"من هو الشاعر العظيم الذي لم يكن غريباً في الأرض؟"، يسأل سركون بولص الساعي إلى دفع التعبير نحو حدوده القصوى، وسبر امكانات اللغة التي يحملها في أعماقه. في هذه الحلقة الثانية، يعتبر الشاعر العراقي الذي يهوى جمع وقراءة القواميس والمعاجم، أن القصيدة من دون ايقاع جثة هامدة، وأن الوجد وحده يرتفع بالنثر من هاويته إلى مستوى الشعر. ويعترف بأنّه يحلم ب "لغة كاملة، أو مكتملة الصفات مركبة من لغات عدة". كما يتحدّث عن المكان الواحد، عن معايشته الطويلة للقصيدة كي تختمر، عن رحلة السبر المتواصل في أدغال المجهول، وعن القصيدة كفعل تصفية للاوعي. هل حدث أن فكرت في وقت مبكر من اقامتك الأميركيّة بالعودة إلى الشرق؟ - كان هاجس العودة موجوداً منذ البداية. الواقع أنني أعطيت نفسي سراً بضع سنوات استنفد فيها ذلك الدافع، تلك الغريزة، أو الشعور الذي لا أعرف كيف أسميه، ثم أعود. لكن بعد فترة قصيرة، تجد أن فكرة العودة بحد ذاتها شائكة، مليئة بالأسئلة. الوضع يبقى فلسفياً بالنسبة إلى الشاعر، فهو يضرب جذوره في أي مكان ليصل إلى الحقيقة النهائية. وجميع الأماكن، في خاتمة المطاف، ما هي إلا مكان واحد، واللغة كلها تصب في مجرى واحد. لكن فوق جميع هذه الأسئلة، كان سؤال الشعر: هل يمكن لي أن أذهب أبعد في التعبير عن هذه التجربة الجديدة، وفي سبر امكانات اللغة التي تسكنني وأحملها معي؟ هل يمكن لتلك اللغة أن تتسع، وتتفتق عن امكانات أخرى، وقابليات مضمرة تتيح لي أن أجدد ذلك التكافؤ بين كفتي الميزان؟ في شعرك المكتوب في أميركا ما يوحي بأن اللغة التي توهم لديك بالانفتاح على العالم المادي، ما هي في المحصلة الأخيرة إلا قصيدة مثقلة بالميتافيزيقي، وبكل ما تكشف عنه أغوار الذات. لكنها، أيضاً، قصيدة شاعر غريب في مكان يعرفه جيداً. كأنّها قصيدة غير عربية لكنها مكتوبة بالعربية... - أظن أن القصيدة تحقق بعدها الثالث حين تخلق حالة تواتر بين العام والخاص، فتصير حقلاً مغناطيسياً يخلق دينامياته اللفظية بالتناسق مع الأشياء المحسومة. التجربة التي استقطبت اهتمامي منذ البدء، كانت حاضرة على الدوام، تطالب بدخول ذلك النسيج النهائي الذي هو القصيدة. كثير من نظريات روبرت تريلي التي غيرت الطقوس الشعرية في الستينات - ومنها ما كتبه في "الشعر الاسقاطي" و"ميدان النفس" - أثرت في نظرتي إلى كتابة الشعر. حاولت ان أطبق بعض مبادئها على شعري، لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فالنظرية دائماً وهم، حين نصل إلى مرحلة التطبيق. ومع ذلك فإن نقطة الاقلاع مهمة. هل بوسعك أن تحدّثنا عن الطموح الفني، المركبات الشعورية، العلاقة مع اللغة... التي دفعت بتجربتك الشعرية إلى القصائد القصيرة جداً في "الوصول إلى مدينة أين" قياساً إلى قصائدك الأميركية الأولى، والدقيقة جداً في اختيار ألفاظها ومفرداتها وموضوعاتها؟ - القصيدة التي حاولت كتابتها في تلك الفترة، كانت تهجس بذلك التطابق الذي بدا لي مستحيلاً، بين الفكرة والتعبير، أي بالتجسيد الحياتي وإضمار التجربة بأبعادها الكاملة في التركيب الشعري. الصورة، أو ما يسمى ب "الصورة العميقة" حسب تعبير روبرت بلاي، هي خطوة في هذا الاتجاه. لكن الصورة لا تكفي، والأثاث اللفظي كثيراً ما يكشف عن غرفة عارية. لا أعتقد أن القصيدة المتوخاة يمكن بلوغها بوثبة واحدة. لا بدّ من سلسلة قصائد تستنبط احداها الأخرى، إنّها الطريقة الوحيدة