كان طبيعياً ان يتسم ردّ فعل الإدارة الاميركية على تراجع اللحظة الأخيرة الذي أعلنت عنه بغداد، في مواجهة الأزمة المتصاعدة التي كادت ان تعصف بالعراق ومنطقة الخليج الاسبوع الماضي، بالغضب الشديد، وبشيء من الارتباك، الى درجة ان واشنطن أوشكت أن ترفض الخطوة العراقية، وتستمر في تنفيذ ضربتها العسكرية التي كانت قاب قوسين أو أدنى. كانت الخطوة التي جاءت من جانب بغداد، استجابة للرسالة التي بعث بها الأمين العام للامم المتحدة كوفي انان الى الرئيس صدام حسين، وناشده فيها التراجع عن قرار وقف التعاون مع مفتشي اللجنة الخاصة المكلفة نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية أونسكوم، وغيرها من الهيئات الدولية العاملة في هذا المجال، تهدف أصلاً الى الحيلولة دون وقوع الضربة العسكرية ضد العراق، وهذا ما اعتبرته واشنطن إفساداً عراقياً ذكياً لمخططها، وتطبيقاً جديداً من جانب بغداد لأسلوب حافة الهاوية الذي يبدو انه أضحى يشكل التكتيك العراقي المفضل في التعامل مع الاممالمتحدة. وكان أول رد فعل علني من جانب واشنطن على الرسالة التي بعثت بها بغداد بالغ التشنج، أعرب فيه صامويل "ساندي" بيرغر مستشار الرئيس كلينتون لشؤون الأمن القومي، صراحة عن رفض العرض العراقي، باعتباره "غير مقبول، وغامضاً، ومليئاً بالثغرات، ومقيد بشروط لا تمكن الموافقة عليها". والواضح ان بيرغر كان يعكس حقيقة المشاعر التي لا بد أنها ساورت كلينتون وأركان إدارته من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الذين كانوا يتابعون معه آنذاك الاستعدادات العسكرية في انتظار ساعة الصفر. وكان ذلك، على الأرجح ايضاً الدافع وراء تأكيد بيرغر "ان واشنطن لا تزال ماضية في استعداداتها وخططها"، وأن الموقف العسكري - بنظرها - "لم يتغير". وفي المقابل كان استبعاد امكان قيام الولاياتالمتحدة وبريطانيا بعمل عسكري منفرد في الوقت الذي حازت فيه الرسالة العراقية على موافقة الأمين العام للأمم المتحدة وترحيب الدول الأخرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن، أي فرنسا وروسيا والصين، وغالبية الأطراف العربية والاقليمية المعنية بالأزمة، وكانت جميعها تشدد منذ البداية على تفعيل حل ديبلوماسي يتفادى استخدام القوة العسكرية، شرط ان توافق بغداد على العودة الى التعاون مع لجان التفتيش والالتزام بتنفيذ بنود اتفاقها الموقع مع انان في شباط فبراير الماضي وتطبيق قرارات مجلس الأمن. وليس خافياً ان جميع هذه الاطراف العربية والاقليمية والدولية كانت تدرك ان استجابة الحكومة العراقية في اللحظة الأخيرة للنداءات والمناشدات التي وجهت اليها "نابعة من الرغبة في تسجيل نقاط سياسية، وإثبات قدرتها على الاستمرار في لعبة القط والفأر التي باتت تتقنها جيداً، أكثر منها تعبيراً عن قرار استراتيجي يهدف الى ايجاد حل نهائي وشامل لهذه الأزمة المزمنة"، على حد تعبير ديبلوماسي عربي. لكن هذه الأطراف كانت تواجه، حسب المصدر نفسه، "معضلة" نجمت عن هذه الخطوة من جانب بغداد "اذ لم يكن من الممكن أو المعقول ان تستمر في تأييد عمل عسكري ضد العراق تقوم به الولاياتالمتحدة وبريطانيا بمعزل عن مجلس الأمن، بعد ان تكون بغداد أعلنت استعدادها للتراجع، بل ان القيام بعمل كهذا في مثل هذه الظروف من شأنه ان يجعل لزاماً على تلك الدول ان تعلن صراحة عن اعتراضها عليه، ولو لمجرد الانسجام مع مواقفها الرسمية التي أعربت فيها دائماً عن تفضيل الحل الديبلوماسي". وهذا