تعتبر جاوا احدى أجمل الجزر الأندونيسية. فهي على الرغم من بركانها المشهور تنام على ثروة من الآثار تروي قصة حضارة قديمة ما زالت تتجدد حتى الآن. "الوسط" زارت جاوا وتنقلت في مدنها وقراها وعادت بالتحقيق الآتي: مع مغيب الشمس حمل الأب طفلته الصغيرة بعناية ووضعها في سلّة علّقها حول رقبته استعداداً لرحلة العودة الى منزله بالدراجة النارية. وبدأ المزارعون ينطلقون في شوارع القرية على دراجاتهم التي تحمل قصب السكر ليستخدموه علفاً لأبقارهم. وعلى الزاوية جلس رجل مسنّ امام متجره الذي يبيع الأواني الفخارية التي تزدان بالمناظر المختلفة. ان زيارة قرية كاسونغان الوادعة المشهورة بصناعات الفخار خبرة فريدة لا سيما اذا جاءت الزيارة بعد صخب العاصمة الاندونيسية جاكارتا. وقد نجح الفنانون والحرفيون الأندونيسيون في تحويل بعض منتجات هذه القرية البسيطة الى قطع وتحف فنية رائعة اصبحت تعرض في جميع انحاء المتاحف الأندونيسية. تقع قرية كاسونغان الى الجنوب الغربي من يوغي ياكارتا مهد الثقافة والحضارة الاندونيسية، حيث القصور الملكية التي يعمل فيها ويرعاها حتى اليوم حوالي اربعين ألف شخص. واذا ما نظرت الى وجوه اولئك العمال او الناس عموماً وجدت في ملامحهم ما يشير الى وعيهم بحضارة صمدت لقرون. وهي حضارة تبعث لديهم مشاعر الكبرياء والفخر. ومع ذلك فان سكان جاوا بشكل عام اناس نشطون مثابرون يقدمون على التنمية والتطوير والبناء والعمران بكل ما يعنيه ذلك من مسؤوليات. وهم ايضاً اناس يحترمون الفردية والخصوصية ويتسامحون مع الغرباء عن المنطقة. وحين عدنا من يوغي ياكارتا، شاهدنا الفتيان والفتيات يشتركون في ركوب دراجاتهم حين يعودون الى منازلهم من العمل. وفي كل مكان زرناه في جاوا لاحظنا مشاعر المحبة والود مثل تقبيل الاطفال واحتضانهم والتعاطف مع الغرباء ومدّ يد العون اليهم. وأذكر أنني حين غادرت الفندق نسيت الكاميرا هناك. وحين عدت لأسأل عنها في اليوم التالي وجدتها في انتظاري! في صباح اليوم التالي توجهنا الى بورو بودور اكبر ضريح بوذي في العالم. وقد اصبحت ابراجه الشهيرة الرمز العالمي المعروف لاندونيسيا. وفي وسعك ان تجد هذه الابراج اليوم على علب السجائر ومظاهر الزينة المختلفة. وفي طريقنا الى المعبد البوذي مررنا بقرية "منكد" التي تكرس نفسها كاملة لانتاج التماثيل الصخرية التي ينحتها السكان من الحجر الأسود اللون. والقصد من هذه التماثيل العديدة المشهورة بعيونها الجاحظة هو حراسة الضريح والقصور. لكن هناك تماثيل اخرى معروضة في المتاجر ويشتريها الناس العاديون لتزيين منازلهم ومحلاتهم. ان جاوا هي اكثر اجزاء أندونيسيا ازدحاماً بالسكان. اذ يزيد عدد السكان فيها على مئة وستة ملايين نسمة. ونظراً لحاجتهم الى الغذاء الأساسي وهو الرز، فإنهم يستغلون الأراضي استغلالاً كاملاً الى درجة تجعلك تظن انهم يزرعون كل شبر من الأرض ويستغلون كل جدول ونهر فيها، كما يستغلون الرماد البركاني في اخصاب التربة. وقد لاحظنا ان منازل الفلاحين والمزارعين على الطريق تتألف في معظمها من خشب السنديان أو خشب جوز الهند، بينما يستخدم السكان القنب والخيزران لدعم الجدران ولصنع