لم يستغرب المطلعون والعارفون بتقاليد المجتمع السعودي وأعرافه وأنظمة الحكم في المملكة تكليف خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز لأخيه ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز تصريف وادارة شؤون البلاد خلال تمتع الملك فهد بالراحة والاستجمام بناء على نصيحة الأطباء، إذ ان من المعروف ان ولي العهد هو الرجل الثاني في ادارة شؤون المملكة ورعاية مصالح الشعب خلال تغيب الملك، سواء كان في زيارة رسمية خارج البلاد او في اجازته السنوية او كان وضعه الصحي يتطلب الركون الى الراحة بعيداً عن ضغوط العمل وهموم ادارة البلاد ومتابعة تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية، والشواهد على ذلك كثيرة منذ توحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود. وسبق للأمير عبدالله ان تولى هذه المسؤوليات اثناء الزيارات الرسمية التي قام بها الملك فهد خارج بلاده او خلال اجازاته السنوية منذ توليه مقاليد الحكم في المملكة خلفاً للملك خالد بن عبدالعزيز في حزيران يونيو 1982. وفي هذا السياق رأت صحيفة "اليوم" السعودية ان السعوديين هم وحدهم "سيفهمون ما حدث… وهم فقط سيضعون الأمر الملكي الذي يعهد لولي العهد مسؤولية ادارة شؤون الدولة والخطاب الجوابي في اطارهما الصحيح الذي لا يحتمل التأويلات والتخرصات. وأثبتت الأسابيع القليلة الماضية هذه الحقيقة، فحينما كان المحللون من الخارج يطرحون تساؤلاتهم - المغرضة احياناً - عن استقرار البلاد واستمرارية القيادة فيها كان أبناء المملكة قلقين - وبشكل شخصي وحميم - على صحة والدهم". علاقة ثابتة هكذا وبكل بساطة وتلقائية تتشكل العلاقة بين الحاكم والمحكوم، علاقة لا يعنيها ما يحدث من اهتزازات في أسواق البورصة او تذبذب في أسعار النفط، فنوعية العلاقة وتراتبية المسؤولية التي تربط الأب بأبنائه في النطاق الصغير لأي بيت سعودي هي نفسها التي يمكن تطبيقها على النطاق الأوسع للدولة. وعبّر الأمير عبدالله عن هذه الحالة في خطابه الجوابي للملك فهد بقوله: "لا استطيع مهما حاولت في هذه الظروف ان اعبر عما في نفسي من حب مكين وولاء مطلق لكم يا مولاي… وما لا استطيع التعبير عنه احتضنه بين جوانحي أملاً ورجاء في ان يمن الله عليكم بالصحة والعافية ويمد في عمركم لتواصلوا قيادة مسيرتنا التي أدين بها ويدين بها لأخي كل مواطن"، مؤكداً ان "لا شيء يفرحني شخصياً ويملأ قلبي سعادة مثل ان أراكم عائدين الى دوركم الكبير في قيادة الدولة"، مشيراً الى انه "طاعة لله ثم لأمركم الكريم سألتزم - ان شاء الله - بكل ما يرضي الله ثم يرضيكم فيما كلفتموني به، وسأعود اليكم كلما وجدت نفسي محتاجاً الى ذلك لاسترشد بتوجيهاتكم وتوصياتكم". وأجمع عدد من السفراء والديبلوماسيين العرب والأجانب في الرياض في أحاديث لپ"الوسط" على ان ما حدث ليس جديداً "إذ سبق للملك فهد نفسه ان تولى ادارة شؤون البلاد اثناء مرض الملك الراحل خالد بن عبدالعزيز ولفترات ليست بالقصيرة". واستبعدوا حدوث أي تغيير في السياسة السعودية نتيجة لهذا الوضع، مشيرين الى ان اتخاذ القرار يخضع للتشاور بين كبار أفراد الأسرة الحاكمة، فضلاً عن ان هذه السياسة تستند الى ثوابت نهج مستمر منذ أيام الملك عبدالعزيز. دولة مؤسسات ومن المعروف ان تولي سدة الحكم في السعودية يخضع لاعتبارات عدة، منها عامل السن والكفاءة، اضافة