالمه القديمة، كالأعمدة، والمآذن، والجدران المزخرفة والمزينة على الطريقة العثمانية القديمة، الا ان الزلازل والكوارث الطبيعية اصابت اجزاء منه بالتلف كان يُعاد بناؤها من جديد. ولعل آخر تجديد في هذا المسجد كان في عام 1947 عندما تم توسيع الصحن، اذ يلحظ الزائر ان نصف المسجد مغرق في قدمه، ونصفه الآخر حديث نسبياً، ولعل الاعمدة خير ما يبرهن على هذا الكلام فالخلفية منها ما زالت على قدمها ويظهر ذلك من نوعية الصخر والتيجان الكورنثية، على العكس من الاعمدة الامامية ذات الحجارة الحديثة والتيجان المصنوعة من الجبس. اما الواجهة والمئذنة فقد بقيتا على قدمهما، وروعي عند ترميمهما بعد الزلازل الحفاظ على شكلهما كما بني للمرة الاولى. جامع الشيخ محي الدين اليوم واحد من اشهر جوامع دمشق تقام فيه الحضرات والحلقات يومي الاربعاء والجمعة من كل اسبوع وتنذر النذور، حتى انه صار يشبه الى حد كبير مسجد الحسين في القاهرة