ترك أفرام عيسى يوسف شمال العراق حيث ولد قبل 52 سنة، لكي يأتي إلى فرنسا ويستقر أولاً في مدينة نيس، حيث درس الفلسفة والحضارة. وقبل حوالي 15 سنة انتقل إلى مدينة تولوز بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، ليعمل مدرّساً للغة العربية وآدابها. بعد ذلك اختار أن يقيم في باريس التي اعتادت أن تجلب إليها كل من اتسعت آفاق طموحاتهم. فإضافة إلى مهنة التدريس التي واصلها في جامعة باريس العاشرة، انضم أفرام يوسف إلى فريق أبحاث في الجامعة نفسها، يهتم بعالم البحر الأبيض المتوسط والعالم الشرقي. وحتى لا ينسلخ أفرام يوسف عن ذاكرته الفردية والجمعية، عمد إلى نشر كتاب باللغة الفرنسية، صدر سنة 1993 عن دار "لارمتان" الباريسية بعنوان "شذى الطفولة في سانات: القرية المسيحية في كردستان العراق". وعاود الكرّة هذا العام بكتاب ثان، بالفرنسية أيضاً وعن الدار نفسها، عنوانه "بلاد الرافدين أو فردوس الأيام الخوالي". وفي هذه المناسبة، إلتقينا الكاتب الذي عهدت إليه "لارمتان" أخيراً بإدارة سلسلة جديدة باللغة العربية تحمل اسم "الكلمة الحرة". وهي مغامرة قررت الدار الباريسيّة خوضها، وأشركت فيها أفرام عيسى يوسف كأنّما لتكافئه على مغامرته الحياتية والأدبيّة. اسلوب الكتابة الروائية كيف جاءتك فكرة "بلاد الرافدين أو فردوس الأيام الخوالي"؟ - السبب الرئيسي هو اكتشافي أن الغرب يعرف جيداً الحضارة المصرية الفرعونية، لكنّه لا يعرف عن حضارة بلاد ما بين النهرين إلا القليل. الكتّاب قليلون في هذا الموضوع، والكتب القليلة التي تصدر يكتبها علماء الآثار والمنقبون فلا تفهم لصعوبة كتابتها وتعقيدها. هكذا بقي الانسان العادي والقارئ بعيداً عن تلك الحضارة، يستعصي عليه الولوج إلى عمقها. لماذا اعتمدت أسلوب الكتابة الروائية أو طريق السرد للتعريف بحضارة العراق؟ - أردت، في الحقيقة، أن أكتب للجميع. حاولت التكلم عن بلاد الرافدين بطريقة راوٍ أو قاص يشرح ويصف بموضوعية، لكن بقلب من الحب والاعجاب. استعملت أسلوب الوصف والعرض، بناء على المشاهدة الشخصية للأماكن والمواقع والمدن. هكذا جاءت كل فصول الكتاب مبنية على علم التاريخ والآثار، ومركزة على قاعدة حضارية ثابتة. وتعمقت في قسم كبير من الكتاب في حضارتين مهمّتين هما الحضارة الآشورية والحضارة العربية. ما سبب اختيارك هاتين الحضارتين تحديداً، من بين الحضارات العديدة التي عرفها العراق؟ - الحضارة الآشورية كانت منسية ومتروكة حتّى القرن التاسع عشر. تم التعرف إليها والاهتمام بها منذ العام 1842، والفضل يعود إلى القنصل الفرنسي بول بوتا الذي كان يقيم في مدينة الموصل صيف ذاك. كان هذا القنصل يحب الحضارات القديمة. أبلغه بعض الناس بأن هناك في موقع "خرسباد" آثاراً شبه بارزة. قام للفور بالذهاب إلى هذا الموقع، وباشر بالحفريات واكتشف للمرة الأولى عاصمة الآشوريين مع قصورها ومعابدها وكتاباتها. فشاع في الغرب والعالم كله صيف 1842 خبر اكتشاف حضارة الشعب الآشوري. هكذا بدأ علم الآشوريات، وتم كشف وقراءة عشرات الألوف من الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري. ما الجديد الذي سلّطت عليه الضوء تلك الألواح الطينية؟ - وجد العلماء فيهامعلومات أكيدة وثمينة عن الشعب الآشوري وعواصمه الأربع. إنهم قوم ساميّون استقروا في القسم الشمالي من بلاد الرافدين منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وبرزوا على مسرح الأحداث في الشرق القديم وأسسوا أربع عواصم: الأولى كانت آشور، فلقة الشرقاط حالياً كانت العاصمة الأولى للدولة الآشورية، وكانت مركزاً دينياً وسياسياً مهمّاً للدولة الآشورية واسم إلهها هو أيضاً آشور. المدينة وإلهها أعطيا اسماً للشعب الآشوري. والثانية كالح التي اتخذها آشور ناصربال الثاني 883 - 859 ق.م عاصمة لامبراطوريته الزاهرة والعظيمة في قصورها وهياكلها. وهي تبعد عن الموصل حوالي 30 كلم. والثالثة دور شروكين خرسباد، ظهرت في عهد الملك الآشوري سرجون الثاني 721 - 705 الذي اختار موقعاً يبعد 15 كلم فقط عن الموصل. إنها مبنية على منبسط من الأرض وأحيطت بسور كبير. كانت جميلة ومنسقة والثيران المجنحة الهائلة تحمي أبوابها. والرابعة كانت نينوى التي اتّخذها ملكها المشهور سنحاريب 628 - 669 ق.م عاصمة. كانت مدينة جميلة جداً، وموضع اعجاب في ذلك الزمان. وموقعها الآن مقابل مدينة الموصل في الجانب الشرقي لنهر دجلة. أحرقها الفرس والبابليون سنة 622 قبل الميلاد. دور العباسيين والحضارة الأخرى؟ - الحضارة الأخرى الهامة هي بالتأكيد الحضارة العربية، وأهم مركز لهذه الحضارة هو مدينة الحضر التي تطورت منذ القرن الثالث قبل الميلاد. ازدهرت هذه المدينة، وجعلها ملوكها العرب مركزاً تجارياً وعمرانياً مهمّاً. وحاولت الجيوش الرومانية مرتين الاستيلاء عليها، فلم تتمكن. وتشهد آثارها البارزة اليوم على ثرائها وأهمية التناغم بين أقوامها. ولا بدّ من الاشارة إلى الدور البارز الذي لعبه العباسيون، في حضارة بلاد ما بين النهرين. إذ ان حبهم للعلم والمعرفة جعل من العراق في زمانهم قبلة للعلماء والأدباء والشعراء. وكانت بغداد نبراساً للنور والعلم، ومدينة الموصل تشهد أيضاً على هذه الحضارة بجوامعها وكنائسها القديمة الباقية إلى يومنا هذا. أذكر على سبيل المثال كنيسة القديسة مسكنتة، ورماد توما، وهما نموذجان معبّران عن الجمال العمراني الذي شاع حينذاك. أما جوامع الموصل فتفخر بجمالها الرائع، وأذكر منها الجامع الكبير نور الدين وجامع النبي جرجيس وغيرهما.