التقويم المشكك في صدق النيات العراقية ليس بعيداً، على أي حال، عن الموقف المتصلب الذي اتسم به رد الفعل الاميركي والبريطاني، اذ لا يوجد هناك الكثير من المسؤولين أو المراقبين المحايدين ممن هم على استعداد للاعتقاد بأن الأزمة انتهت فعلاً، أو ان فصلاً جديداً ومماثلاً من فصولها المتلاحقة لن يكون مرشحاً للاندلاع مرة أخرى عاجلاً أو آجلاً. لكن الفارق الأساسي بين ما حدث وما يمكن ان يحدث خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة بات جلياً، فلا الإدارة الاميركية، ولا الاممالمتحدة ستكون مستعدة للدخول مرة أخرى في دوامة تصعيد جديد، تصل فيها الأمور الى الحافة ثم تتراجع كأن شيئاً لم يحدث حتى تعاود الكرة في مناسبة لاحقة. وهنا يكمن جوهر التحذير الصريح الذي وجهه كلينتون ورئيس الحكومة البريطانية توني بلير الى بغداد من مغبة تكرار ما حصل في الأزمة الأخيرة، وتأكيدهما ان أي تصرف عراقي مماثل في المستقبل سيؤدي الى رد عسكري فوري ومن دون العودة الى مجلس الأمن أو إفساح المجال أمام أي مفاوضات أو وساطات. بل ان أنان نفسه كان واضحاً في اعلانه بأن هذه الأزمة هي "الأخيرة التي تتم تسويتها ديبلوماسياً"، وانه يتعين على القيادة العراقية الاستفادة من هذه الفرصة والحرص على تنفيذ تعهداتها والتزاماتها حيال المجتمع الدولي بشكل كامل وغير مشروط، والا فستواجه خطر الضربة العسكرية التي نجحت هذه المرة في تلافيها. ولعل هذه المشاعر الدولية المحبطة والتحذيرات التي واكبتها مبررة ومفهومة. فكما كان متوقعاً، سارعت بغداد الى تصوير ما حدث بأنه انتصار يعود الفضل فيه الى حكمة القيادة العراقية ومهارتها في ادارة دفة الأزمة والوصول فيها الى النتائج التي كانت تنشدها. لكن واقع الأمور، وما تبين من معلومات وتفاصيل يدل على ان الوضع لم يكن بهذه البساطة. بل بات أكيداً الآن أن بغداد أقدمت على خطوتها ليس لمجرد "الإستجابة لرغبات ومناشدات الاشقاء والاصدقاء"، ولا لأنها نجحت في تحقيق أهدافها واسمعت العالم صوتها، على حد تعبير طه ياسين رمضان نائب الرئيس العراقي، بل نتيجة إدراكها لحجم الضغوط العسكرية، ومدى العزلة الديبلوماسية وخطورة التهديد الجدي الذي يواجهها. وتشدد مصادر دفاعية وديبلوماسية عربية ودولية على ان "الهدف الأستراتيجي" الذي حدد للضربة كان يقضي بالعمل على اضعاف النظام العراقي، وتقويض دعائمه وتقليص قدرته على البقاء، وصولاً الى اسقاطه، أو على الأقل تهيئة الاجواء والظروف الملائمة تمهيداً لانهياره. والأكثر أهمية من ذلك تأكيد هذه المصادر "ان هذا القرار، وأهدافه المحددة، أبلغ الى القيادة العراقية حتى لا يكون لديها أي مجال للشك في صدقية الخطط الموضوعة ضدها، أو في جدية العزم على تنفيذها حتى النهاية". وتورد المصادر، في السياق نفسه، ما تصفه بپ"الإنذار الأخير" الذي نقلته الى بغداد الحكومة الفرنسية وكانت واشنطن ولندن تأملان ان تتجاهله القيادة العراقية، لكنها عمدت الى أخذه بجدية والتصرف على أساسه بسرعة لم تكن متوقعة. وتفسر المصادر ما يمكن ان يكون حصل في هذا المجال بالقول انه يبدو ان الفرنسيين تجاوزوا ما كان يفترض بهم ان يفعلوه. "فالخطة كانت تقضي بإبلاغ العراقيين بجدية الخطط وحجم الضربة وأهدافها المقررة ثم ترك الخيار لهم. لكن باريس أخطرتهم أيضاً بالموعد المحدد لبدء الحملة العسكرية، الأمر الذي دفع صدام الى استعجال قرار الاستجابة واستباق الضربة، فكانت النتيجة اجهاض الخطة برمتها". وتتفق أوساط ديبلوماسية في أكثر من عاصمة عربية ودولية على ان الاجراء العراقي "كان تراجعاً كاملاً وغير مشروط، بغض النظر عن الضجة الاعلامية التي حاولت بغداد احاطته بها". واعتبرت ان أسباب ما تصفه بپ"التراجع العراقي" كانت متشعبة، لكنها تندرج بصورة رئيسية في نطاق العوامل الاساسية التالية: 1- اقتناع بغداد هذه المرة بأن الولاياتالمتحدة عازمة حقاً على اعتماد الخيار العسكري، وبأن القرار الاميركي في هذا الشأن صدر فعلياً. 