قضت احدى محاكم الاحوال الشخصية المصرية اخيرا بتطليق موظفة من زوجها المهندس الذي لم يدخل بها، وذلك بعد ثلاثة اعوام تقريبا من عقد القران، وقالت المحكمة في حيثياتها ان هذه الفترة الزمنية كانت كافية تماما، للزوج، لتجهيز منزل الزوجية، واضافت ان المماطلة في هذا الامر، دليل على "سوء نية" هذا الزوج، وهو ما يلحق الضرر بزوجته. وهذا الحكم القضائي، غير المسبوق لهذا السبب، تقف خلفه ظاهرة جديدة الى حد ما على المجتمع المصري. وهي ظاهرة تأخر سن الزواج لدى الشبان والشابات المصريات عامة، وطول المدى الزمني لفترة عقد القران، او "الخِطبة" وذلك لاسباب عديدة، على رأسها عدم القدرة الاقتصادية على تأثيث بيت الزوجية، وفي هذا السياق، لا تكاد تخلو اسرة مصرية من شاب او فتاة مرتبطة بعلاقة زواج معلن عنها، ولكنها مؤجلة لوقت معلوم من قبل الاهل، او حتى لاجل غير مسمى في الحالات الاشد قسوة من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. وفي هذا التحقيق نقوم برصد مسببات ونتائج هذه "الزيجات المؤجلة" في المجتمع المصري، ونتعرف على آراء الشبان والفتيات، اضافة الى آراء بعض علماء الاجتماع والشخصيات العامة المصرية. فترة التكوين في البداية تقول نهلة حسن علي 21 عاما وهي طالبة جامعية: "اعتقد ان الظروف الحالية تجبر عدداً من الفتيات على القبول بفكرة طول مدة "الخطبة" على اساس اتاحة الفرصة للطرف الآخر، لترتيب اوضاعه المادية ضمانا لنجاح مشروع الزواج المقبل. وتضيف: "وعدا "فترة التكوين" هذه، هناك من ناحية اخرى اسباب غير اقتصادية، وهي اتاحة الفرصة للفتاة بدورها لكي تتعرف على شخصية الشاب من الناحية السلوكية، وهو تعارف متبادل بطبيعة الحال، بل مطلوب ايضا ولو لم تكن هناك تلك الاسباب الاقتصادية، في رأيي". وتختلف جيهان ممدوح 23 عاما مع هذا الكلام، فهي طالبة ومتزوجة في الوقت نفسه، وتقول: "تمت خطبتي في السنة الجامعية الاولى، ثم عقد قراني على قريب لي، وتزوجنا في العام التالي مباشرة رغم بعض الصعوبات، وذلك لانني ارفض تماما مبدأ الوقوع تحت الضغوط النفسية التي تسببها فترة عقد القران الطويلة او الزائدة على الحد". ولماذا؟ - اولا، لأن من المتعارف عليه الا تزيد مدة "الخطبة" على عام، فقصرها في مصلحة الطرفين من كل النواحي المادية والعاطفية، فهناك مثلا الهدايا التي من المفترض بل من "الواجب الاجتماعي" ان يقدمها الخطيب لخطيبته، وهي مرهقة اقتصاديا له بلا شك، وثانيا، لأن العلاقة الاساسية العاطفية بين الطرفين من الممكن ان تتأثر، فتصل المشاعر شيئا فشيئا الى مرحلة غير مستحبة من الفتور والاعتيادية، حتى قبل الزواج. اما محمد عادل الديب 28 عاما وهو مدرس ثانوي، فيقول: بالنسبة إلي، ورغم انني لم ارتبط حتى هذه اللحظة بأي مشروع زواج، فإنني أرى ان مشكلة عزوف الشباب المصري بشكل عام عن الزواج هي السبب. كيف؟ - الواقع ان الشاب الذي تؤهله ظروفه المعيشية للزواج - وهو كما يقولون "سنة الحياة" على اية حال - يفكر الف مرة قبل الاقدام على هذا الزواج، واذا حدث ووجد نفسه في الطريق الى بيت الزوجية بناء على اختياره الشخصي، او حتى نزولا عند رغبة الاهل، تكون فترة عقد القران الطويلة خاصة في ظروفنا الحالية، افضل لدراسة كل جوانب هذا الامر ومعرفة مدى قدرته على تحمل المسؤولية الاقتصادية الثقيلة التي ستلقى على عاتقه مستقبلاً. ولكن القضاء اعتبر هذا نوعا من "سوء النية"؟ - لكل حالة ظروفها الخاصة، اما القول بأن في الامر نوايا طيبة او سيئة، فهو تعميم غير مقبول بأية صورة من الصور في تقديري، والتطليق هنا وجهة نظر قضائية بالدرجة الاولى. طلاق على ورقة زواج ولدى الكاتبة سكينة فؤاد وجهة نظرها في هذا الخصوص، فهي ترى ان "الفترة التي تسبق الزواج اهم من الزواج نفسه، وذلك لأنها التمهيد الطبيعي لاستكشاف مميزات وعيوب طرفي هذا المشروع الحياتي، خصوصاً ان الاستمرار والدوام من اهم شروطه، ومرحلة "الخطبة" هذه ضرورية ايضا لتجهيز العقل والقلب معا لاستيعاب ايجابيات وسلبيات الطرفين في هذا الرباط المقدس. فكيف ترين الحكم القضائي بالطلاق بعد 3 أعوام من عقد القران من دون زفاف؟ - اعتقد ان هذا "الطلاق على ورقة زواج" ليس تدخلا من المحكمة بالتأكيد لتحديد مصائر البشر، فمن المؤكد ان القضاء لا يفعل ذلك الا في حالة رفع دعوى من قبل احد الطرفين، وسواء كان المدعي شابا ام فتاة، فأنا لا استطيع توجيه اللوم اليه، اذ أن الانسان من المستحيل ان يرى سنوات عمره تتسرب من يديه، بينما هو واقف موقف المتفرج، و"مضغوط" بالظروف الاقتصادية السيئة". وتضيف سكينة فؤاد: "اما في الحالات العادية، فانا من مؤيدي عدم اتخاذ اية خطوات رسمية للارتباط الزوجي، سوى عند الاستعداد الكامل لها من كل الجوانب، وهنا تكون فترة عقد القران قبل الزفاف محسوبة بدقة، وتنتهي بانتهاء عملية "التوافق" او "التوفيق" النفسي والعاطفي والسلوكي التي تحدثت عنها". اما الكاتبة فتحية العسال، فتقول: "لا اوافق مطلقا على تدخل القوانين القضائية في العلاقات الانسانية، او على "تفصيل" المجتمع للوائح على هذه الدرجة من الدقة لتحديد طبيعة ومدى "الخطبة" الزمني بسقف قدره 3 اعوام او اكثر او اقل في المجتمع المصري. ولو كان هذا جزءا من عملية تنظيم مطلوبة للاحوال الشخصية عن طريق قوانين تحفظ حق المرأة؟ - نعم، فالاصل في الزواج هو ممارسة المشاعر الانسانية بطريقة يرضى عنها المجتمع، وهذه الطريقة مفترض مسبقا فيها ان تخضع لآليات كل زيجة في سياقها الذاتي والاجتماعي المنفصل عن الاخرى، وبالتالي محاكمتها لظروف غير مواتية، من الناحية الاقتصادية مثلا، محاكمة غير عادلة للشبان والشابات، بينما الاصح هو اخضاع هذه الظروف لتلك المحاكمة التي ستصبح عادلة حقا آنذاك. الزوجة المعلقة ويؤكد الدكتور جمال ماضي ابو العزائم، استاذ الطب النفسي، "ان من الافضل ان تكون فترة الاعداد للزواج قصيرة قدر المستطاع، لأن طولها ربما يؤدي الى حدوث مشاكل اجتماعية كثيرة في رأيي، وعلى رأسها حالة الشد والجذب النفسية التي من الطبيعي ان يقع فيها زوج او زوجة المستقبل، فتترك عليه او عليها آثارا سيئة، ومن هذا القبيل الصراع النفسي الذي يؤدي احيانا الى نوع من القلق والشعور بالتبلد العاطفي الناتج عن عدم تحقق الهدف المشترك". وهل صادفتك حالات من هذا النوع في عيادتك النفسية؟ - انها كثيرة جدا، ومنها حالة فتاة اصبحت تقريبا زوجة معلقة بعد ان عقد عليها شاب جامعي متخرج حديثا قرانه، وتركها بحثا عن فرصة عمل في الخارج، لكي يتسنى له جمع تكاليف ومتطلبات منزل الزوجية. وكانت ظروف عمل هذا الشاب في احدى الدول العربية لمدة اربعة اعوام متتالية حصل خلالها على اجازات قصيرة جدا قضاها في مصر، تمنعه من الدخول بها والحاقها لتعيش معه في مكان عمله. فما الذي حدث؟ - في العام الثالث تقريبا، ظهرت على الفتاة اعراض المرض النفسي على شكل انسحاب واكتئاب دوري في البداية، وسرعان ما دخلت هذه الفتاة مرحلة الهلاوس السمعية والبصرية العصبية، فكانت تصنع موضوعا لهلاوسها من زوجها "مع وقف التنفيذ". وهو الغائب - الحاضر بالنسبة اليها وعندما عرضت عليّ كان المرض في مرحلة متقدمة وصعبة، ولكنها عوفيت منه الى حد بعيد بعد جلسات طويلة، وبعد وقوف زوجها الذي كان يحبها الى جانبها اثر عودته نهائيا اليها واتمامه للمشروع المؤجل. وهذه واحدة من حالات عديدة لا شك ان الذي يصل منها الى عيادة الطب النفسي قليل جدا. وفي الحالات الاخرى غير العصبية او السوية من الناحية النفسية، هل من الضروري عدم اطالة مدة "الخطبة" رغم تحجج البعض بأنها فترة "جس نبض" متبادل؟ - لو اعتبرناها مرحلة تعارف نفسي مهمة فإنها تسير في اتجاه معاكس وسلبي لو زادت على عام مثلا حيث تسقط في فخ الروتينية بدلا من كونها مجالا لتبادل المشاعر الجديدة على الطرفين معا. حوادث شرف ويحذر الدكتور محمود ابو النيل، استاذ علم الاجتماع في كلية الآداب جامعة عين شمس، من خطورة ظاهرة "الزيجات المؤجلة" في المجتمع المصري، يقول: "في الماضي كانت بعض الاسر المصرية وخصوصاً في الريف لا تعترف بما يسمى حاليا فترة الخطبة وتقوم بعقد قران العروسين ثم اقامة حفلة الزفاف في الاسبوع التالي مباشرة، اما الآن فطبيعة العصر فرضت على هؤلاء الريفيين ايضا، وقبلهم على اهل المدن، الاعداد للزواج على مدى زمني يطول او يقصر غير انني اعتقد ان معظم المشاكل الاجتماعية التي تقع في هذا السياق تكون ناتجة عن عدم اتمام الزواج باكراً". اي نوع من المشاكل الاجتماعية هو المعني هنا؟ - هناك ملاحظة اساسية وهي ان معظم هذه الزيجات ذات الامد الطويل تبدأ عادة في سن مبكرة وبالتحديد في مرحلة متأخرة من المراهقة النفسية والعضوية، ثم تمتد الى ما بعد سن الرشد. وخلال هذه الفترة الطويلة من الانتظار من الوارد حدوث تصرفات سلوكية غير اخلاقية في بعض الاحيان بين طرفي الزواج المنتظر، وفي احيان اخرى قليلة يتم رصد تطورات غير مستحبة لهذه الانحرافات الاخلاقية، إن صح التعبير في صورة حوادث شرف نسمع عنها ونقرأها على صفحات الجريمة في الصحف والمجلات المصرية. ويسجل الدكتور محمود ابو النيل ملاحظة اخرى يورد فيها رأيه في الحكم القضائي المذكور، يقول: "أرى ان مسألة فصل محكمة الاحوال الشخصية في "الخطبة" التي تستمر اكثر من ثلاثة اعوام قرار اجتماعي وليس قضائيا او قانونيا محضا، فلا بد ان يكون هناك حد اقصى معقول في هذا المجال الحياتي المهم". وتتفق الدكتورة ماجدة السيد حافظ وهي باحثة اجتماعية اكاديمية، مع هذا الرأي، وتضيف: بل ان اهمال هذا الحد الاقصى المقنن بمعرفة المجتمع لفترة ما قبل الزواج، او مرحلة الاعداد له قد يصيب العلاقة المقبلة نفسها بالعجز والاخفاق من منطلق الشعور المبدئي بالاحباط وعدم القدرة على الوفاء بمتطلبات الامر قبل الشروع فيه، فما بالنا في ما بعد. اما عن تدخل القضاء، فهو متوقف على رؤية الاهل لمدى وصول المشروع الى الطريق المسدود، وانا على اية حال كأم مصرية عادية اعتقد ان مسألة فسخ الارتباط الزوجي بهذه الطريقة القانونية قبل اتمامه مسألة واردة تماما وذلك بشرط عدم دفع الابن او الابنة للوقوف في ساحات المحاكم في هذه السن المبكرة ما دام في الامكان استكمال الزواج بطريقة ودية، وعلى اية صورة من الصور ولو كانت المساعدة المادية وهي حل فردي بطبيعة الحال في نهاية المطاف يلجأ اليه بعض الاسر المصرية. وفي النهاية ما هو رأي رجال القانون في "الحكم الاخير" وفي "الزيجات المؤجلة" عامة؟ يرى المحامي محمد منيب "ان الحكم صادر بلا شك بناء على حيثياته الخاصة وعلى ما ارتآه القاضي الذي نظر في اوراق الدعوى وتبين له وقوع الضرر على المدعية بما يستوجب التطليق، وايضا لا مجال لتعميم منطق "سوء النية" من الناحية القانونية الا في حالة ثبوت ذلك في واقعة بعينها". ويضيف: "اما حال ثبوت "المماطلة" القصدية وهي شيء مادي لكنه يخضع للملابسات ايضا، فالوصف القانوني لما يسمى "الزيجات المؤجلة" المطروح هنا هو استبيان عدم رغبة اي طرف من الطرفين في الوفاء بشرط "عقد الزواج" تأسيسا على دلائل محددة وبناء على لجوء احدهما الى القضاء متضررا فحسب".