المقاعد. وفي رحلتنا هذه زرنا قرية كانت تحتفل بيوم الاستقلال. وكان الاحتفال صاخباً ومليئاً بكل ما يمكن ان يخطر على البال من عادات وتقاليد محلية ايضاً. وشاهدنا موكباً من الخيول والراقصين والموسيقيين الذين واصلوا الاحتفال حتى ساعة متأخرة. ولم تخل تلك الاحتفالات من ألعاب سحرية ومسلية علاوة على الرقصات الكلاسيكية والشعبية المألوفة في هذا الجزء من العالم. من ذلك مثلاً اشتراك أبٍ وابنة في العزف على احدى الآلات الموسيقية المصنوعة من الخيزران اشبه بالمزمار لرقصة الحصان، وألعاب الدمى المتحركة والناطقة المصنوعة من الجلود. وفي تلك الالعاب ما يحكي قصصاً تاريخية مشهورة مثل الملحمة الهندية "راما يانا" علاوة على القصص والحكايات المتصلة بانتشار الاسلام في هذا الجزء من العالم. كذلك شاهدنا الفرق الموسيقية النحاسية والأدوات الموسيقية الأخرى المصنوعة من البرونز. وقد بلغ عدد العازفين في احدى الفرق ثمانين عازفاً على آلات منوعة وهم يقدمون الحاناً محلية ووطنية وعالمية ايضاً. وحين عبرنا المناطق الجبلية الخلاّبة بجداولها الرائعة التي تنحدر فوق الصخور، وجسورها الخشبية الجميلة التي تربط بين الجبال والتلال بعدما اقامها السكان فوق الوديان السحيقة، وصلنا في نهاية المطاف الى بورو بودور. وهنا وجدنا الهيكل الذي يعود الى اواسط القرن الثامن الميلادي. وهو من دون منازع أروع ما في اندونيسيا من آثار، كما انه رمز يخلّد حضارة "ماهايانا" البوذية. ووجدنا المدينة أشبه بغابة من الرموز والمعالم الأثرية والتاريخية والدينية. ولعل أهم تلك الرموز قاطبة هو البناء الهائل للضريح الذي أقيم خصيصاً لتشجيع التأمل والاسترخاء وأطلق عليه اسم "ماندالا". وحين تصل الى أسفل البناء تبدأ الصعود الى قمة الضريح مروراً بتسع مصاطب معلقة أشبه بالحدائق المعلقة. وحول الضريح ممرات دائرية ضيقة تحدها الجدران المزدانة بمئات الصور والرسوم. ونظراً لعدم استطاعة المرء النظر الى أعلى لشدة حرارة الشمس فانه يجد نفسه مضطراً الى التركيز على النظر الى تلك الرسوم والصور والتماثيل، وهي تحكي حياة بوذا. كما ان هذا الضريح الرائع يفتح لك نافذة على القرن التاسع الميلادي ويصور كيف كان الاندونيسيون يعيشون آنذاك وكيف كانوا يعتمدون على سفنهم، علاوة على انه يعطيك صورة واضحة عن منازلهم ورقصهم وأدواتهم وآلاتهم الموسيقية وملابسهم وغير ذلك من أوجه حياتهم آنذاك. وبعد رحلة مرهقة تصل الى ثلاث مصاطب دون أي جدران. وحينئذ تجد 72 تمثالاً لبوذا حول تمثال رئيسي. وهنا تبرز حكمة هذا الضريح والمعبد الذي يضمه: فعندما تصل الى الذروة تجد نفسك وحيداً مع السماء الصافية والشمس الساطعة بينما تلقي نظرك الى أسفل لترى السهول الرائعة والاشجار الغناء. والى الوراء من بووبودور تصل الى سهل "ديانغ" الذي يرتفع رغم انه سهل حوالى ستة آلاف قدم عن سطح البحر. فهو عبارة عن هضبة مستوية اختارها قدماء الاندونيسيين لبناء اضرحة ومعالم أثرية لا تزال ماثلة حتى يومنا هذا. وبين عامي 700 و780 ميلادية بنى الاندونيسيون ثمانية هياكل. والى الجنوب من هيكل "بيما" توجد سلسلة من الينابيع الفوارة الساخنة القذرة التي تنفث