2- اتضاح صورة العمليات العسكرية المرتقبة للقيادة العراقية، خصوصاً في ما يتعلق بحجم القوات ونطاق الهجمات الجوية والصاروخية التي كان يجري الإعداد لها، والطابع الاستراتيجي الشامل للهجوم على العراق. 3- إدراك العراق بأنه يواجه عزلة ديبلوماسية عربية واقليمية ودولية شبه كاملة. وقدمت المصادر عرضاً شاملاً لما وصفته بتضافر تلك العوامل وكيف ساهمت في دفع بغداد الى التراجع. وقالت: "ان إقدام العراق على افتعال أزمة جديدة مع الاممالمتحدة لم يكن بعيداً عن تفكير المسؤولين والخبراء في العواصم العربية والدولية المعنية منذ التوصل في شباط الماضي الى الاتفاق الذي حال دون حدوث المواجهة العسكرية إبان ما عرفت بأزمة "القصور والمقرات الرئاسية". فقد سارعت بغداد وأعلنت على أثر توقيع الاتفاق مع الامين العام للامم المتحدة، انها تعتبره "انجازاً ديبلوماسياً يمهد الطريق أمام إقفال ملفات الأسلحة ورفع العقوبات" المفروضة عليها منذ غزو الكويت وتحريرها. كما ان الحكومة العراقية واجهزة إعلامها لم تخف طوال الفترة التي أعقبت التوصل الى ذلك الاتفاق انها تعتبر التزامها بنوده "مرحلة انتقالية لن تستمر طويلاً"، و"فترة اختبار متبادلة" بين الجانبين، على ان يعقبها "اعتراف دولي بتعاون العراق، تمهيداً لرفع العقوبات، أو إصرار دولي بالاستمرار في الحصار، الأمر الذي سيجعل القيادة العراقية في حلّ من التزاماتها". وربما ذهبت آمال بغداد الى ان يؤدي تعاونها الذي استمر اشهراً مع مفتشي لجنة "أونسكوم" ورئيسها الاسترالي ريتشارد بتلر، الى استصدار "شهادة حسن سير وسلوك" تصب في مصلحتها عندما يحين موعد مراجعة ملفات الأسلحة والبحث في امكان رفع العقوبات الدولية أو تخفيفها على الأقل. لكن الواضح ان القيادة العراقية بدأت تشعر، اعتباراً من مطلع الصيف الماضي، بأن ذلك لن يحدث ضمن الفترة الزمنية التي كانت تتمناها، أي بحلول تشرين الأول اكتوبر الماضي، أو قبل نهاية العام على أبعد تقدير. ومع تلاحق العقبات التي بدأت في الظهور تباعاً أمام الطموحات العراقية الهادفة الى إقفال ملفات الأسلحة، مثل قضية اكتشاف آثار لغاز الأعصاب الفتاك في.اكس وقضية المفتش الاميركي سكوت ريتر والاتهامات التي وجهت اليه بالتعامل مع اجهزة الاستخبارات الاميركية والاسرائيلية، والمواقف السلبية عموماً لرئيس اللجنة بتلر، بدا بشكل متزايد ان بغداد تتجه الى تصعيد الموقف قبل ان ينقضي العام. وهذا هو ما حدث، إذ اتخذ العراق قراره بوقف التعاون، والذي شكل عملياً خروجاً من جانب بغداد عن اتفاقها مع انان. ويبدو انها راهنت على الأرجح على مجموعة من العوامل التي اعتبرتها ملائمة لتوقيت تلك الخطوة وأهدافها، فالمصاعب الداخلية التي كان كلينتون يعاني منها دفعت الرئيس العراقي الى تصور ان الادارة الاميركية ستكون عاجزة عن التحرك والرد على خطوته بفاعلية. كما ان بغداد اعتبرت الرأي العام العربي والدولي مهيأ للضغط باتجاه رفع العقوبات وإزالة المعاناة الانسانية