مع انتهاء هذا القرن تحتفل مصر بمرور مئة عام على دخول الفن التشكيلي الحديث اليها، مع الفنانين الاوروبيين الذين جاؤوا الى ميناء الاسكندرية ومدينة القاهرة. وسرعان ما فتح هؤلاء بيوتهم ومراسمهم لفنانين مصريين شبان اخذوا يرسمون لوحتهم فوق مساحة من القماش مشدودة على حامل خشبي، مستخدمين ألواناً من الزيت. فمصر التي سبقت العالم كله في الفنون البصرية ايام الفراعنة، عرفت انقطاعاً استغرق قروناً بين تراثها التشكيلي القديم وفنونها الحديثة. الا ان هذا التراث نفسه كان عاملاً اساسياً في التطور المذهل الذي شهدته الفنون الحديثة خلال القرن العشرين، حتى باتت من اكثر المجالات الابداعية تميزاً وتقدماً. ولعل الوقت حان للقيام بنوع من المراجعة التأريخية - النقدية، لهذه الحركة المزدهرة بمختلف فروعها، مستعرضين صيرورتها وملامحها وعلاماتها ورموزها وأبرز وجوهها وفنانيها وأهم اتجاهاتها ومكوناتها... ونبدأ هذه الرحلة البانورامية بالتصوير. على الرغم من ان التجريد ظهر في مصر منذ مئات السنين، وبلغ ذروته مع الفن الاسلامي في الزخرفة والنحت على وجه الخصوص، فإن المفهوم الحديث للفن التجريدي لم يظهر إلا في نهاية الخمسينات من القرن العشرين. فخلال هذا العقد اخذ فن التصوير يتحول خطوة خطوة من السوريالية الى الرمزية والتعبيرية، مقترباً من التراث الشعبي المصري عبد الهادي الجزار وحامد ندّا، ومتأثراً بالمعارك والاحداث الوطنية والاجتماعية الكبرى التي شهدتها تلك الحقبة. والمدهش ان "التجريدية" التي بدأها كاندنسكي ومندريان مطلع القرن، ابصرت النور في القاهرة على يد رائدين مصريين هما رمسيس يونان وفؤاد كامل، مُطلقاً السوريالية في اواخر الثلاثينات وأوائل الاربعينات. في لوحات رمسيس يونان تأمل ورصانة، ونظرة سوريالية لا تُرى إلا من خلال التكوينات التجريدية المحطمة بألوانها الداكنة الغامضة. وفي لوحات فؤاد كامل تكوينات قلقة وضخمة تفترض خطوطها اللوحة في جميع الاتجاهات. انها تجريدية لا هندسية، او تجريدية صلاح طاهر التي لم تخل من الملامح الانسانية، ولكنها تجلت خصوصاً في تكوينات موسيقية دوارة صاغها بفرشاته العريضة وألوانه الجديدة من درجات الاخضر والازرق على وجه الخصوص. انها تجريدية معبرة في اطار هندسي منظم ومرتبط بالوجود والانسان. ثم شكل رمزي مصطفى 1926 خطوة اخرى متقدمة في الاتجاه التجريدي الذي بدأه رمسيس يونان وفؤاد كامل. فابتكاره قام على تجسيد اللوحة التجريدية، والخروج منها الى اعمال مجسمة بخامات غير مألوفة، محاولاً اقامة وحدة بين الفنون التشكيلية في اعماله. وعند رمزي مصطفى الفكر اهم من التشكيل، لذا نجد دوافع سوريالية وراء اعماله التجريدية وتكويناته المجسمة. وعلى الطرف الآخر، طرف التصوير التشخيصي الذي كان بداية الفن الحديث في مصر، نجد في الخمسينات فنانين طوروا هذا الاتجاه برؤى وأساليب متنوعة. فمن السوريالية بدأ عبد الهادي الجزار وحامد ندا وسامي علي حسن طريقاً جديداً