اللوحات التشكيلية التي ضمها المعرض الثامن للفنان التشكيلي السعودي عبدالله الشيخ الذي اقيم في الجبيل الصناعية قبل أسابيع تحت عنوان "عالمنا المعاصر" تمثل شواهد حية على أزمة الانسان المعاصر. هذا الانسان الطافح بالآلام والهموم، المنهك إلى حد الانقراض من جراء الركض وراء المادة وتعاطي عبادة الآلة، أو لنقل هي دعوة إلى كشف قبح هذا العصر: أربعون لوحة زيتية، تبعث في الذاكرة قصائد إليوت الذي رصد أزمة المادية الغربية وإنسانها المأزوم، في "الأرض اليباب" و"الرجال الجوف" و"أغنية حب بروفرك". وتبدو لوحات الشيخ قصائد بألوان موحية، عن معاناة الانسان ومآسيه، بعيداً عن الغموض المطلق وفخّ المباشرة والتسطيح. وضمن هذا الاتجاه يقول الشاعر العراقي يحيى السماوي إن قصائده "تنحني أمام لوحات الشيخ، فهو شاعر يكتب باللون، وما يميزه عن الكثير هو أن له ريشته المتفردة، فلا ثمة ظلال لأحد عليه، ولعلني سأكون مصيباً حين أقول إن ظلاله سيفيؤها الكثير ممن يطمعون الريادة". وفي سياق تجسيد معاناة الانسان المعاصر وضياعه في زحمة الرعب والكآبة، تتناسل لوحات/ قصائد الشيخ مؤكدة أن للفنان دوراً ريادياً في إصلاح ما أحدثته معطيات المدنية المعاصرة من تشوه في حياة الانسان/ الآلة. على هامش هذا المعرض التقت "الوسط" الفنان عبدالله الشيخ وكان الحوار الآتي: بداية، ماذا لو عدت بنا إلى الذاكرة لاطلاعنا على بدايات التجربة التشكيلية لدى الفنان عبدالله الشيخ؟ كيف تشكلت في عناصرها الأولية: الزمن، البيئة، والمحيط الاجتماعي؟ - البدايات كانت حينما درست الفن التشكيلي في معهد الفنون الجميلة في بغداد في أواخر الخمسينات، وكان ذلك على أيدي أساتذة كانوا يتسنمون ريادة الحركة التشكيلية العراقية إذ ذاك من أمثال جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري، ولم يكن يهدف هؤلاء الرواد إلى تخريج معلمين للتربية الفنية على النحو السائد، وإنما كرسوا حياتهم الفنية والأكاديمية لتحقيق هدف أسمى يتمثل في التأسيس لأجيال تحترف الفن التشكيلي احترافاً بحتاً مبنياً على فهم صحيح للعملية التشكيلية، لا بوصفها عملية روتينية جامدة تنتهي بالدارس إلى مدرس للتربية الفنية، بل كونها عملية ابداعية تعبر عن نشاط ثقافي خلاق. تعلمت منهم ان تبقى اللوحة طاهرة إلى جانب الانسان، ان تعكس الجمال والقبح، الحياة والموت، من دون أن نلغي الجانب الذاتي في أعماق الفنان. فوجودي في عمق هذا المناخ الفني والاجتماعي الجاد المتعمق في تناول العملية التشكيلية أوجد لدي منذ البدء فهماً صحيحاً للفن التشكيلي تطور وتعمق مع مواصلتي للدراسة الجامعية في التشكيل، وحصولي على دورات المدة أربع سنوات متخصصة في مجال التصميم والطباعة في بريطانيا. أسلوب تشكيلي آخر من معرضك الشخصي الأول في 1982 حتى معرضك الثامن، ثمة تطور في التجربة التشكيلية لديك، كيف تقوم هذا التطور؟ - هو ليس تطوراً بالمنظور التقليدي نحو الأحسن أو الأسوأ مثلاً، وإنما انتقال من اسلوب تشكيلي إلى آخر. إذ كنت انتهج اسلوباً تشكيلياً أحاكي فيه الطبيعة وأنقل مشاهد طبيعية كما هي حرفياً، أي أحاول أن ارسم ما اراه مباشرة. واقعية في الشكل وزخرفية أحياناً، يعني اركز على أشياء لها علاقة بالتراث والزخارف والمنمنمات، والبحث في الصياغة الجمالية البحتة لتقديم ما هو متميز. ثم بدأ موضوع اللوحة يشغلني أكثر من الصيغة الجمالية المجردة، وأتصور أن القيمة الجمالية ليست في ذات العمل التشكيلي وإنما في ما يرمز إليه من تناقض ما من خلال تركيبة اللوحة وتوليفة عناصرها. وهذه مراحل يمر بها الفنان حتى يجد ذاته من خلال اسلوب تشكيلي متفرد يقتنع به قناعة شخصية ويعبر عن خصوصية فكرية للفنان لا تتكرر في فنان آخر. هذا يعني أنك لا تتبع أياً من المدارس التشكيلية الحديثة في أدائك الفني، وإنما طورت اسلوباً تشكيلياً خاصاً بك لا يتقيد بهذه الاطر التقليدية؟ - اعتقد ان الفنان التشكيلي في الوقت الحاضر يطرح الفكرة بالأسلوب الذي يكون مقتنعاً به شخصياً بغض النظر عن جدولة العمل أو إلصاقه بمدرسة تشكيلية معينة. هناك مدارس تشكيلية عدة قد لا يرى الفنان بأساً في أن يقولب نفسه في أحداها، لكن عندما يحاول الفنان ان يوجد ذاته من خلال اسلوبه الخاص به فهذا بالطبع أفضل. بالنسبة إليّ أرسم حتى أحقق شيئاً على مستوى المضمون أو الفكرة. يبقى منهج الطرح وبنائية الشكل وهذه بالنسبة إليّ فيها مزاوجة بين الكلاسيكية الحديثة والمعاصرة، تأخذ جانباً في اللوحة ترى وجه مدروس أكاديمي مطابق للواقع، لكن ترابط اللوحة بأجزائها الباقية مع هذا الوجه في نوع من عدم التمازج بشكل واقعي، تجد في اللوحة مثلاً مفردات أو وحدات متجاورة، أجزاء هندسية، تقاطع خطوط، تمازج ألوان إضافة إلى الوجه الأكاديمي المدروس. الفن للفن، الفن الموجه، كيف تتعامل مع هذه المقولات من واقع تجربتك الفنية؟ - على مر تاريخ الفن، في الغالب، ثمة نمائية وراء كل عمل فني تشكيلي. منذ عصر الكهوف عندما كان الانسان يرسم على الكهوف لطرد الحيوانات والوحوش كما يعتقد، وهذا هدف نفعي. ثم عندما بدأ يخدم الكنيسة في فترات لأغراض نفعية اضافة إلى التزيين والزخرفة، ثم في القرن الثامن عشر تطورت نظرية الفن وأصبح الهدف هو إظهار الحرفة الفنية البحتة والقيمة الجمالية بشكل هائل حتى أصبح الفنان يخلص لفنه فقط إلى أن وصل إلى قمة الابداع في شكل من أشكال اللوحة. بعد هذا وإلى أن وصلنا إلى الفن التشكيلي الحديث بدأ الفن يستخدم لاغراض نفعية. بالنسبة إلى الفنون في الدول الاشتراكية سخر الفن لخدمة المجتمع الاشتراكي ضمن إطار الفن الموجه الذي يعتبر أحد منهجيات الدولة الاشتراكية لترسيخ مفاهيمها. بالنسبة إليّ اعتقد ان الفنان الذي يعيش في مجتمع ما يتعين ان تكون أعماله الفنية في خدمة هذا المجتمع بصورة فنية غير مبتذلة وغير ساقطة حتى تظل رسالة الفن رسالة سامية. أنا مع الذين يذهبون إلى أن للفن رسالة يجب ان تصل إلى الجمهور. ضمن سياق غائية الفن والدور المنتظر من الفنان، يلاحظ ان لوحاتك عبارة عن احتجاج على واقع مؤلم: واقع الانسان المعاصر الذي تمزقه تناقضات حضارة هذا العصر، وتلك اشكالية عالمية تمنح لوحاتك لغة انتشارية تنقلها من إطار المحلية إلى آفاق العالمية. كيف تشكل لديك هذا الاحساس حتى أضحى لازمة "ثيمية" في لوحاتك؟ - بداية معرفتي بالألم الانساني كانت في عام 1949 عندما أبصرت أناساً بملابس ووجوه غير مألوفة، يجوبون أسواق بلدة الزبير حاملين حاجيات بسيطة، عرفت حينها أنهم أناس طردوا من منازلهم ليصبحوا لاجئين. اشكالية هذا العصر أنه عصر متناقض يتأسس على عالمين: عالم يولد المأساة والحزن، وعالم يملك التصميم والرغبة في الحياة والابداع. أموال طائلة تصرف على أبحاث تحاول انقاذ طفل لم يولد بعد، وفي الوقت عينه تنفق المليارات لتطوير سلاح يبيد الملايين من البشر. هذا التناقض والانفصام في العقل البشري يترك الانسان في حيرة وإحساس دائم بالقلق. إنسان هذا العصر تحول آلة تحولت بدورها انساناً. في هذا المعرض والمعرض الذي سبقه في جدة كانت لوحاتي تغيب الهموم الفردية وتغلب الهموم العامة في محاولة فنية لكشف تناقض روح هذا العصر الذي يطلق عليه حضاري. بحكم إقامتك في مدينة الجبيل الصناعية، هذه المدينة التي تضم أكبر مجمع بتروكيماوي في الشرق الأوسط وتطبق آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا العالية في مجال الصناعات البتروكيماوية والنفطية، ما أثرها في بلورة هذا الموقف السلبي من الآلة؟ - التكنولوجيا المتوافرة في الجبيل الصناعية ذات أهداف ايجابية لإسعاد البشرية. هي نهضة صناعية نمت لتسهيل سبل الحياة في حين ان هناك مدناً صرفت فيها الأموال الطائلة لترسيخ مصانع الدمار مع العلم أن الفرق في الكلفة بين الاثنين هائل جداً. مصانع الجبيل أعطت بعداً ايجابياً لجهة موقفي لأنها تكنولوجيا البناء والعطاء، فأنا في معارضي التي اقيمها من ناحية صناعية أبرز الجانب السلبي من الآلة أو التكنولوجيا حتى يتجلى بوضوح الجانب الايجابي الذي كان يجب أن يكون، فالجانب المشوه في المعرض، وهو كيف تكون الآلة انساناً من دون معالم إنسانية يعطي المشاهد جرعة قوية لكره هذه العملية ومن ثم ابتعاد عن هذا الاتجاه، أي أن المشاهد سيتخذ موقفاً سلبياً من تكنولوجيا الدمار وتعاسة الانسان، أو سمها حضارة الشر إذا شئت. من البدهيات ان أحد عناصر نمو العمل الابداعي هو الناقد القارئ بالمفهوم الحديث، الذي يعيد انتاج القطعة الفنية أو العمل الابداعي. من هذا المنطلق، هل يوجد لدينا حركة نقدية تشكيلية؟ - الحركة النقدية التشكيلية بالمفهوم المنهجي والموضوعي ليس لها وجود لدينا. والنشاط النقدي التشكيلي الموجود في الساحة نشاط فردي ومحدود لا يؤثر تأثيراً فاعلاً في نمو وازدهار الحركة التشكيلية. والغالب في الممارسة النقدية لدينا اجتهادية ليست لها علاقة بعملية الفن التشكيلي، والذي أوجد هذا المطلب أو المأزق الذي يعيشه الفنان التشكيلي أن ادباءنا من الشعراء والكتّاب ممن يملكون آليات النقد المثري والمتعمق لا يعطون الفن التشكيلي الاهتمام الكافي. ما أوجد قطيعة بين الطرفين ولست أدري كيف تحل هذه الاشكالية رغم ان الجميع يزاولون نشاطاً ثقافياً. هذه القطيعة سمحت لغير المتمكنين الولوج إلى ساحة النقد التشكيلي عبر الصحافة المحابية والتأثير سلباً في مجريات الحركة التشكيلية. هناك من الفنانين الجيدين من توارى عن الأنظار ومن الرديئين من أبرز في الساحة بسبب عدم التمييز وفهم المقاييس النقدية. البعض يذهب إلى القول إن الفنان التشكيلي، بحكم وجوده في عمق التجربة الفنية، هو المخول بمزاولة النقد التشكيلي. ورغم بعض صوابية هذا المذهب، إلا انني أرى أن الأدباء النقاد يشكلون رافداً أقوى وأكثر اغناء للحركة التشكيلية لجهة كونهم خارج العملية التشكيلية انتاجاً، ويفترض ان يتواجدوا في عمقها تذوقاً وفهماً، ما يمكنهم من انتاج حركة نقدية تشكيلية موضوعية تدفع بالفن التشكيلي المحلي نحو الأمام. كيف يمكن أن نبرز هذه القطيعة خصوصاً من قبل الشعراء، والذي يبدو أن ثمة علاقة بين الشعر والفن التشكيلي، وتطبيقات هذه العلاقة تتجلى في كثير من قصائد الشعراء الانكليز حيث يعبرون عن لوحات تشكيلية رائعة استوقفتهم في متاحف ومعارض الفنون التشكيلية؟ كما ان "تكنيكيات" القصيدة الحديثة تكاد تكون مشابهة ل "تكنيكيات" اللوحة الفنية الحديثة، من حيث الغموض، والصورة الغرائبية والتهشيم في بنائية القصيدة واللوحة؟ - بالضبط. ثمة علاقة قوية جداً بين الفنين. يفترض ان يكون هناك تواصل بين الاثنين لوجود هذا التشابه من ناحية، ومن ناحية أخرى يجد الفنان لوحات فنية عدة في كثير من القصائد، والشاعر أيضاً عندما يشاهد لوحة فنية ربما توحي له او تحفزه لكتابة الشعر. وهذه العلاقة العضوية بين هذين النشاطين يفترض ان تتولد عنهما حركة نقدية جميلة. الفن التشكيلي في الخليج كيف تقوّم الحركة التشكيلية في منطقة الخليج مقارنة بالدول العربية الرائدة في هذا الفن؟ - الفن التشكيلي في دول الخليج مظلوم إلى حد ما. للأسف لحد الآن هناك عدم اعتراف كامل من قبل الفنانين العرب بالفن التشكيلي الخليجي، والسبب أنهم لا يزالون يتبنون مفهوماً خاطئاً مؤداه ان عمر الحركة التشكيلية في الخليج قصير، وهذا يؤدي بها إلى أن تظل دون المستوى المطلوب. وأنا لا اتفق معهم في هذا الرأي، لأن قصر المدة لا يعني أنه لا يمكن ان نلحق بالركب. ممكن أن تكون هناك طفرات مثلاً، ووقت الازدهار الذي قضوه يختلف عن الوقت الذي قضيناه نحن. حالياً تكنولوجيا التواصل ومعطيات التكنولوجيا الحديثة جعلت الفرد ينطلق بأسرع وقت ممكن للوصول إلى هدفه. هل ثمة أسباب ذاتية تكرس هذه الوضعية غير العادلة لجهة الحركة التشكيلية الخليجية؟ - هناك تقصير من جهات عدة، الإعلام مثلاً، هناك تعتيم غير مدروس على الفن الخليجي. دعم المؤسسات الحكومية للحركة محدود. الحركة الفنية تعتمد على الامكانات الفردية للفنان، وهي مهما بلغت تبقى محدودة. هذا طبعاً لا يقلل من الدور الذي تقوم به رعاية الشباب بإقامة المعارض الجماعية/ المشتركة. لكن لهذه المعارض سلبيات تتلخص في أن مستوى المعروض من اللوحات المشتركة متفاوت، منها ما يكون في مستوى أعلى والبعض الآخر في مستوى أدنى. وهذا أولاً يضيع جهود الفنانين الجيدين، وثانياً يؤثر في حكم الآخرين حينما يطلب منهم تقويم الحركة التشكيلية مما لو كان المعروض مخصصاً لنخبة جيدة مدروسة أو لفنان واحد من الفنانين المتميزين. لماذا يتجه بعض التشكيليين العرب إلى إقامة معارضهم في عواصم الدول الغربية مثل باريس ولندن وبون وغيرها، في حين أنهم يحاورون عبر لوحاتهم قضايا عربية تهم المواطن العربي بالدرجة الأولى؟ - الانسان هناك وصل إلى مرحلة من الثقافة والوعي بحيث أنه ينظر إلى اللوحة أو أي عمل فني بمنظار يختلف عن الانسان في الدول النامية. لا يزال الانسان عندما ينظر إلى الأنشطة على أنها نوع من أنواع الترف. ويأتي في أولوية اهتماماته أساسيات الحياة من مأكل وملبس ومسكن. أما الأنشطة الثقافية فتأتي في مؤخرة اهتماماته. ولم تصبح بعد مادة يحتاجها احتياجاً فعلياً في حياته لأسباب اقتصادية وسياسية واجتماعية وتربوية. ولكن بسبب استقرار الانسان الغربي على هذه المستويات أصبح يقبل على تذوق هذه الفنون. وهذا يجعل الفنان العربي يتمنى ان يكون هناك ليرى انتاجه يقوّم. البعض يرى أن الهوة السحيقة بين المبدع والمتلقي مبعثها في الغالب غموض اللوحة التشكيلية وإغراقها في التعقيد المتعمد. هل هذا هو السبب؟ - الغموض في اللوحة الفنية ليس فعلاً عبثياً، إنما هو غموض خلاق بمعنى أنه يخلق اشكالية لدى المشاهد تستفزه للتساؤل والبحث والاستقصاء لمعرفة مدلولات اللوحة، وهذا الفعل يولد نوعاً من الجدال والحوار يغني المشاهد والفنان في آن واحد. والنفور أو العداء الذي يتبناه المشاهد تجاه اللوحة الغامضة للوهلة الأولى مبعثه الجهل بلغة الفن التشكيلي والافتقار إلى ثقافة فنية تساعد المشاهد في التعاطي مع اللوحة الغامضة.