كأن ريو دي جانيرو تغسل أحزان عماراتها القديمة وحاراتها المكتظة وشوارعها الضيقة مرة في العام حين تحتفل بمهرجانها الذي يُشبع عشاق الموسيقى والغناء والرقص والحفلات التنكرية من ايقاع السامبا الذي ربما أضحى يعتبر اختراعاً برازيلياً خالصاً من دون اعتداء بأصله الأفريقي الغابر. وهناك أيضاً مهرجان مدينة البندقية الذي يخدع فيه أبناء المدينة المياه التي تحاصرها بالأقنعة والأزياء الغريبة. وما أن ينتهي المهرجان حتى يبدأ الإعداد لمهرجان عام مقبل، حتى لتكاد صناعة المهرجانات تصبح ابتكاراً تحتكره المدينتان المتباعدتان. ما الذي يجمع بين هاتين المدينتين اللتين تفرقهما الجغرافيا والتاريخ وأحوال الطقس واهتمامات السكان؟ الاجابة من دون شك تتمثل في الكرنفالين اللذين يقامان في كل من ريو دي جانيرو والبندقية التي خلدها الشاعر الكبير علي محمود طه في قصيدته الذائعة "الجندول"، وإن كان كرنفال ريو البرازيلي أكثر شهرة وتأثيراً في مدن أخرى سعت الى إقامة مهرجان سنوي مماثل على غراره، ومثل مهرجان حي نوتينغ هيل غيت اللندني الشهير الذي تفد اليه فرق من ريو دي جانيرو لتهز شوارع لندن على مدى يومين بإيقاعات السامبا الدافئة، بل الملتهبة أحياناً. يبدأ كرنفال ريو في 21 شباط فبراير كل عام، وتنتهي فعالياته بحلول ال 24 من الشهر نفسه. وهي فترة يغص فيها مطار ريو دي جانيرو بالسياح الآتين من مختلف أرجاء الدنيا لحضور هذه المناسبة الاحتفالية المهمة، ولذلك فإن التفكير في حضور المهرجان حتى قبل شهرين أو ثلاثة من حلول موعده أمر في غاية الصعوبة، لأن مقاعد الطائرات وغرف الفنادق في هذه المدينة التي كانت، ذات يوم، عاصمة للبرازيل تحجز قبل أشهر عدة. ويستحيل تماماً العثور على غرفة في أحد الفنادق القريبة من مسار المهرجان بحلول تشرين الأول أكتوبر أو مطلع تشرين الثاني نوفمبر. أما أشهر فعاليات المهرجان فهي من دون شك رقصات السامبا التي تتفرغ لأدائها 14 فرقة، تؤدي سبع منها رقصاتها طوال نهار 22 شباط، فيما توكل مهمة الترفيه نهار اليوم التالي للفرق السبع الأخرى. ومن أبرز مظاهر كرنفال ريو الملابس التي يرتديها الراقصون والراقصات. وفي الغالب لا يوجد قماش واق لحماية بشرة الراقص أو الراقصة، وفي أحيان كثيرة يتم تلفيق بعض الأزياء بالأسلاك المعدنية وتتوافر غرف متنقلة للاستحمام في معظم المناطق التي يمر بها الكرنفال. وتتفرغ شبكات التلفزة البرازيلية لنقل فعاليات مهرجان ريو حية على الهواء مباشرة، وغالباً يصل عدد حضور المهرجان الى نحو 70 ألفاً فيما يراوح عدد الراقصين والطبالين في فرق السامبا ال 14 بين 3 و4 آلاف يرقصون ويتمايلون ويصدحون على مدى كيلومتر هو طول الطريق إلى الملعب الرئيسي الذي تقام فيه ذروة فعاليات المهرجان. وكان ملفتاً تكريس مهرجان ريو هذا العام لتكريم الفنان البرازيلي تشيكو بواركي الذي يعد من أبرع الملحنين والمطربين في مجال الغناء على ايقاع السامبا. وكان من أبرز ضيوف ريو هذا العام نجم الكرة الارجنتيني دييغو مارادونا. وكان أبرز الغائبين عن المهرجان هذه المرة وزير الرياضة البرازيلي بيليه الذي كان أشهر لاعب أنجبته كرة القدم البرازيلية. وكان ملفتاً أيضاً مشاركة فرقة ديدا التي تضم عدداً من الشابات السلفادوريات اللاتي برعن في ضرب الطبول، وعلى الايقاع الذي يسمى في السلفادور "ايقاع القديسين" وتتغنى هذه الفرقة الأميركية الوسطى بما ينمو عن معانات الأطفال وتوقهم إلى إدارة شؤونهم بأنفسهم، وقد بدأت هذه الفرقة نشاطاتها العام 1994 وانتجت عدداً من الأشرطة المسموعة والمرئية التي حققت لها شهرة على نطاق واسع. والواقع أن بحث الانسان الدائب عن البهجة وسبل التعبير عنها قاده قبل آلاف السنين الى ابتكار الكرنفالات، تلك المهرجانات الضخمة التي تكون موعداً متجدداً كل عام مع الفرح والرقص والتنكر وغيرها من الفنون الشعبية التي راجت في هذه المنطقة أو تلك. هكذا كانت السعادة هي القاسم المشترك بين الكرنفالات التي اختلفت طرق تنظيمها وفعالياتها والغايات التي رمت اليها، حسب الزمان والمكان. وتعود اصول فن الكرنفال الى الاحتفالات التي دأب الفراعنة على اقامتها على شرف الاله اوزوريس في مصر القديمة. وانتقل فن الاحتفال من بلاد النيل الى اليونان