كارل هاينز فيخنر 53 سنة ألماني حاصل على الدكتوراه في الكيمياء، إضافة إلى شهادة في الاقتصاد، وهو معار من شركة "شل العالمية" للعمل في شركة مصفاة ارامكو السعودية ساسرف في الجبيل. ومنذ ان قدم الى السعودية في تشرين الأول اكتوبر 1993 اعتاد قضاء عطلاته في صحراء الربع الخالي وصحراء النفود، والدهناء والصمان، وباقي اجزاء الجزيرة العربية. قطع أكثر من 100 ألف كيلومتر اثناء رحلاته الصحراوية في السعودية على سيارته ذات الدفع الرباعي، وبسبب عشقه للرحلات البرية جاء الى الجبيل أول مرة من المانيا براً بسيارة من طراز فولكسفاغن. "الوسط" التقته وسألته عن تجاربه واستكشافاته في الصحراء. كيف بدأت علاقتك بالصحراء رغم انك من المانيا، حيث لا وجود للصحراء؟ - علاقتي بالصحراء بدأت منذ 1971، فبعد تخرجي مباشرة من الجامعة، وحصولي على الدكتوراه، لم أعمل لمدة ستة أشهر تقريباً، بل قضيت الوقت في رحلات برية قمت بها مع زوجتي. وقبل هذا درست في الجامعة شيئاً من الجيولوجيا، والآثار والفيزياء، خارج اطار تخصصي الأصلي وهو الكيمياء. واستمر هذا الاهتمام منذ التحقت بشركة "شل" إذ تعرفت على عدد من الصحاري في جنوب افريقيا ونيجيريا والصحراء الليبية والجزائر وأفغانستان واستراليا وأخيراً صحاري السعودية. وأقول دائماً ان الأرض رائعة وممتعة، برية كانت ام بحرية، مما يجعلني أرغب في الاطلاع على أكبر قدر ممكن منها. أثناء رحلاتك في أعماق الصحراء، هل تذهب وحدك؟ وما هي وسائل هذه الرحلات؟ - أشاطر زوجتي حبها الصحراء والرحلات البرية، لذا غالباً ما نذهب معاً، لكننا نذهب أحياناً بصحبة زملاء لهم الهواية ذاتها. في تصوري ان أفضل تجربة او رحلة صحراوية يعيشها المرء، هي عندما يكون وحده ويحلو له التمتع بعزلة المكان وفضائه وهدوئه. وفي الصحراء، اما ان تذهب برفقة أصدقاء حقيقين او لا تصطحب أحداً، لأن الرحلات الصحراوية العميقة والطويلة تفشل إذا كانت العلاقة التي تربط بين الرحالة هشة. استخدم في رحلاتي سيارة ذات دفع رباعي، وبوصلة، وجهاز نظام تحديد المواقع بالأقمار الاصطناعية واللوازم الضرورية للرحلات البرية من خيمة صغيرة وأغذية وماء وحقيبة اسعافات أولية وغير ذلك. الصحراء… ماذا تعني لك؟ - للصحراء معان عدة، أولها التحدي الذي يتعين عليك ان تتغلب عليه، وهذا يعني ان تتقن مهارات التعامل مع الصحراء، وأن تعد لرحلاتك الصحراوية اعداداً جيداً وتخطيطاً سليماً، خصوصاً إذا كانت الى أعماق الصحراء، ثم تنجح في اجتياز ما يعترض رحلاتك من معوقات وتحقق ما تريد من الصحراء. وثانيها، الرغبة في رؤية طبيعة بكر ونقية لم تتعرض للاتلاف بعد، والصحراء من مكونات الطبيعة التي لا تزال بكراً بالقدر الذي يجذبك للاستمتاع بها. الأمر الثالث ان الصحراء جرداء ومكشوفة بطبيعتها، فهي ليست كما في أوروبا، حيث الخضرة تغلف الطبيعة وتغطي معالم الأرض. فهنا تجد طوبوغرافيا الأرض ومعالمها الجيولوجية والمعادن واضحة للعيان، ورائع جداً ان ترى هذه الأشياء بهذه الصورة وتكتشفها. الأمر الرابع المغري في الصحراء البحث عن آثار قرى العصر الحجري، التجمعات السكانية، وقوافل الإبل، مثل درب زبيدة وقرية الفاو. جميع هذه العناصر تسهم في اعطاء الصحراء معنى جديراً بالاكتشاف. في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قام عدد من الرحالة والمستكشفين الغربيين برحلات الى صحاري الجزيرة العربية خصوصاً الربع الخالي. هل لا زالت هذه الصحاري تتمتع بالجاذبية والأهمية نفسها؟ - كان الرحالة الأوائل أكثر انجذاباً الى فضاء الصحراء وعزلتها وهدوئها. كما كانوا مهتمين باكتشافات ذلك الوقت. الآن جميع هذه الصحاري استكشفتها شركة آرامكو السعودية. اذا، ليست المكتشفات ما يجذب الناس الى الصحراء في الوقت الراهن، بل الذهاب الى الصحراء، وربما اعادة البحث عن الحضارات القديمة التي كانت في هذه الأماكن، فالرحالة الجدد، مثلي، لا يزالون ينجذبون الى القيام بهذه التجارب في الصحراء. هل لك ان تذكر بعض الأماكن القديمة التي زرتها أو ربما اكتشفتها؟ - اطلعت على أماكن في صحراء النفود، بالقرب من جبة قرب مدينة حائل في شمال السعودية حيث عاش أناس هناك منذ 50 الف سنة. في ذلك الوقت كانت المنطقة عبارة عن بحيرة، قبل ان تطمرها الكثبان الرملية. ونجد بعضاً من آثارهم مثل السكاكين المصنوعة من الحجر منذ ذلك الزمن، وبعضاً من منحوتاتهم ورسوماتهم على الصخور. والى جنوب غربي الربع الخالي نجد أناساً عاشوا قبل ما يراوح بين 10 و30 الف سنة. وجدت بعضاً من آثارهم وأقدر ان عمرها يصل الى نحو 30 الف سنة. وهنا في المنطقة الشرقية، تحديداً بين رأس الغار بالقرب من جبيل والقاعدة البحرية، وجد العديد من رؤوس الأسهم والرماح التي تعود الى العصر الحجري. اذاً حتى في منطقة الجبيل كان هناك من عاشوا قبل خمسة الى عشرة آلاف سنة. هل تعتقد بأن هذه الآثار حصلت على الاهتمام المطلوب محلياً؟ - الذي أعرفه ان الجامعات السعودية لها اهتمام بالبحث عن هذه الآثار مثل جامعة الملك سعود في الرياض. وقد اطلعت أخيراً على كتاب عن قرية الفاو ودرب زبيدة، طريق الحجاج من بغداد الى مكةالمكرمة ووجدت انهم ينقبون عن قرى وآثار على امتداد درب زبيدة، وزرت احد هذه الأماكن التي يقدر عمرها بألف سنة. هل كانت لديك معرفة سابقاً بصحاري السعودية ومواقعها الأثرية؟ أم تقوم برحلاتك كيفما اتفق؟ - تعرفت الى بعضها عن طريق كتب الرحالة الأوائل من أوروبا، وبعدما قدمت الى هنا اطلعت على بعض الكتب التي أفدت منها في زيارتي لكثير من المواقع التاريخية والجيولوجية في السعودية، ومنها كتاب عن آثار درب زبيدة، وعن قرية الفاو، وكتاب جيد عن ثروة السعودية من المعادن النفيسة. هناك طرق مسفلتة وخطوط ممهدة تنفذ عبر صحراء الربع الخالي وصحراء النفود، كيف تنظر الى هذا التطور بالنسبة الى الصحراء كعالم يتسم بالعزلة والهدوء؟ - لهذا التساؤل جانبان: كرحالة في الصحراء وعاشق لخصوصيتها النائية، لا أحبذ هذا التطور، لكنني كإنسان استطيع ان أفهم دواعي هذه النقلة. لا ألوم أولئك الذين يخططون لانشاء هذه الطرقات، لكن يتعين عليهم التنبه الى انهم يغيرون طبيعة الصحراء الأصلية، التي تتمثل في عزلتها وفضائها وخلوها وهدوئها ونقائها. لأنه عبر هذه الطرقات الكل يستطيع ان يصل الى أعماق الصحراء، ومع هؤلاء تجيء المخلفات وقيادة السيارات الصحراوية ويكثر الصيد الممنوع وتُدمر الحياة الفطرية المتبقية في الصحراء. لذلك أنا أشعر بشيء من التخوف على مستقبل صحرائكم. خلال 10 أو 20 سنة من الآن لن تكون هناك صحراء بالمعنى التقليدي الأصيل للصحراء. كيف ترى البدو وحياتهم في الصحراء؟ - حياة البدو في الصحراء قاسية وصعبة جداً، غير انني معجب بها جداً، لقد عشت معهم في صحاري المملكة وفي دول عربية اخرى، جلست معهم في خيامهم، اطلعت على طريقة عيشهم في صورتها الاصلية، وكنت دائما محل ترحيبهم وكرمهم على نحو ودي. لم اواجه اي مشكلة معهم. حاولت ان أتحدث لغتهم وقد تعلمت قليلاً من العربية للتواصل معهم. الذي أتمناه ان يتمسك هؤلاء البدو بأصالتهم وأسلوب حياتهم الجدير بالاعجاب والاحترام. حياة البدو تعتبر جزءاً من ثقافات العالم المتنوعة، التي تتسم بخصوصية، تجب المحافظة عليها من قبل اهلها وتوريثها الاجيال المقبلة. ماذا عن مواقف الآخرين ممن قابلت في رحلاتك داخل الصحراء؟ - اكثر الذين قابلتهم في الصحراء على درجة كبيرة من الود والصداقة. على رغم انهم في البداية نظروا اليّ بشيء من الشك. ولكن بعد التحدث معهم بدوا ودودين وطيبين حتى في مناطق الحدود. سئلت اكثر من مرة هل احمل معي مسدساً أم لا؟ كلا. لست بحاجة الى مسدس، لست بحاجة الى اي شيء هنا فالناس على درجة كبيرة من الطيبة والمودة والكرم، خصوصاً اذا تحدثت معهم. في الماضي قبل 50 سنة، ربما كان من الصعب ان تتجول في الصحراء وأنت اجنبي من دون ان تصطحب معك دليلاً من احدى القبائل. لكن اليوم المجتمع السعودي تحول، في وقت قياسي جداً من مجتمع قبلي ريفي الى مجتمع صناعي مدني. وهي نقلة جديرة بالاعجاب. الرحالة الغربيون الذين قاموا برحلات الى صحاري الجزيرة العربية، عندما يعودون الى بلدانهم يؤلفون كتباً عن رحلاتهم وتجاربهم، فهل تعد لشيء من هذا القبيل؟ - ما قمت به حتى الآن، هو اعطاء اكثر من ايجاز او عرض لمجموعة من الزملاء والمهتمين من جنسيات مختلفة عن تجاربي في صحاري المملكة. أردت من خلال هذه المقدمات ان اطلعهم على تنوع جغرافيتها، لأن الكثير من الوافدين الذين يأتون الى المملكة يعتقدون انها ليست سوى صحراء ورمال. كلا، فالمملكة تتمتع بطبيعة متنوعة جغرافياً وجيولوجياً وتاريخياً. اذن هو ليس بالضرورة كتاباً، بل، عبارة عن دليل او مساعد في هذا الجانب، أما انجاز كتاب في هذا الخصوص فلم أقرره بعد لأنني لا أعرف متى سأتقاعد. سأتقاعد. لكني ما زلت اشعر بالحماس والعطاء لمواصلة العمل في أي مكان في العالم. بعد ان عملت مع السعوديين اكثر من أربع سنوات، ماذا تود ان تقول لهم؟ - اقول لهم لقد عملنا معاً ويجب ان نستمر في العمل لضمان مستقبل افضل. ولا شك في ان المملكة وفّرت من خلال جامعاتها أساساً قوياً لأبنائها. لكن ينبغي ان لا تكتفوا بهذا الحد، وأن لا تركنوا الى ما حققتم. استمروا في تطوير انفسكم، وتطوير مجتمعكم نحو الأفضل. أود أيضاً ان اقول: سافروا في بلدكم، ولا تسافروا الى اميركا وأوروبا. ارتحلوا في أرجاء بلدكم لتطلعوا على ما فيه من معالم جديرة بالاهتمام، لتتعلموا من رحلاتكم في بلدكم اكثر مما قد تتعلمونه في رحلاتكم الى الخارج 0