الى ان المملكة دولة مؤسسات لا يمكن لها ان تتأثر بغياب أي شخص. والأمير عبدالله، في رأي الديبلوماسيين، احد صناع القرار البارزين في السعودية والمتمرسين في ادارة الحكم، خصوصاً انه يتولى منذ 1962 رئاسة الحرس الوطني الى جانب قيامه بتمثيل المملكة في الكثير من المؤتمرات المهمة، وكان آخرها قمة مسقط الخليجية في كانون الأول ديسمبر الماضي الى جانب توليه مسؤولية ولاية العهد منذ حزيران يونيو 1982، ما يعني انه شريك للعاهل السعودي في صناعة القرار الأول في البلاد منذ عقود، الى جانب ان الأمير عبدالله، كما ورد في خطابه، سيعود الى الملك فهد لأخذ الرأي والتوجيه عند حاجته الى ذلك. أولى المهمات وكان أول نشاط كبير قام به الأمير عبد الله بعدما عهد اليه الملك فهد ادارة شؤون الدولة اعلان الموازنة العامة للمملكة للعام 1996. ولخص الأمير عبدالله الحديث عن الموازنة بقوله، في مستهل جلسة مجلس الوزراء الاسبوع الماضي "لقد تم اعداد ميزانية السنة المالية الجديدة وروعي فيها ان تكون خطوة مهمة في اتجاه تحقيق توازن الميزانية وتأكيد قوة الاقتصاد الوطني". ورغم ان العجز في الموازنة وصل الى 18.5 بليون ريال 4.9 بليون دولار مقابل اربعة بلايين دولار خلال السنة المالية الماضية وان وزير المال السابق محمد ابا الخيل رأى ان "عجز الموازنة انخفض خلال 3 سنوات فقط، اي منذ موازنة 94-1995 الى هذه السنة الجديدة، من 40 بليون ريال 10.6 بليون دولار الى 18 بليون ريال 4.9 بليون دولار اي اكثر من النصف، وهو إنجاز ممتاز اذا ما قارناه بخطط دول كثيرة في العالم تعمل ايضاً على تخفيض العجز في موازنتها وخفض مديونيتها تبعاً لذلك". ولاحظ الوزير السعودي السابق "ان واردات السنة المالية الجديدة 131.5 بليون ريال قدرت بأقل مما قدرته به موازنة السنة المالية المنتهية 135 بليون ريال وهذا الفرق الطفيف يعكس تحفظاً مطلوباً ازاء اوضاع اسعار البترول التي تعاني من المنافسة الشديدة بين مصادر الانتاج، كما انه قد يعني تحقيق اهداف ترشيد الاستهلاك التي روعيت في بعض الرسوم التي فرضت العام الماضي، خصوصاً المنتجات البترولية، اي ان فرض هذه الرسوم أدى الى خفض استهلاك المنتجات البترولية، وهذا هدف مطلوب أتوقع ان يؤدي الى زيادة الصادرات من البترول للخارج بسبب انخفاض الاستهلاك الداخلي، وبالتالي زيادة واردات البترول في العام الجديد". وذكرت وزارة المال السعودية ان العجز المتوقع هذا العام 1996 اقل من العجز الذي سجل العام 1994 10.66 بليون دولار والعام 1991 33 بليون دولار وأشارت الى ان اجمالي الناتج القومي سجل العام 1995 ارتفاعاً بنسبة 4.3 في المئة في مقابل 1.4 في المئة العام 1994، وذلك بفضل تحسن اسعار النفط. ولا يخفي المسؤولون السعوديون ان بلادهم، التي تعد اكبر منتج ومصدر للنفط في العالم، تواجه ازمة سيولة لا سابق لها، بسبب مساهمتها المالية الكبيرة اكثر من 50 بليون دولار في حرب تحرير الكويت ثم بسبب تراجع اسعار النفط. نتائج غير عادية وقال عدد من خبراء الاقتصاد في الرياض ل "الوسط" ان المملكة العربية السعودية لا تريد الالتفات الى التشكيك في سلامة سياستها المالية "اذ حتى في حالات العجز التي استمرت خلال الاعوام السابقة سلكت المملكة الطريق الذي رأت انه يتلاءم مع اوضاعها لجهة تسوية ديونها وخفض مصروفاتها. وجاءت النتائج غير عادية، اذ ارتفع