فالامبراطورية الرومانية المترامية الاطراف، التي اعطت هذه المهرجانات الباذخة اسمها، اذ أن كلمة كرنفال محرفة عن المفردة الايطالية "كارنى فالى" التي تعني : ما يعادله من اللحم - أي أن صيام المرء عن اللحم خلال فترة من الزمن مهمة يستحق أن يُكافأ على انجازها بقدر سخي من الطعام والشراب ... والبهجة. وتبدأ عادة الكرنفالات قبل فترة الصيام هذه التي تسبق عيد الفصح باربعين يوماً. والجدير بالذكر أن هذه الاحتفالات الضخمة لم تكن دائماً بريئة من الغايات السياسية، اذ استغلها بعضهم من فترة الى أخرى للقيام بفعل سياسي. برع الايطاليون القدماء مثلاً في التستر بالكرنفالات لتأدية أغان واطلاق نكات يتهكمون فيها بصورة مبطنة من أصحاب القرار وتنظيم مواكب كبيرة لراقصين وراقصات يحاولون السخرية من السلطات الحاكمة في حركات تمثيلية ساخرة. والبرازيل موطن سيد الكرنفالات العالمية المعاصرة بلا منازع، فالاحتفالات الصاخبة تعم البلاد الشاسعة على امتداد اربعة ايام. ودرج البرازيليون منذ 1641على تنظيم مواكب الفرح التي ينزل خلالها الناس الى الشوارع بأزياء متعددة الالوان والاشكال محملين تارة بآلات موسيقية شتى أو بأشياء أخرى من بالونات ودمى وغيرها لتأدية رقصاتهم التقليدية، خصوصاً السامبا الشهيرة . واللافت أن الكرنفالات التي يقيمها البرازيليون في أنحاء البلاد كافة صارت بمثابة مؤسسة اجتماعية راسخة لها قوانينها وتقاليدها الصارمة واخلاقياتها الخاصة. فالكرنفال الذي تغلغل في النسيج الاجتماعي لهذا الشعب هو مناسبة يتعاون الجميع على احيائها، وتساهم الازياء التنكرية والاصبغة في تمويه شخصية المشاركين فيغدو القاضي رفيقاً للفلاح ويُعامل الخادم على قدم المساواة مع مدير الشركة. وعلى رغم هذه النزعة التوحيدية والرغبة بصهر المشاركين فإن الكرنفال تحترم خصوصيات المحتفلين. ومع أن كرنفال كل جزء في البلاد يختلف قليلاً أو كثيراً عن غيره، لا ننسى أن معظم المجموعات الاثنية تستعمل ازياء تنسجم مع اصولها فتبدو متميزة عن الاخرين. وموسم الكرنفالات البرازيلية ليس موعداً مع البهجة وحدها، بل ايضاً مع الحب والصفح عن اخطاء ارتكبت في حق المرء. وما أن تبدأ الكرنفالات حتى ينسى العاشق غدر حبيبته السابقة ويعكف على البحث عن علاقة رومانسية جديدة. ويبدو ان البرازيليين ورثوا عن الايطاليين فن تجيير بعض مظاهر الاحتفال لغايات سياسية، اذ تفتح الكرنفالات الباب على مصراعيه أمام الاحتجاجات على الفساد السياسي وممارسيه ممن تسببوا في بؤس ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل. ولاتقتصر الاحتجاجات على الصخب الذي لايجدي، بل كثيراً ما تترافق مع اقتراحات عملية لكيفية الخروج من مأزق البؤس الذي يعيشه الكثيرون في تلك البلاد الشاسعة. مهرجان البندقية أما البندقية فقد كانت أصلاً منذ القرن الثامن عشر مدينة كرنفالات. يتساوى في تلك المناسبات الدوقات والفقراء المعدمون، يوم كانت البندقية مدينة تحكم البحار ومركزاً تجارياً وسياسياًَ بالغ النفوذ. ويعتقد أنها تفننت في اقامة هذه الكرنفالات لتعوض عن مجدها الضائع أو ربما لتتخفى وراء الأقنعة والأزياء الاحتفالية. وبسبب تعدد فقرات هذا المهرجان وكثرة ألوانه بات مقصداً لعدد كبير من السياح الأوروبيين وقد كان خلال القرن الثامن عشر يستمر 6 أشهر كل عام. ويرتدي بعض المشاركين في المهرجان من أبناء البندقية أقنعة ذات ظلال سوداء وذلك تعبيراً عن الحزن على غرق المدينة. وكان الرجال قبل نحو قرنين يرتدون نصف قناع، بينما كان مطلوباً من النساء ارتداء القناع كاملاً. وبالطبع فقد اشتهرت البندقية بمراكبها الصغيرة الفريدة التي يعرف كل منها ب "الجندول" GONDOLA الذي تواتر ذكره منذ العام 194م، ويتسع الجندول لنحو ستة ركاب يمكنهم التمتع بجولات تستغرق 50 دقيقة في مقابل 80 ألف ليرة. ويبدو أن عادة ارتداء الأقنعة أثناء مهرجان البندقية تتيح لعدد كبيرة من المشاركين تجاوز كل الفوارق الاجتماعية، كما أنه تغتفر ممارسة عدد كبير من التصرفات التي تقع تحت طائلة القانون في الأحوال العادية، وبدأ المهرجان يكتسب مزيداً من الشعبية منذ نحو العام 1980، خصوصاً أن الموسيقى والرقص يستمران ليل نهار الى جانب العروض المسرحية والألعاب التراثية المختلفة.