مادة سامة من الفوسفور. وعلى مقربة منها توجد حفرة كبيرة تعرف باسم بحيرة "تيلاغا" وخير وقت لزيارتها هو عند شروق الشمس حين يتغير لون مياهها من لحظة لأخرى حتى طلوع الشمس. وفي أواسط جزيرة جاوا مجموعة أخرى من المعابد والهياكل التي يقال انها تعود الى ما قبل المعابد الهندوسية هناك. وهي منطقة تلقى اقبالاً خاصاً عليها من الزوار القادمين من اليابان. وأهم تلك الهياكل هو مجمّع معابد "برامبانان" على مقربة من يالي. والواقع ان "برامبانان" هو اكبر معبر هندي في نصف العالم الجنوبي. ويكفي ان نوضح مدى ضخامته بالاشارة الى حقيقة مهمة هي ان الاندونيسيين اضطروا الى تغيير مجرى نهر "اوياك" من أجل افساح المجال لإقامة ساحاته الثلاث الشاسعة. ويعود تاريخ بناء الهيكل الى أواسط القرن التاسع الميلادي مع ان النمط المعماري والهندسي الغالب عليه يعطي الانطباع بأنه من عهد لاحق. اما يوغي ياكارثا فمع انها قرية كبيرة، الا انها في الواقع اشبه بمدينة حديثة جداً. اما مركزها ووسطها فهو مدينة داخل مدينة. والمدينة الداخلية عبارة عن قصور ملكية يطلق عليها اسم "كراتون". إذ ان المدينة هي آخر السلطنات الرسمية في اندونيسيا التي يعود تاريخها الى آلاف السنين. وفي هذه المنطقة يعمل اربعون ألفاً على العناية بتلك القصور. ومن الغريب انهم جميعاً يتطوعون لتقديم خدمتهم مجاناً لأنهم من نسل الاجيال التي طالما عملت مع السلاطين السابقين الذين كانوا يرعون آباءهم وأجدادهم ويقدمون لهم ما يحتاجون اليه. ويتمتع السلطان هذه الأيام بصلاحيات دينية وزمنية او سياسية، كما انه رجل اعمال على قدر عظيم من الثراء. علاوة على ذلك فهو يقوم بدور مهم وهو الوساطة بين رعاياه وبقية القوى في جاوا. ومن الطريف ان السكان يتطلعون اليه في الأزمات والكوارث. اذ ان جبل "ميرابي" هو انشط الجبال البركانية في العالم. وهو يثور مرة كل خمس سنوات تقريباً ليقذف حممه ورماده الذي يخصب السفوح والسهول المجاورة له. وفي عيد تتويج السلطان في كل عام لا بد له من حضور الاحتفال الخاص الذي يقام عل الساحل في "بارانغ تريتس" حيث يعتقد الناس ان "ملكة البحار الجنوبية" تغري وتغوي الشباب فيسبحون ويغرقون. وفي قمة الجبل المطلة على المحيط الهندي اقيم واحد من أجمل الفنادق اسمه "ملكة الجنوب". وقد كانت اقامة هذا الفندق حلماً لدى اندونيسي وزوجته الهولندية. والفندق عبارة عن أربعين كوخاً وسط الحدائق الغناء المطلة على المحيط. وكل ما فيها من ديكور وأثاث وطهي ورسوم يعكس صورة صادقة للحضارة الاندونيسية. وفي آخر صباح لنا في هذه المنطقة الساحرة توجهنا الى "سوراكارتا" التي يطلق عليها السكان احياناً اسم "سولو"، وهي مدينة ملكية ايضاً فيها اثنان من اجمل القصور، لأنها كانت عاصمة لامبراطورية "ماتارام"، وفيها متحف غني رائع يشتمل على صورة للسلطان وعائلته منذ القدم. والقصران هما: "تروم لويل" و"مانغون غارن" - وفي شوارع سولو ترى مختلف البضائع والحرف المحلية التقليدية والخناجر والفضة والاقمشة علاوة على عدد كبير من المطاعم. وحين عدنا من رحلتنا مررنا بكلية اسلامية للبنات كانت طالباتها يقمن بعرض جميل وينشدن عاشت اندونيسيا