يمزج بين التعبيرية والرمزية، كل بأسلوبه وتقنياته الخاصة. لكنهم راحوا ينهلون من الاساطير والرموز والخطابات والطقوس الشعبية ليبدعوا لوحاتهم المتميزة. عند حامد ندا 1924-1990 روح سافرة ومرحة، وعند عبد الهادي الجزار 1925-1966 حس ملحمي شعبي، وعند سامي علي حسن 1927-1988 فطرية وبساطة، وتفضيلاً للرسوم غير الملونة. التراث الفرعوني والحروف العربية ومن الواقع الشعبي - وليس الفولكلور الشعبي - استمد سيد عبد الرسول وكمال يكنور عالمهما، مستفيدين من التراث الفرعوني في التصوير والرسم من حيث التكوين. فسيد عبد الرسول مزج التكوين الفرعوني بملامح من الزخارف القبطية مستخدماً ألواناً متوازنة، ومحققاً تنغيمات من الوحدات تداخلاً بين العناصر والاشكال المرسومة والخلفية المطرزة مع الاهتمام بالقيمة الزخرفية والألوان المبهجة. صبري راغب 1920 وعز الدين حمودة 1919-1990 واصلا تصوير الوجوه الذي بدأه الرائد احمد صبري، لكن كل بأسلوبه وشخصيته. فحمودة كان أنيقاً وارستقراطياً، تفيض لوحاته رقة وعذوبة، يرسم الثراء في الشخصيات والخلفيات. لذا لا غرابة في استخدامه رقائق ورقية ذهبية في خلفيات لوحاته. اما صبري راغب الذي نبغ في الرسم، خصوصاً رسم الوجوه "البروتريه"، فوجوهه معبرة، يستنطق مشاعرها الداخلية فتبين على الملامح. هناك فنانون متأملون، استغرقوا في التعبير عن حبهم للطبيعة وتأملهم لنتاجها. نذكر في هذا الاتجاه حسن سليمان ومحمود عفيفي ومصطفى الأرناؤوطي، وأيضاً صبري راغب في زهوره. لكن حسن سليمان يظل الزاهد الاكبر، وأستاذاً يذكرنا بزميله حامد سعيد. كان حسن سليمان 1928 في الخمسينات والستينات غزير الانتاج، منشغلاً بالتوازن اللوني في لوحاته. وقاده الاهتمام بدراسة ورسم الاشكال الهندسية، الى الاهتمام بالطبيعة الصامتة التي تفرّغ لها. وقام بتجارب مهمة في هذا الاتجاه قاصداً الوصول الى صفاء ونقاء اكبر لعناصر اللوحة وجوها، مختزلاً الألوان في الرماديات، وأبدع في النهاية جواً صوفياً تستقر او تهيم فيه طبيعة ساكنة. محمود عفيفي 1920-1982 بدوره اخلص الى القلم الرصاص. فظل طيلة حياته يرسم به. وقلة هم في تاريخ الفن المصري الحديث عرفوا مثل هذا الاخلاص، نذكر منهم محمود بقشيش لاحقاً على سبيل المثال. اما مصطفى الأرناؤوطي 1920-1976 فكان نموذجاً لمعلم الرسم. ظل طوال الخمسينات تشخيصياً، مهتماً بدراسات النبات وتشريح الانسان ومناظر الطبيعة، لكنه تحول في الستينات الى التجريد. وذهب كل من محمد حامد عويس وممدوح عمار، في اتجاه تصويري آخر. كانا يحبان الصور الصرحية الكبيرة او الجداريات، فشكلا ريادتهما في هذا الاتجاه، مستخدمين الاحداث السياسية والاجتماعية المهمة كمادة للتعبير الفني. كان محمد حامد عويس يمجد في لوحاته العمل اليدوي بأسلوب بسيط ومتماسك، وتخلص في اعماله الخيرة من الواقعية المباشرة منتقلاً الى الرمزية مع استمرار اخلاصه لمواضيعه السياسية والاجتماعية. بينما اظهر ممدوح