التي يمكن للشاعر أن يخرج بها من مجال التجريب إلى مجال الانجاز. والكتب ليست إلا سلاسل متلاقحة تفرز اشاراتها وتقيم أدلتها، للوصول إلى القصيدة التي تحقق تكافؤاً حقيقياً بين تجربة الشاعر ككائن حي يمارس حياته، والشاعر كرائي مستسلم ل "فوقية" ما تراقب تجربته وتحس بها، وتجد لها ما يسميه ماندلشتام ب "حتمية التعبير". هكذا ترتبط تعابير القصيدة الواحدة ببعضها في نوع من الحتمية. كل تفريط في هذا المجال، حتى لو بلفظة واحدة، يمكن أن يجعل السلسلة تنفرط. يأتي هذا من معايشة القصيدة لمدة طويلة، وإتاحة الفرصة لنسيجها كي يتنفس ويأخذ أبعاده. من هنا أننا نتعامل مع ما نسميه بالحقيقة، أي الواقع، وبانعكاس ذلك الواقع في مجال اللغة والصنعة الشعرية. الصنعة هنا تحتاج إلى تفسير من نوع جديد، خصوصاً إذا كنا نتكلم عن القصيدة الحرة التي تطلق عليها تسمية غير دقيقة هي "قصيدة النثر". يجب تغريب اللغة لقذفها في المجهول. هناك تنقلب الكلمات على بعضها، وتكشف وجوهها المختلفة - كجوهرة أرخميدس - من الأشعة التي تندلع في مهاوي اللغة. عندما تتحرك الكلمات بهذه الطريقة، يتألف الحقل المغناطيسي الذي تنفرز فيه المفردات وتأخذ أماكنها بدقة. وفي النهاية، بين المستويات المتعددة للقصيدة يتركب مستوى معين آخر مؤلَّف من هذه الانعكاسات. والتوازن بين المستويات هذه ضروري، وإلا انجرف الشاعر إلى مستوى واحد وأغفل استثمار المستويات الأخرى. والشاعر هنا نوع من المهندس، او المعماري الذي يمكنه أن يقف خارج القصيدة بينما هو يشتغل عليها من الداخل. أي وعي للزمن كان يقف إذ ذاك وراء خبرة الكتابة، وفي المحركات الشعورية الباعثة عليها؟ - تبدو لي مسألة الوعي هنا، خلافاً لما يطرحه علم النفس التحليلي، قائمة على حالة تحوّل ترتبط بدخول الأشياء والمشاعر مجال الشاعر. فالشاعر يغرف من كل مكان. يذهب إلى الماضي بينما هو في طريقه إلى المستقبل. إنه أيضاً جزء من أزمنة كثيرة قد تتجاوز الماضي والحاضر والمستقبل. بهذا المعنى، كان الزمن الشعري بالنسبة إليّ هو ذلك الانفتاح الهائل على العالم وحركته، بهدف تحريرهما من حدود الزمن الصغير، وازالة كل ما يعترض هذا الانفتاح أو يحد من تحققه. من واجب الشاعر، ومن صلب مغامرة الكتابة الشعرية، كسر الحدود. كيف تأتيك فكرة كتابة القصيدة؟ - في لمحة خاطفة. أستغرق وقتاً طويلاً كي أفهم من أين جاءت، عندها يبدأ العمل الحقيقي. أين تكتب ومتى؟ - في الليل عادة، عندما يغلق العالم صنبور وعي الآخرين. أحس بذلك الصمت، وافتتح صنبوري الخاص. من هم قراؤك؟ - كثيراً ما طرحت على نفسي هذا السؤال. لكنني معظم الأحيان، لا أرى في النهاية سوى قارئ وحيد، قارئ مثالي ينتظرني في آخر نفق من أنفاق طموحي. ما علاقة الايقاع بالقصيدة؟ - القصيدة من دون ايقاع جثة هامدة. والايقاع بحد ذاته مسألة أذن مدربة تستجيب لقدرات سماعية خفية، تختلف من شخص إلى آخر. الايقاع عالم قائم بذاته، وما الموسيقى إلا جزء منه، لا بد للايقاع أن يحملك كالمهد على موجته، وهذه القدرة هي التي تبرر القصيدة. ما علاقة النثري بالقصيدة؟ - المهم في النثر ليس نثريته، بقدر ما هو علاقته بمصادر العاطفة. وأعني هنا بالعاطفة ذلك الوجد العميق الذي يرفع النثر من هاويته إلى أعالي الشعر، ليس هناك نثر في النهاية، إن لم يكن هدفه النهائي هو الارتفاع عن الأرض ونشدان القصيدة. أيّة علاقة في شعرك بين النثر والايقاع؟ - هناك شيء أسميه المداومة، وهي شرط ضروري في ما أكتبه لتحقيق الرابطة المهمة جداً بين الوجد الذي يستقطب القصيدة وهو الهدف النهائي لها، واللغة النثرية التي تقوم باطلاق القوى التعبيرية اللازمة لبناء ميدان من الطاقات هو في النهاية شكل القصيدة المتكاملة. المداومة بهذا المعنى هي نقاط الالتقاء بين عناصر القصيدة، بحيث تنفتح على بعضها ونحس عند قراءتها بأن النثر تعالى على نفسه وأصبح شيئاً مختلفاً تماماً. هذه عملية معقدة تعمل تحت مستوى الظاهر. وإيقاعها بهذا المعنى ايقاع متكامل، أي يحدث منذ أن تبدأ القصيدة كعمل تجسيدي، ملتحماً بالفكرة وبالشكل بمعمار واحد. أنا أكتب قصيدتي الخاصة وأجد نفسي منساباً مع الأفكار والتقنيات التي تمليها تجاربي المستمرة في كتابة قصيدة النثر. ويبدو أنها بلا نهاية. هل ثمة مواصفات للقصيدة الناجحة؟ - القصيدة الناجحة، هي القصيدة التي تجعلك تقوم بوثبة داخلية للوصول إلى الضفة الاخرى من نفسك. القصيدة الجديدة، وأعني بها القصيدة الحديثة حقاً التي تتجاوز مواصفات الوزن والنثر. مع ت. إس. اليوت نفهم أن كل قصيدة جديدة حقاً يمكن لها أن تغير، لا مواضعات الحاضر فقط لتشكيل المستقبل، وإنما ما كتب في الماضي أيضاً. قصيدة جديدة، جديرة بهذا الاسم، يمكنها أن تغير النظرة إلى امرئ القيس مثلاً. القصيدة التي نتحدث عنها هي التي تصاغ بينما تصوغ العالم، كأي تركيبة فيزيائية أخرى في الطبيعة. أو بالأحرى إن هذا طموح الشاعر الذي يعيش عالمه الشعري هذه اللحظة. إلى أي مدى يمكنك أن تعتبر شعرك المكتوب في أميركا خيانة للتجربة الحية التي عشتها هناك؟ - لأنك تعيش في المجهول عليك أن تعاين معنى الغربة والإلفة. لا شيء نهائياً في عالم الشعر. التاريخ، تاريخك أنت وتاريخ لغتك، قد يكشف عن مجاهله بحيث يضعك على عتبة أخرى جديدة لم تكن لتحلم بها. كل هذا يأتي من السبر المتواصل، وعدم القناعة بتكامل الأشياء. ولعل وال ستفنر عبر عن كل هذا بكلمتين: "الناقص جنّتنا". لكن سؤالك يفضي بطريقة ما إلى مسألة الاغتراب. يخيل إلي أن فكرة الاغتراب لها مستويان: اغتراب في الأرض، واغتراب فلسفي تصوفي ينكشف، ولا يكف عن الانكشاف، في عملية التأمل التي هي من صلب الشعر. من هو الشاعر العظيم الذي لم يكن غريباً في الأرض، سواء كانت أرضه أو أرض الآخرين؟ الشعر، في جوهره، نوع من الغربة. واللغة التي نسميها ب "الأم"، غالباً ما تكشف عن أنها أم جهنمية يمكنها ان تقتل، ولا تمنح حنانها بشكل مجاني على الاطلاق. أية قوة أو جاذبية طاغية حالت دون انتقالك إلى الكتابة بالانكليزية؟ لا سيما أنك عشت انقطاعاً كاملاً عن العالم العربي استمر عقدين من الزمن على الأقل. أهو الوفاء للطفولة مثلاً؟ - أشياء كثيرة معقدة، معقدة جداً. مثلاً؟؟ - اللغة الأولى تدخل في نسيج أحلامك... أية لغة، العربية أم الأشورية؟ - كلتاهما. لديّ ايمان شبه قاطع، بأن هناك لغة كاملة، أو مكتملة الصفات مركبة من لغات عدة. فأنا قد أرى في اللغة العربية ملامح أخرى من يدري من أين جاءت، وبعضها قد يكون أشورياً، او سنسكريتياً، إلخ... الشيء نفسه بالنسبة إلى الانكليزية. كل لغة أوقيانوس فيه ملايين الأسماك، وله قيعان ومهاو لا نهاية لها. كنت مولعاً ذات يوم بجمع القواميس والمعاجم أقرأها كأنها شعر... أظن أن لك قصيدة منشورة في "مواقف" خلال السبعينات تدور حول هذه الرؤية؟ - صحيح. إنها قصيدة "حانة الكلب" وفيها أروي كيف أنني مواجه بمعجم مفتوح تهجم عليّ حشود أسماكه وحيتانه لتغرقني في طوفان من الألفاظ الوحشية، بينها تتلامع مرايا عربية ما بين المتنبي والرواة العرب المهلهلين وصناجات تواريخ قديمة لا أعرف في أي مكان من لا وعيي تسكن. لكن الذي أثارني أن لهذه الاشياء وجود في تركيبي. قضية اللغة تقع في مجال اللاوعي، وكتابة القصيدة هي تصفية لذلك اللاوعي المتشرّب لعناصر تبقى في الطرف الآخر منه. هل يمكن أن نضبط بالكلمات تلك العلاقة الثلاثية الاطراف بين القصيدة والشاعر والعالم، من دون اللجوء إلى عقلنة اللغة؟ - ربما. الشعر نفسه لا يمكن عقلنته بشكل ثابت، ومن هنا تأتي الوثبات الشعرية. إنه عالم اللايقين، حسب مفهوم هايزنبرغ في "فيزياء الكوانتوم". تقول الفيزياء الحديثة إن الموقع الانساني في الكون نوع من "المرصد"، وما من شيء له وجود ثابت من دون الكائن الذي يقف في ذلك المرصد ويسمي الأشياء بأسمائها. الشاعر هو الراصد، وقصيدته هي المرصد، والكون أمامه. الكتابة الشعرية بوتقة سيميائية تنصهر فيها التجربة لتتحول شيئاً آخر، ليس ذهباً بالضرورة. والتجربة الحياتية لا تكفي، فهي قد تنجب قصيدة عادية، كجزء من سيرة شاعر. عليها أن تمر بمراحل كثيرة من الانصهار، لا يمكن أن نخمن تحولها النهائي بعد هذه العملية المعقدة. قد يسعى الشاعر إلى تناول شريحة معيّنة من حياته، لكن لا يمكنه أن يقرر سلفاً أي مصب ستنتهي إليه تلك التجربة، وما التحوّلات التي ستخضع لها. القصيدة تحتفظ بأسرارها ما الذي يجعل القصيدة تستحق اسمها؟ - المثير دائماً في كل قصيدة أنها تحتفظ بسرها النهائي. فالقصيدة التي تكشف نفسها في القراءة الأولى قصيدة ناقصة. وهم الشعر، منذ البداية، كان دائماً أن تكون القصيدة فخاً سحرياً يجتذب القارئ من دون إجبار، ويوحي اليه بالعودة مراراً. هكذا، هناك قصائد معينة لا نعرف تماماً لماذا نعيد قراءتها، في حين أن آلاف القصائد الأخرى لا تحظى باهتمامنا. وما القصيدة العادية؟ - لعلها القصيدة التي لم تعطَ مجالاً للايغال في ذاتها إلى درجة يشعر معها القارئ بأنها بلغت حدودها القصوى. وقد لا تكون فاشلة، بل عاجزة عن تحقيق ذروتها. تعجبني القصيدة التي تحمل مفاتيحها في بنائها، وتكشف لك في الوقت نفسه عن وجود أبواب فيها لاستعمال تلك المفاتيح. مجموعتك الرابعة "حامل الفانوس في ليل الذئاب" هل تعكس تحوّلاً في الرؤيا الشعرية؟ - لا بد لكل كتاب شعري جديد أن يحقق وثبة ما وراء الهموم السابقة التي طرحها الشاعر في كتبه السابقة. "حامل الفانوس في ليل الذئاب" استغرقت كتابته حوالي أربع سنوات، إنّه كتاب لا مجموعة قصائد، أي يبدأ من القارئ نفسه كطرف مباشر في رؤية الشاعر، وينتهي بطفل يحمل فانوساً في الليل ليضيء طريق أبيه. القارئ في نهاية الكتاب يتداخل مع الطفل الذي ينير الدرب. وبينهما يمتد عالم الشاعر بكامله. إنه كتاب حياة، ليس بمعنى السيرة وحسب، وإنما بالمعنى الفلسفي لفكرة العبور من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة، ومن القارئ إلى الشاعر والمجسد للرؤيا والانسان الثاني... ويحسن بي أن أذكر هنا، أن الطفل الذي يحمل الفانوس ويضيء درب أبيه - وهو طبيب شعبي في قرية صغيرة يذهب لمعالجة المرضى والمجانين والتائهين والفقراء بعقاقيره وسحره الشعبي - ما هو في النهاية إلا أدوات الشاعر وشعوذاته وشطحاته ومحاولاته اليائسة لشفاء الآخرين بالكلمات