مستوى النمو وتقلص العجز في الموازنة، واضحى التوازن بين الايرادات والمصروفات امراً ممكناً في ظل هذه السياسة". وبعكس التوقعات التي سبقت اعلان الموازنة في شأن امكان فرض رسوم جديدة على بعض الخدمات، عمد الخبراء في وزارة المال والاقتصاد الوطني السعودي الى السعي الى تحقيق نتائج جيدة دون الاخلال بالمشاريع والالتزامات الداخلية والخارجية، ودون مضاعفة اي أعباء تتصل بمعيشة المواطن وخدماته الاخرى، اضافة الى نجاح الدولة السعودية في استيعاب اثار ازمة احتلال الكويت وتوفير نمو في قطاعات النفط والصناعة في مقابل خفض معدلات التضخم وزيادة حيوية السوق المفتوح. ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور احسان بوحليقة ان التعديلات الجوهرية التي طبقتها السعودية في سياستها المالية "أدت الى نتائج ايجابية على موازنة الدولة لأسباب عدة، اهمها: تعديل اسعار عدد من المنافع التي ما زالت تقدم اجمالاً بأقل سعر التكلفة، وتحديد سقف للانفاق الحكومي لا يتجاوز 40 بليون دولار، وعدم الاستدانة من الخارج من خلال قروض سيادية، وتسديد الدفعات الحكومية المتأخرة". وأضاف ان الاقتصاد السعودي شهد خلال العام الماضي 1995 تغييرات عدة هدفت الى تحقيق الاعتماد على الذات، والمواءمة بين الانفاق والدخل، كما ساهمت التعديلات الاساسية التي بادرت السعودية لتطبيقها خلال الاثني عشر شهراً الماضية الى تحسين المؤشرات، وذلك من خلال ارتفاع احتياط الخزانة العامة من العملات الاجنبية بأكثر من الربع 27 في المئة منذ بداية العام وحتى نهاية الربع الثالث اذ بلغ نحو 7.5 بليون دولار وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، فضلاً عن تحسن وضع السيولة المحلية لأن الحكومة تمول العجز في موازنتها بالاقتراض المحلي، وفي حالة تقلص العجز - وهو في تقلص - فان حاجة الحكومة الى الاقتراض ستتناقص مما يترك مزيداً من أموال الائتمان للقطاع الخاص. وقال الخبير الاقتصادي الدكتور سيد الخولي ان المؤشرات الاقتصادية في موازنة هذا العام تترجم استمرار فاعلية الاقتصاد السعودي في محاولاته للتأقلم مع معطيات الاقتصاد العالمي "ليبرهن على قوة ومتانة القاعدة الاقتصادية الوطنية، كما يدل ارتفاع الناتج المحلي الاجمالي السعودي في ظل الاصلاحات الهيكلية في الاقتصاد، وتقليص الاعتماد على قطاع النفط مصدراً رئيسياً للدخل". وذكرت الاحصاءات ان الاقتصاد حقق معدل نمو نسبته 4.3 في المئة بالاسعار الجارية، مقارنة بمعدل نمو بلغ 1.4 في المئة فقط العام 1994. ويعزى هذا النمو الى تحقيق القطاع الحكومي والقطاع النفطي معدلات نمو جيدة، اضافة الى النشاط الصناعي الذي يقدر نموه بمعدل 7.5 في المئة. وحققت الصادرات النفطية وغير النفطية معدلات نمو جيدة نتيجة تحسن اسعار النفط العالمية، ونجاح الصادرات السعودية غير النفطي في المنافسة عالمياً. ومن المتوقع ان تصل قيمة تلك الصادرات هذا العام الى 23.8 بليون ريال سعودي بزيادة قدرتها 42 في المئة عن العام السابق. وانعكس هذا الأداء على تحسن الميزان التجاري للمعاملات الخارجية للمملكة بالرغم من زيادة الواردات، لأن من المتوقع ان ينخفض العجز في الميزان التجاري للمعاملات الخارجية من 34 بليون ريال في العام المالي الماضي الى 17.9 بليون ريال في العام المالي الحالي. ولاحظ بيان وزارة المال السعودية الذي صدر إثر اعلان الموازنة