عمار 1928 في المواضيع نفسها تفوقاً تعبيرياً، وأجاد اختيار عجائن الألوان المناسبة لثراء السطح. في الفترة نفسها كان حامد عبد الله 1917 - 1985 بدأ في اكتشاف الامكانات التشكيلية للحروف العربية، وأخذ يستخدمها بشكل تعبيري في بناء اللوحة. حاول ان يوحد بين شكل الكلمات ومعناها عن طريق التصوير، وأراد ان تنطق الكلمات بدلاً من ان ننطقها نحن. وجاءت كلماته اجزاء من ابنية معمارية، حرص على ابرازها ليس فقط بالتكوين، ولكن ايضاً بالسطح والألوان المبتكرة والتي تشبه شبكة من الخطوط المتفاوتة السمك. ويبقى الكلام عن الخمسينات ناقصاً طالماً لم يتطرق الى الفنانات اللاتي برزن اعتباراً من تلك السنوات، وان كان بعضهن بدأ قبل عقد او اكثر. لكن تلك الحقبة المحورية فتحت ابواب الريادة امام اكثر من واحدة لعبت دوراً ملحوظاً في تاريخ الفن الحديث: إنجي أفلاطون خرجت من معطف استاذها السوريالي كامل التلمساني لتنسج عالمها الخاص، واذا بها تقترب من الواقع بألوان طازجة حية وبأسلوب يذكّر بالتنقيطية. وبدخولها مرحلة نضالية، ظهر اهتمامها بالفلاحين، بل الفلاحات والنساء عموماً. اما تحية حليم فشرعت تعيد بناء الواقع حولها بما فيه من شخصيات خاصة وحيوانات أليفة واشياء حميمة، في مناخات لونية اقرب الى الداكنة. نذكر كذلك جاذبية سري، وعشقها للأماكن والمباني التي استوحت منها تكوينات عدة، وأحالتها الى تجمعات تجريدية لا تخلو من موسيقى، وان كانت مختلفة تماماً عن موسيقى صلاح طاهر. وكانت جاذبية سري تعبر في الخمسينات عن القضايا الاجتماعية عموماً، وكفاح المرأة في المجتمع على وجه التحديد. ونلاحظ انها استمرت طوال تاريخها التشخيصي تهتم بالمرأة، ما جعل بعضهم يميل الى اعتبارها "فنانة نسوية". "الكولاج" والثورة الدادائية وفي أوائل الستينات ظهر اسلوب "القص واللصق" الكولاج في الفن التشكيلي المصري. وكان منير كنعان من أوائل مستخدميه، ثم جربه فنانون كثر في مرحلة او اخرى من اعمالهم الفنية. لكن منير كنعان 1919 تميز بهذا الاتجاه. لم يعد الكولاج عند كنعان زخرفاً، او عنصراً مثيراً، او هروباً من تصميم اللوحة، بل اصبح ابداعاً متكاملاً. ولم يكتف كنعان بالكولاج على الورق، فاشتغل على مواد صلبة كالخشب. كان هذا الفنان من أكبر المستوعبين للثورة ال "دادائية" التي شهدها الربع الاول من القرن، وقامت على تحطيم تقاليد الفن القديم. وفتح بذلك امام مجايليه في الستينات والكثير ممن أتى بعدهم، طريق الخروج عن المألوف وعصيان تقاليد اللوحة الكلاسيكية. لم يعد مهماً تصنيف اللوحة في خانة السوريالية او التجريد او غير ذلك، بل بات المهم ان تكون تجريبية، أي ان تفتح آفاقاً جديدة، وتأتي مشرعة على المغامرة الابداعية، وتفصح عن "رغبة" التعبير. في هذا السياق نتوقف مثلاً عند زكريا الزيني 1932-1993 الذي بدأ تقليدياً، ثم تحول الى طريق كنعان باحثاً عن "التوافه" او الاشياء الهامشية. اقام اعتباراً لصفائح القمامة ومجدها على