مضت سنوات طويلة من دون ان تلمس مياه النيل نهاية عمود الرخام العريق في مقياس الروضة الذي تلاشت اهميته الآن. وبينما تنعم قطع رخامية متناثرة في اماكن مختلفة من مجرى النهر بالمياه وهي تعانقها وتسجل علاماتها عليها، فان عمود الرخام في الروضة سوف ينتظر سنوات طويلة جداً قبل ان ينعم بهذه الميزة مجدداً، وربما لن تأتيه الحياة أبداً. كان هذا المكان مؤشر الخير، فيه تحدد المياه نوع الرخاء الذي يمكن ان يأتي لفلاحي مصر من دون ان يبخل بالتحذير اذا ما تجاوز الخير السقف العادي وتحول الى شر. حين كان هذا المقياس يلعب دوراً في حياة المصريين، كمنت المياه في بئر عميق لم يزل موجوداً حتى الآن، ومضت من تجويف الى آخر في ثلاثة تجويفات بالبئر بينما العلامات فوق عمود الرخام تسجل الى أين وصل منسوب المياه. الامر اختلف الآن، فالمياه لم تجرِ من التجويف الثاني والثالث منذ بني السد العالي، وصار يحجز مياه الفيضان خلفه، ولم ترتفع المياه منذ حدث هذا الى نهاية عمود الرخام. وبينما يقف مهندسو الري المصريون ومصورو الصحف في جنوب الوادي، خلف السد يقرأون مع كل شروق وغروب للشمس العلامات التي تسجلها المياه على علامات الرخام في بحيرة ناصر، فإن الصمت يضرب مقياس الروضة، ويلفه الظلام والهدوء، ولا يسأل احد عن العلامات التي سجلتها المياه على عموده الرخامي. هل تسبب هذا في كراهية مقياس الروضة للسد العالي؟ ربما كانت هذه المشاعر موجودة. يقول خفير يجلس امام باب المقياس وفي يده دفتر تذاكر الدخول: "سمعت انه كان مكاناً مهماً، لكنه بعد بناء السد العالي، تحول الى مكان مهجور، تتزايد فيه الثعابين الى درجة انني استدعي من يصطادها من حين لآخر". كانت كل العيون في ما مضى ترقب المقياس حين يزمجر النيل في شهور نهاية الصف، آب اغسطس وأيلول سبتمبر. وهو يزمجر الآن بالفعل، لكن بعيداً عن الروضة. فالمنسوب ارتفع الى 184 متراً خلف السد العالي، وفي كل يوم كانت تختفي تحت مياه الفيضان علامة رخامية جديدة في بحيرة ناصر. ومع كل اختفاء زادت كمية المياه المخزونة، وأشاد العديد من الخبراء مجدداً بدور السد العالي في حماية مصر من خطر الفيضان. يقولون ان كل علامة تخفض في بحيرة ناصر تعني انه كانت هناك مزارع وبيوت في مقابلها سوف تختفي ايضاً لو عبرت امواج الفيضان بحيرة السد. مضى الزمن الذي كان المصريون فيه يسعدون بالفيضان. مضى الزمن الذي قال فيه الفيلسوف سفيكا: "انه لمنظر بهيج ان نرى النيل يمر فوق الحقول وتختفي الأرض المنخفضة وتقع الاودية الصغيرة تحت سطح الماء وتبرز المدن كالجزر. ما من مواصلات ممكنة عبر هذا البحر الداخلي الا بالقوارب". لقد مضى الزمن الذي كان المصريون يصطادون فيه الاسماك من الحقول، ويصلون الى بيوتهم التي طالتها المياه فوق جذوع نخل طافية، وتكرس الزمن الذي تمت السيطرة فيه على مجرى النهر، وصار هذا المبنى الروماني في الروضة الذي يحمل اسم المقياس مجرد اثر تاريخي. والواقع ان "المقياس" كان يجب ان يصبح هكذا، وهو بهذا صار شهادة على دور