من سوء حظ العاهل الأردني الملك حسين أن معظم المشكلات الطارئة تنشب في غيابه، فيضطر إلى العودة والتدخل شخصياً لمعالجتها. وغالباً يتطلب مثل تلك المشكلات تدخل الملك، بما يملكه من حضور وشعبية، ومن صلاحيات دستورية لا يملكها ولي عهده، خصوصاً لقضايا من قبيل إقالة الحكومة وتعيين حكومة جديدة. فبعد الصدمة القاسية التي تلقاها المواطنون الأردنيون باعلان مرض الملك بسرطان الغدد اللمفاوية، وهو ما غطى على أنباء تدهور الأوضاع الاقتصادية والجدل في شأن قانون الصحافة، جاءت حادثة مياه الشرب الملوثة لتشكل أزمة أردنية جديدة لأنها تصيب كل مواطن وتهدد صحته. ووقعت الأزمة بينما كان الملك حسين يتعافى من أول جرعة بالعلاج الكيماوي بشرت بزوال الخوف على صحته. وزادت الصدمة الثانية التي تلقاها الملك أكثر من أي مواطن أردني تصميمه على ضرورة تغيير طاقم الإدارة الأردنية وفي مقدمها الحكومة، التي لولا مرضه المفاجئ لكان أقالها الشهر الماضي، حسبما ذكر سياسي أردني رفيع. وزار رئيس الوزراء الدكتور عبدالسلام المجالي العاهل الأردني بعد تعافيه من جولة العلاج الأولى في مركز مايو كلينيك الطبي في الولاياتالمتحدة، ثم عاد إلى عمّان بعد أن ألغى زيارة كان ينوي القيام بها إلى كولومبيا. ولدى وصوله إلى عمّان كانت وسائل الاعلام الأردنية تذيع رسالة من الملك حسين إلى ولي عهده الأمير حسن التي يطالبه فيها بانزال العقاب الشديد على المتسببين في تلوث مياه الشرب بعد التحقق من الأمر وتحديد المسؤوليات. ووجه الملك لوماً شديداً إلى الحكومة التي قال إن عذرها كان أقبح من الذنب، بترددها في معاقبة موظفي السيطرة الجوية عندما تركوا مكان عملهم لأداء الصلاة جماعة فكادوا أن يتسببوا في كارثة جوية فوق العاصمة عمّان، وكذلك موظفي محطة العقبة الحرارية الذين كاد إهمالهم أن يؤدي إلى انفجار المحطة. وبررت الحكومة موقفها بأنها تخشى لجوء الموظفين إلى القضاء. وأوحت رسالة الملك إلى ولي عهده أن الحكومة قد انتهت وأن رحيلها مرهون بعودة الملك حسين إلى عمّان نهاية الجاري بعد ان يتعافى من آثار الجرعة الثانية من العلاج الكيماوي. ويحتاج إلى أسبوع على الأقل لمراقبة نمو صفائح الدم واستقرار أحواله الصحية. ويحصر الدستور الأردني بالملك وحده حق تشكيل الحكومات وإقالتها وقبول استقالتها، كذلك تعيين الوزراء وإقالتهم وقبول استقالاتهم. وفي اليوم التالي لنشر مضمون رسالة الملك إلى الأمير حسن قدم الدكتور منذر حدادين وزير المياه والري استقالته من الحكومة متذرعاً ب "ظروف الخدمة الصعبة" التي لم يشأ لها ان تؤثر سلباً في انجازات الوزارة. وقوبلت الاستقالة بالارتياح مع أن الرأي العام الأردني أدرك أنها جزء من رسالة الملك بمعنى أنها إقالة للوزير وليست استقالة. وارتكب رئيس الوزراء هفوة دستورية عندما أعلن قبول الاستقالة في الحال، إذ أن الدستور لا يخول رئيس الوزراء قبولها أو رفضها. وتزامنت الاستقالة مع اعتراف وزارة المياه والري رسمياً بتلوث مياه الشرب التي تزود بها العاصمة الأردنية من بحيرة طبريا، وعدم كفاية محطة التنقية بسبب حجم التلوث بالمواد العضوية والروائح المصاحبة للمياه. كما ترافقت مع توسع وسائل الاعلام الأردنية في نشر تقارير شركة استشارية أميركية معتمدة في هذا المجال. وبادرت وزارة التموين إلى التدخل في السوق لتأمين احتياجاتها من المياه المعدنية، مثلما بادرت السلطات المختصة لضبط أسعار صهاريج المياه المعبأة من الينابيع المجاورة للعاصمة بعد ان تضاعفت أسعارها مرات عدة. وأعطت إقالة الوزير ثقة بمجلس النواب الذي وقف بحزم في وجه الوزير وطالب بإقالته. وجاءت أزمة المياه بعد أزمتي الاقتصاد والحريات العامة لتذكر بمرحلة ما قبل استئناف الديموقراطية البرلمانية في 1989، وهي مرحلة كان يرأس حكومتها زيد الرفاعي رئيس مجلس الأعيان حالياً والذي يروج أنصاره بقرب عودته خلفاً لرئيس الحكومة الحالي، وهي عودة تبدو مستبعدة في ظل الأزمات الراهنة. وكان الدكتور حدادين وزير المياه المستقيل أحد رجال تلك المرحلة، إذ كان يشغل منصب الأمين العام لسلطة