للشعب العراقي، ورجحت ايضاً ان تشهد المواقف العربية والدولية من هذه القضية انشقاقاً حقيقياً بين الداعين الى رفع العقوبات واقفال ملف الأزمة نهائياً، والمعارضين لذلك، خصوصاً الولاياتالمتحدة وبريطانيا. لكن هذه الرهانات جميعاً لم تكن صحيحة. لم تكن الرسالة العسكرية التي وجهت الى بغداد أقل حسماً أو وضوحاً. اذ ان الرئيس الاميركي لم يتردد في اتخاذ قراره القاضي بشن الضربة العسكرية، بل بتحديد موعدها، وهو القرار الذي تأكد انه اتخذ خلال اجتماع ضم كلينتون وكبار مسؤولي الدفاع والأمن والشؤون الخارجية وقادة أركان القوات المسلحة الاميركية، وعقد في 8 تشرين الثاني نوفمبر، أي قبل اسبوع من الموعد الذي حدد لساعة الصفر. وحسب هذه الخطة، كانت الوحدات الاميركية المخصصة لما تسميه واشنطن "مسرح العمليات العراقي" ستصل الى ما مجموعه 50 ألف جندي، وحاملتي طائرات هجوميتين على متنهما 150 طائرة قتالية، و40 قطعة بحرية رئيسية تشمل 15 سفنية قتالية مجهزة لإطلاق صواريخ تطوافية كروز بعيدة المدى من طراز "توماهوك" مع ترسانة من هذه الصواريخ يصل الى حوالي 700 صاروخ، ونحو 300 طائرة قتالية بما فيها قاذفات استراتيجية بعيدة المدى مجهزة لإطلاق صواريخ كروز، وقاذفات تسلل لا يكتشفها الرادار ستيلث، الى جانب حوالي 200 طائرة اخرى لمهمات المساندة والدعم المتنوعة. أما الهدف من هذه القوات فكان، حسب المصادر الدفاعية الاميركية والدولية، شن حملة استراتيجية هجومية شاملة ضد العراق، حسب خطة وضعت منذ أزمة شباط الماضي، وتنطوي على "قصف مركزي ومنهجي مستمر" ضد نحو 250 هدفاً حيوياً عراقياً تشمل مواقع رئاسية وعسكرية وأمنية وسياسية وحزبية، الى جانب منشآت اقتصادية وصناعية، وبنى تحتية، ومراكز تجمع قوات وميليشيات، وشبكات اتصال ومواصلات وأهداف اخرى تتصل مباشرة بقدرة النظام على الحكم والبقاء في السلطة. وتنطوي هذه الخطة على مراحل عدة يستغرق انجازها فترة تراوح بين 7 و21 يوماً، حسب الظروف العملياتية ومسار تحقيقها لأهدافها. أما غرضها الاستراتيجي، فكان يتجاوز معاقبة النظام ليصل الى اسقاطه، أو اضعافه بما يكفي لانهياره. وبالطبع، نجح التراجع العراقي في تفادي خطر التعرض لهذه الحملة الاستراتيجية التي لم تستبعد مصادر عدة انها كانت "تشتمل في نواح رئيسية منها على استهداف أركانه ورموزه في صورة شخصية، وبما في ذلك الرئيس صدام حسين نفسه، ليس عن طريق الهجمات الجوية والصاروخية فحسب، بل وبواسطة عمليات خاصة في عمق الأراضي العراقية كان يفترض ان تنفذها وحدها من القوات الأميركية والبريطانية المتخصصة". لكن المصادر تجمع، في المقابل على ان هذا التراجع من جانب بغداد لا يشكل حلاً للأزمة، ولا نهاية لفصولها، كما انها تتفق على وصف الموقف الذي يسود حالياً في كل من واشنطن ولندن وسواهما من العواصم المعنية بالوضع العراقي بأنه فترة ترقب وانتظار. وتابعت المصادر ان ما حدث حتى الآن تجميد للأزمة، وتأجيل للضربة العسكرية التي يبدو ان الجميع متفق على اعتبارها حتمية، عاجلاً أم آجلاً. وفي هذه الاثناء، ستتم متابعة ما سيجري داخل العراق نفسه، وكيف سيكون التعامل بين بغداد ومفتشي الاممالمتحدة. ومن المؤكد انه لن يكون هناك أي اتجاه لإقفال ملفات الأسلحة، أو البحث في رفع العقوبات أو حتى تخفيفها قبل ان يستكمل التفتيش. وبانتظار ذلك، فإن الخطط موضوعة، والأهداف محددة، والاستعدادات جاهزة للبدء في العمليات العسكرية حالما يرتكب صدام "غلطة فادحة جديدة"