اللوحة التي اضاف اليها مجسمات او عناصر جاهزة الصنع. وعلى طريق الدادائيين الذين كانوا اول من استخدم الاشياء الجاهزة في الفن، عرض الزيني "موديلاته" هذه الى جانب اعماله الفنية. وهناك فنانون مضوا في مسار التجديد، مبتكرين رؤى تجريدية مختلفة عما أتى به يونان وكامل وكنعان. فكمال السراج 1934 اخذ فكرة الاحتفاء بالحرف العربي من حامد عبد الله، لكنه وضعها في تصميمات تجريدية مقصراً اهتمامه على بعدها التشكيلي، بحيث بات شكلها هو مضمونها. بينما خطا احمد فؤاد سليم 1936 بالحروف العربية خطوة اخرى، عضوية اذا صح التعبير. وجاءت لوحاته اقرب الى الكونشرتو الذي تدخل فيه آلة او اثنتان في حوار مع آلات الاوركسترا. نشير ايضاً الى عبد الرحمن النشار 1932 الذي بدأ انطباعياً، ثم تحول الى التعبيرية، لينتهي تجريدياً هندسياً يركز على عجينة اللون السميكة، والايقاع والتناغم بين ألوان المساحات. وقريباً منه، على رغم الاختلافات، يقف مصطفى عبد المعطي 1938 السكندري الذي لازم الخيار التجريدي، وتلاعب بالأشكال الهندسية. وبعد فرسان التجريد في سنواته الاولى، تطورت الاتجاهات التشخيصية للوحة المعارضة في الستينات في اتجاهات عدة. وشكل سعيد العدوي وعادل المصري وعبد المنعم مطاوع وصفوت عباس الموجة الثالثة في الاتجاه المتيافيزيقي والسوريالي. صفوت عباس 1931 اهتم باللون رقيقاً او سميكاً او بين بين، كما اهتم بالانسان وبسبر اغواره. عبد المنعم مطاوع 1935-1982 يجعل المشاهد متأملاً امام لوحته التي يشحنها بالفكر. عاش يصارع الحياة على سطح اللوحة، لكنها ليست الحياة التي نراها بل تلك التي يحدسها. عادل المصري 1937 يبسط الكائنات، منذ تأثر بالرسوم الاولى للانسان البدائي، حتى الرسوم الاخرى التي تستوحي انسان الفضاء... مسافة شاسعة يقطعها بلمح البصر، عبر تحولات الظل والضوء في عمق اللوحة. اما سعيد العدوي 1938-1973، فهو سليل عبد الهادي الجزار إنما بمذاق مختلف. اذ غرف من الرسوم والطقوس والادوات الشعبية، معيداً تكوينها في حيز تتحاور ضمنه الكائنات بالصمت، وبالفكاهة السوداء، على طريقة السورياليين. لوحته نقية من بهرجة الالوان، ينقسم فيها العالم الى ابيض وأسود. وشهدت الستينات ايضاً بزوغ "راهب" آخر في الرسم بلون واحد - الرصاص - لكنه احاله الى عالم من الالوان. انه محمود بقشيش 1938 الذي تمكن بموهبته وقدرته الفذة على تفجير امكانات مدهشة من قلم الرصاص. وحتى عندما صور بالألوان، جاءت ألوانه زاهدة مثله، ينتقل فيها بين الدرجات اللونية عن طريق تنقله بين درجات الظل. تصوير الحياة الشعبية ولعل الحياة الشعبية التي استمد منها سعيد العدوي عالمه التشكيلي، ظلت مصدر وحي للعديد من الفنانين التعبيريين، ولكن من دون البعد الميتافيزيقي. وبين الذين اهتموا بوقائع تلك الحياة، نشير الى رفعت احمد وسوسن عامر وعلي دسوقي. صور رفعت احمد 1931 احياء شعبية في الريف وفي المدينة وفي الواحات. انبهر برقص الخيول، وبرقص