وادي الأردن، واقيل من منصبه عام 1987 بسبب أزمة في مياه الري في الأغوار، وبعد أن اعتدى عليه أحد المزارعين واصابه برصاصات عدة استقرت في جسده. واختفى حدادين منذ ذلك الحين عن الحياة العامة لكنه عاد عضواً في الوفد الأردني المفاوض مع إسرائيل، وتولى ملف المياه، كما عمل استشارياً في قطاع المياه قبل أن يعود وزيراً في الحكومة الحالية العام الماضي. ويطرح الوضع الراهن على الأحزاب والنخب والفاعليات السياسية الأردنية السؤال عن الخطوة التالية التي من المرجح ان تنطوي على تغييرات واسعة. وتأتي هذه الخطوة ضمن ظروف ومعطيات أردنية معقدة من أبرز ملامحها: مرض الملك وضرورة خضوعه للعلاج واحتمالات المستقبل بما فيها مرحلة خلافته. الظروف الاقتصادية المعقدة وضرورة مواجهة استحقاقاتها بما فيها انتهاء برنامج التصحيح الاقتصادي بحلول نهاية العام والبدء بسداد أقساط الديون. وفوق ذلك مظاهر الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار. الوضع الإداري المترهل لجهاز الدولة المدني وضرورة اجراء جراحة مستعجلة له من أجل التعامل بكفاءة مع متطلبات التنشيط الاقتصادي من جذب للاستثمار والسياحة. التعامل مع تراجع عملية السلام وآثارها المباشرة وغير المباشرة على الأردن، خصوصاً ما يتعلق بالبعد الفلسطيني سواء بالنسبة إلى الاحباطات الداخلية أو التحسب لموجات جديدة من الهجرة. ضرورة التعامل بجدية مع البعد العربي وإعادة ما أفسدته حرب الخليج الثانية ومسيرة السلام بين الأردن وعدد من الدول العربية، وإعادة الدور الأردني الطبيعي في المنظومة العربية. ويعتبر شخص رئيس الوزراء الأردني المقبل عاملاً مهماً ضمن هذه المعطيات، خصوصاً ان تداعيات المرحلة الحالية لا تدل على احتمال تكليف شخصية حديثة عهد بالسياسة الأردنية، فالمطلوب حكومة تنال ثقة المواطنين قبل البرلمان وتسعى الى تهدئة الأوضاع المتصاعدة سياسياً واقتصادياً، قبل ان تبدأ معالجة الأزمات التي يبدو علاجها مستحيلاً في الوقت الراهن. يقول سياسي أردني قريب من القصر الملكي ان مسؤولية ما يجري يجب أن يتحملها الجميع في الوقت الراهن، ولم يعد مبرراً لأي شخصية أو حزب سياسي ان يعزل نفسه، إذ أن الأردن يواجه خطراً حقيقياً. ويتابع: لسنا في مجال تحميل المسؤوليات لما وقع في السابق، بل علينا التعاون جميعاً لتجاوز الأزمة. ويضيف: المعارضة التقليدية وفي مقدمها الاخوان المسلمون مدعوة الى المشاركة في المرحلة المقبلة. واعتبر السياسي الأردني "ان اولوية السلام أعادت الى الواجهة أشخاصاً بعد 1993 قبلنا بهم من أجل الترويج للسلام بصرف النظر عن كفاءاتهم ومصداقيتهم وقدراتهم على تحمل المسؤولية. وحتى المعاهدة ومآخذنا عليها يجب أن نتجاوزها لنلتفت الى مشكلاتنا الداخلية، فإسرائيل طرف في كل ما يجري، لكنها ليست كل الأطراف". وأضاف: "لقد اثبتت عمليات الاصلاح السياسي لتهدئة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية نجاحها في العالم وفي الأردن تحديداً، بدليل ما جرى في 1989 وحتى 1993 حين جاءت حكومة شبيهة بالحكومة الحالية برئاسة الدكتور المجالي نفسه". وخلص الى "ان اصعب شيء في الوقت الراهن الاحساس بعدم وجود حكومة، خصوصاً أن الملك حسين خارج الوطن. ولولا ديناميكية ولي العهد وتعامله المباشر مع القضايا اليومية للمواطنين لوقعنا في أزمة فعلية". ويتداول السياسيون والمراقبون في الأردن في احتمالات تشكيل الحكومة المقبلة ورئيسها وما قد يتبع تشكيلها من تغييرات. وارتفعت بصورة لافتة أسهم الأمير زيد بن شاكر الذي تولى رئاسة الحكومة ثلاث مرات جاء في كل منها لتهدئة أزمة في البورصة السياسية الأردنية. غير أن المأخذ الوحيد على الأمير زيد الأمير لقب وهو ابن عم الملك حسين، لكنه ليس من العائلة المالكة التي يحظر الدستور على ابنائها تولي أي منصب وزاري عدم حماسته للتعامل المباشر مع الاسرائيليين على رغم انه قاد احدى الحكومات التي تعاملت مع اسرائيل. وعلى كل، فإن الأمير زيد بن شاكر أقوى المرشحين لرئاسة الحكومة خلفاً للمجالي، أو لرئاسة الديوان الملكي على الأقل