العصر الروماني وإسهاماته في مجرى النيل. فقد بني على رأس جزيرة الروضة قبل الف و60 عاماً، وصار ملء السمع والبصر لكل سكان الوادي الى ان نسوه خلافاً للقناطر الخيرية تلك التي بناها محمد علي وبقيت لها اهميتها رغم وجود السد العالي. ان المقياس الذي يعتبر شاهداً على تاريخ النيل هو ايضاً شاهد على نوع العمارة الجميلة التي احترف المصريون وغيرهم التعامل بها مع مجرى النهر، حين يبنون عليه سداً، او قناطر او مقياساً. ويعلو عمود الرخام المقسم بالذراع والسنتيمتر تاج روماني رائع، قربه مشاية من الخشب دوّنت عليها آية الكرسي بالخط الكوفي. وفي تجويفات البئر فتحات تهوية كتبت ايضاً عليها آيات قرآنية بالخط الكوفي وأراد الخليفة المتوكل ان تسجل علامة لعصره. وفي جانب آخر من البئر سلم طوله 11 متراً، يهبط الى اسفل، حيث تمكن رؤية المقياس. وعلى الرغم من حبي للنيل ومياهه، إلا انني خشيت ان اقترب من هذه النقطة التي لم تتحرك منذ زمن طويل، وخرجت الى ضوء الشمس حيث يجري النيل على اتساعه. كانت هناك قافلة من القوارب الفاخرة تمضي رافعة الاعلام، تحتفل بالفيضان الذي لم يصل الى المقياس. وكان احتفالها رمزياً لمناسبة "وفاء النيل"، وهو احتفال كان المصريون القدماء في عصور الفراعنة يقدمون فيه لمجرى النهر واحدة من بناتهم قرباناً للنهر الذي فاض بالخير. ثم تطور الزمن وصاروا يلقون في اعماقه تمثالاً، ثم عادوا وقرروا ان يحتفلوا بوفائهم له بالورود وبإقامة حفلات زفاف جماعية على سطح مياه النهر. وكأن المصريين قرروا ان يكتفوا بزواج الفتيات والفتيان الذين انجبهم النيل في عيد فيضانه من دون ان يقدموا شيئاً للجوف المائي الذي لم يعد يهدر كما كان يفعل قبل بناء السد العالي. قرب المقياس، وعلى بعد خطوات من قصر المنسترلي، وقفت ارقب المياه وقد صارت بنية اللون، ما يدل على نسبة عالية من الغرين، الطمي بعد ان كان لون المياه قبل ايام يميل للأخضر بسبب ما يحمله النهر في بطنه من رواسب باللون نفسه. يقول معجم الحضارة المصرية القديمة ان المصريين حين كانوا يرون هذه الألوان كانوا يذهبون الى مواضع مقاييس النيل في كل عام، وبينها مقياس الروضة، وخصوصاً عند سد جبل السلسلة ويقذفون في النيل بالكعك والفاكهة والتمائم لاعتقادهم ان هذا يمكن ان يثير قوة فيضان النهر. لم يعد احد في مصر يفعل هذا، ولا تقام بجانب مقياس الروضة اية احتفالات تثير الفيضان. لكن النهر فاض بشكل لم يسبق له مثيل منذ بني السد العالي، حتى اضطرت وزارة الري لأن تفتح مضيق توشكا في جنوباسوان، كي يستوعب الفيضان. وبينما كانت الحياة تزغرد على جانبي القوارب والسفن، والسياحة النيلية تزدهر بعدما عانت من انخفاض منسوب المياه، وفيما كانت كل الجسور على نهر النيل في القاهرة تعاني من زحام المشاة الذين يتابعون بفرحة تدفق مياه الفيضان، كان مقياس الروضة يعاني من التجاهل على رغم التجديدات التي تمت عليه اخيراً لجعله اثراً مهماً. ويقول الخفير الوحيد في المقياس: "لم أبع تذكرة لزائر منذ وقت طويل"