البشر في الشوارع، مثلما انبهر بأزياء اهل الواحات وعاداتهم وأفراحهم. وتتجلى انوثة سوسن عامر في لوحاتها، فهي رقيقة في التصوير، ودقيقة في اختيار عناصر اللوحة. حاولت عامر ان تكون فنانة شعبية، لا مجرد مصورة لمواضيع شعبية، لذا صورت الوشم والكف وغير ذلك من الرموز. وحتى عندما غيرت موضوعها، فهي لم تغادر الاحياء الشعبية في القاهرة القديمة. الكلام نفسه ينطبق على علي دسوقي 1937 الذي هو احد ابناء تلك الشوارع العصاميين. تعلم مباشرة من الواقع كيف يصوره، فأتت لوحاته شفافة ومؤثرة. ويبدو انه لم يكتف بذلك، بل اراد ان يصل الى ناسه كلهم عبر الرسم على القماش بالاصباغ مع استخدام الشمع. وفي الجو الاسلامي نفسه تخصص الفنان رؤوف عبد المجيد 1932-1989 الذي أعاد صياغة العمارة الاسلامية بزخارفها ومشربياتها... فهو استخلص القيم الجمالية في العمارة الاسلامية ولونها في اطار جديد، مؤسساً لمدرسة خاصة في هذا المجال. وحرّكت الدوافع نفسها جمال قطب وحلمي التوني اللذين اختارا الكتب مجالاً للتعبير عن رؤاهم لأحداث وأشخاص ومفردات العالم. برز جمال قطب 1934 في الرسم الواقعي وتعبيرات الوجوه، بينما اتجه حلمي التوني 1934 الى الرسوم الشعبية، معيداً إبداع شخوصها وأحداثها بحس طفولي ناصع، فقام عالمه التشكيلي على ركيزتين: الحركة والبهجة. ولعل عدلي رزق الله 1939 الذي أحب الاطفال والورود، واستأثرت بلوحته خامة الألوان المائية، لا يبتعد كثيراً عن هذا المنحى. وهو ايضاً احد متصوفة الرسم على الطريقة التي انتهجها في الخمسينات حسن سليمان ثم تبعه اليها محمود بقشيش. لكن خصوصية رزق الله تكمن في ذلك الزواج المدهش بين التصوف والجنس. الجنس هنا هو الروح التي تشبع بها اللوحة فتمتلئ، وليس الجسد المكشوف علينا. ونجد في الستينات بالطبع تنويعات وابتكارات جديدة في اتجاه "ترسيخ الهوية القومية" للفن، عن طريق ابتكار أساليب وتقنيات خاصة، او التعامل مع مواضيع معينة. في هذا الاتجاه برز عبد الوهاب مرسي وأحمد الرشيدي وفاطمة العرارجي وجورج البهجوري. درس كل هؤلاء بعناية التصوير المصري القديم الفرعوني والقبطي احياناً، فبرز كل منهم باتجاهه الخاص واجتهاداته المتميزة. عبد الوهاب مرسي 1931 كان اقربهم الى ما يريد. انشأ شخوصاً في سكون، عبر عن الخلود والبعث والحياة. لم ترضه الخامات التقليدية، فجرب خلط خامات متنوعة كالرمل والمواد اللاصقة، اضافة الى عجائن لونية مبتكرة، ليعطي لوحته صلابة وإحساساً اقوى بالخلود. احمد الرشيدي 1931 شغلته وجوه النساء المصريات، كما اهتم بتصوير التنوع في الواقع المصري: في الريف والنوبة. استخدم الدرجات اللونية التي كان يستخدمها الفنان المصري القديم والتي تتدرج من الاصفر الى الاحمر الطوبي مروراً بالدرجات البنية كما استخدم الازرق... كأن فن الرشيدي هو الطور الضائع في تاريخ الفن القديم. وأكدت فاطمة العرارجي مصريتها، برؤية مختلفة تقترب من الرواد الأوائل راغب عياد ومحمد ناجي. كما