ان معدل التضخم في المملكة "لا يزال منخفضاً نتيجة انفتاح السوق السعودية وروح المنافسة. وذكر ان الزيادة التي حصلت في اسعار ورسوم بعض الخدمات والسلع في بداية العام المالي الماضي ادت - مرة واحدة فقط - الى زيادة في الرقم القياسي لتكاليف المعيشة بلغت 5 في المئة ولكن اسعار التجزئة للواردات هبطت قليلاً. تحسن اقتصادي شامل وانعكاساً لهذا الأداء الجيد للاقتصاد السعودي وبشكل عام، برغم التكيف الاقتصادي مع ظروف الاسواق النفطية العالمية فان قطاعات الاقتصاد الاخرى واصلت تحسين أدائها، فعلى سبيل المثال استمر القطاع المصرفي في تحقيق معدلات ارباح ممتازة اضافة الى رفع كفاءة أدائه وتقوية قاعدته الرأسمالية التي بلغت 34.4 بليون ريال اي ما يعادل 17.6 في المئة من اجمال الودائع. وأوضحت وزارة المال السعودية ان اهم عناصر النفقات يتصل بالقطاعات ذات الصلة بالخدمات والتنمية، مثل قطاع التعليم الذي خصصت له السعودية قسماً كبيراً من الموازنة بلغ 27.66 بليون ريال 7.36 بليون دولار، تلاه قطاع الخدمات الصحية والتنمية الاجتماعية 13.39 بليون ثم قطاع الخدمات البلدية ومصالح المياه 5.38 بليون ريال، وقطاع النقل والمواصلات 9.14 بليون ريال. ورغم ان وزارة المال السعودية لم تعلن اي ارقام في شأن اجمالي الناتج المحلي الا ان بعض خبراء الاقتصاد قدروه ب 121 بليون دولار خلال العام 1994، اي ما يوازي ربع مجموع اجمالي الناتج المحلي في الدول ال 22 الاعضاء في الجامعة العربية. تقدير سعر برميل النفط وأكدت مصادر مالية في الرياض ل "الوسط" ان خبراء وزارء المال السعودية اعدوا الموازنة على اساس تقدير سعر برميل النفط ب14 دولاراً، وأشارت الى ان المملكة ستبقي نفقاتها في حدود 40 بليون دولار حتى نهاية الخطة الخمسية السادسة التي بدأت مطلع 1995، لخفض عجز الموازنة، خصوصاً ان هذه الخطة تنص على القيام باستثمارات تبلغ قيمتها 200 بليون دولار لتحقيق الاصلاحات الاقتصادية وتعزيز دور القطاع الخاص. وقال وزير المال السعودي السابق أبا الخيل "إن خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز حدد هدف السياسة المالية الاكثر اولوية بتخفيض عجز الموازنة وتخفيض المديونية تبعاً لذلك، وقد شرعت الحكومة في تنفيذ هذه السياسة منذ العام المالي قبل الماضي اذ خفضت النفقات بنسبة 20 في المئة، ثم خفضت نفقات موازنة السنة التالية بنسبة 6 في المئة. واضيفت لواردات الموازنة مصادر دخل اضافية على شكل رسوم مختلفة. وفي هذا العام بقيت النفقات كما هي في العام المنتهي، وأعتقد ان ذلك يعود الى اعتبارات متينة، ذلك ان استيعاب التخفيض الذي تم في العامين الماضيين وتحويله الى ترشيد راسخ للانفاق يتطلب بعض الوقت". وخلص الخبراء الى ان موازنة 1996 السعودية ابرزت مؤشرات ايجابية، وأكدت التوازن والنمو، ومن يقرأ اعتماداتها الخاصة بالصحة والتعليم والنقل والصناعات وغيرها يجد ان الارقام لم تتدن نتيجة اي ظرف، "وهذا بدوره يعطي الثقة الكاملة بصحة الاقتصاد السعودي وسلامته". ويكفي انه خلال ربع قرن مضى انفقت المملكة 1200 بليون دولار في مجالات البنية الاساسية وخطط التنمية الاخرى، "وهو رقم كبير رغم القناعة السعودية بأن المكاسب ليست في الارقام بل في الامن والدور السياسي والاجتماعي الذي تؤديه السعودية على الساحتين العربية والدولية" على حد تعبير خبير اقتصادي بارز.