اهتمت فترة بالرسم الجداري الفريسك ويبدو انها لم تجد صدى فتحولت عنه. اما جورج البهجوري 1932 فأخذ فن البورتريه الى آفاق جديدة، وعاد الى وجوه الفيوم الشهيرة في الفن القبطي يستلهمها، ويضيف اليها انجازات الفن الحديث اللونية والفكرية. أخضع الوجوه الى نوع من "التكسير"، مستفيداً من انجازات بيكاسو والتكعيبية. ربما اراد ان يوحي من خلال وجه معين بوجوه اخرى، وعبر العين الواحدة بنظرات متعددة الاتجاهات، لكنه حرص على إحاطة وجوهه بنوع من الهالة القدسية. بين رموز الستينات ايضاً لا بد من التوقف عند ليلى عزت التي تميزت لوحتها بتعبير قوي خاص، قوامه تكوينات من الخطوط والمساحات اللونية. ومن هلام المادة تخرج خيول لتحقق للمشهد انسيابية موسيقية حركية مستمرة صاخبة وجريئة وحية، علاقات لونية نقية ومكتملة، بحث دائم خارج من اللوحات الى المطلق. السبعينات والتجريد الشعوري في السبعينات اتسع اطار التجربة، وزاد عدد الفنانين التجريديين وتنوعت اتجاهاتهم. أبرزهم كان فاروق حسني السكندري الذي بدأ هو الآخر واقعياً، ثم تحول الى الانطباعية وراح يرسم البحر الذي امامه والصيادين امام البحر. لكنه عقب سفره الاول الى فرنسا في نهاية الستينات، حوّل كل واقعه وانطباعاته الى مساحات لونية ذات علاقات موسيقية، بادئاً نهجاً يمكن ان نطلق عليه "التجريد الشعوري". وأصبح حسني، فيما بعد، استاذاً في هذا الاتجاه الذي تأثّر به عدد من الفنانين. اقرب تجريديّي تلك الحقبة الى فاروق حسني، محمد رزق 1939 الذي اعتمد على توزيع المساحات اللونية هندسياً، وخلق علاقات وحواراً بين هذه المساحات، ثم اخذ يتخفف من الانضباط الهندسي، شيئاً فشيئاً ليصبح اكثر "تعبيرية". في الاتجاه نفسه، أبحر سكندري آخر هو فاروق وهبة 1942، حرص على ابراز العلاقات بين الاشكال التجريدية وما حولها، هادئاً في ألوانه التي يمزجها بعناية وتمكن، ويطلقها احياناً في ضربات تبدو عشوائية عريضة. اما راغب اسكندر 1947 فنحى منحى آخر في التجريد، يمكن ان نطلق عليه تجريد المعاني. اذ اقام بين الاشكال الهندسية والمساحات الخطية المجردة علاقات تعبيرية، مستخدماً ألواناً زاهية على مسطحات كبيرة. وفي تنويع آخر مارس عبد المنعم عوض 1947 تجريده الزخرفي، بادئاً باستلهام وحدات وألوان الفنون الشعبية، قبل الانتقال الى مؤثرات كالفن المصري القديم واللغة الهيروغليفية، وصولاً الى زخارف التشكيل العربي وايقاعاته. اما حسن غنيم 1948 فوجد في الزخارف العربية مصدراً ثرياً انطلق منه الى "صرعات" الفن الحديث وال "بوب آرت". حيث كوّن دوائر متجاورة، وحقق الخداع البصري، موحياً بالأعماق والاحجام عن طريق اللعب بالضوء والظل. وفي طريق التجديد نلتقي باثنين من الطليعيين الذين بدأوا البروز في هذا الوقت: فرغلي عبد الحفيظ 1941 وعصمت داوستاشي 1943، تجمعهما الرغبة في تقديم جماليات جديدة وكسر المألوف وحب المغامرة الفنية. اهتم الاول عبد الحفيظ بالقيم التصويرية، مقسماً اللوحة الى مناطق نفوذ لونية بينها علاقات جوار وتداخل. وتأتي الحيوية من عناصر عدة منها درجات سخونة الألوان، وادخال مواد اخرى على السطح. لكن الاهم هو اقامة امتداد للوحة خارجها، من خلال عرائس صنعها وقدور فخارية او اقفاص أتى بها لتجاور لوحاته الباستيل وتتحاور معها. اما عصمت دواستاشي فخرج ايضاً من اطار اللوحة التقليدية وخاماتها المعروفة، ولكن خروجه كان هاجساً مستمراً، لا يقنع بالتوقف عند شكل معين، هاجساً فلسفياً وفكرياً يترجم تشكيلياً بجماليات صادمة. ومن السهل ان نعيده الى السوريالية او حتى الدادائية كما فعل كثيرون، لكن تلك المقاربات تفتقر الى الدقة، فالفنان يخرج علينا بتأملاته الواعية لا بأحلامه. كما انه يستعير بعض مفرداته من المعتقدات الشعبية والاشياء القديمة، لكنها هنا مجرد خامات اولية بين يديه. وفي اطار استلهام الفنون الشعبية، يمكننا ان نتحدث عن جمال لمعي 1948 الذي يستخدم الزخارف، ويعمد الى تضخيم الرؤوس ليعطيها اهمية اكبر من بقية العناصر. وجرّب لمعي الرسم على خامات غير تقليدية كالجلد ليعطي ابداعه قيمة تطبيقية. ما وراء الواقع ورمزية الألوان ويمكن القول ان السبعينات لم تشهد بروز مصورين سورياليين بمعنى الكلمة باستثناء نهى طوبيا، لكنها شهدت بروز مصورين ميتافيزيقيين، اهتموا بما وراء الواقع، وبالهواجس والمخاوف والرغبات الانسانية. من هؤلاء صبري منصور ومحمد شاكر عبد الخالق. استخدم صبري منصور 1943 عناصر من الطيور المتحولة، والاجساد المكفنة في غموض شفاف، كأن الانسان يعبر في برزخ لا نراه. وتأثر في بناء لوحته بالتكوين الفني للصور الفرعونية حيث تنتظم اللوحة في خطوط او تقسيمات مستقيمة من دون منظور. وتغلف تدرجات اللونين الازرق والاخضر سطح لوحته، فتبدو كأنها مغمورة بضوء القمر. امام محمد شاكر عبد الخالق 1947 فتوحي اعماله بالتوتر والخوف من المجهول. الاشكال التي يرسمها مجسمة خشنة الملمس لها ثقلها وكأنها منحوتات، يغلب عليها اللونان الاسود والرمادي مع مناطق شديدة الاضاءة، تصور معظمها اماكن مهجورة على شاطئ. ويشكل الفنان مصطفى الرزاز 1942 جسراً بين اتجاهي التجريدية والميتافيزيقية، والاتجاهات التعبيرية الاخرى في التشكيل المصري المعاصر. يعبر الفنان عن أفكاره من خلال رمزيه الشهيرين: الحمامة والحصان، ضمن تكوينات لونية تجريدية مصورة باتقان. كما حاول الرزاز العودة الى فن المنمنمات الذي يستحق عرضاً مستقلاً. هناك فنان آخر يلجأ الى الرمزية في لوحته، انه شاكر المعداوي 1944. ورمزية هذا الاخير لا تقتصر على التشخيص كاستخدام وجه فتاة او ثور او حصان، بل تتجاوزها الى رمزية الالوان في علاقاتها المختلفة. فهناك خطوط متصارعة وعنف ينبع من ألوان داكنة في لوحاته الكبيرة... وهناك رقة وشاعرية في رسومه الصغيرة. وهذا التنوع ينعكس على الخامات التي يستخدمها، بين القلم الرصاص والفحم والألوان المائية وحتى الألوان الزيتية. العدد المقبل: التصوير والنحت