المدن أمكنة توفر مادة دسمة للذاكرة ... وتطوان وحدها تكفي ان تكون وليمة للذاكرة العربية والمغربية في آن فمن منا لم ينشد في طفولته: بلاد العرب أوطاني من الشام لتطوان ومن نجد الى يمن الى مصر فبغدان واذا كان الشعراء وجدوا في تطوان بنتاً لغرناطة وظلاً للخيرالدا وامتداداً لتلك الذكريات عن اسبانيا العربية، حيث تترجع في فضاءاتها موشحات ابن هانئ، وحكايات ولادة وابن زيدون، فان "الحمامة البيضاء" هو اللقب الذي احتفظت به تطوان، ليس لأنه رمز لوداعتها فحسب، بل لكونها ظلت مثالاً للنقاء والطهر كما تدل على ذلك بيوتها وشوارعها ذات البياض الناصع. وحين يدلف الزائر الى مدخل المدينة باتجاه جبل بوعنان تقابله حمامة بيضاء من مرمر كما لو كانت تجسد ذلك الرمز الحي. حصن حضاري منذ تأسيسها عام 1307 على يد السلطان المريني ابو ثابت، ارتبطت تطوان او تطاون بالأندلس بروابط ثقافية ما زالت بصماتها ظاهرة على أسماء شوارعها وساحاتها المشهورة، وجدران أزقتها البيضاء المزينة بشرفات الحديد المضروب، وعلى الدور العتيقة والنوافير والحدائق المزهرة التي تعد مثلاً لروعة الفن الاندلسي. وهي لذلك تحتل مكانة خاصة في الوجدان المغربي، كونها واحدة من مدن قليلة كالرباط وفاس، منحت المغرب بعضاً من وهجه الحضاري. وكمدينة ساحلية، استخدمت تطوان مبكراً قاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد الحملات الاجنبية، فقد احال الاسبان الحياة في المدينة الى جحيم قبل ان يدمرها هنري الثالث ملك قشتالة عام 1399 بدعوة تحولها ملجأ للقراصنة. غير ان ذلك لم يمنع الاندلسيين الذين لجأوا الى شمال المغرب من ان يقيموا على شواطئه قواعد للدفاع البحري تتولي مطاردة السفن القشتالية. ولا تزال محطة "رستنكا" ذات المناخ المثالي والطبيعة الخلابة، تجلب الانظار اليها هي التي كانت بمثابة رأس حربة في مواجهة الهجمات البرتغالية الهادفة الى التسلل عبر وادي لاو الى داخل المغرب. كما كانت حصناً وجد فيه المغاربة الأمان اضافة الى مقومات العيش. وخلال القرن السادس عشر عمرت تطوان من جديد اثر هجرة المسلمين واليهود اليها من الاندلس، وقد لعبت ادواراً هامة، سياسية واقتصادية، في الوقت الذي كانت اكثرية المدن الساحلية المغربية مخنوقة ومنعزلة نتيجة الهيمنة البرتغالية عليها، وكانت لهؤلاء المهاجرين الذين اندمجوا في المجتمع المغربي جهود رائدة في انعاش المدينة رغم الظروف الصعبة. وفي القرن الثامن عشر اتيح لتطوان ان تواكب تطورات الاوضاع في اوروبا من نزاعات وحروب وصراع مصالح وأطماع، بعد ان اصبحت مدينة عالمية لها موقعها التجاري ومبادلاتها البحرية، في البلطيق وايجة وموانئ اوروبا ولا سيما المتوسطية منها. الحزام الأخضر على شاطئ البحر الابيض المتوسط، تقع تطوان محاطة بحزام فاتن هو خليط من اشجار اللوز والبرتقال والرمان، بينما تتولى اشجار السرو واليوكالبتوز حراسة البيوت فتأخذ بعيون القادمين الى جبال الريف مضفية سحرها ورونقها على المدينة التي تتشكل من هضبة منحدرة من جبل درسة ذي القمم العارية الى سهل وادي مرتيل. ولما كان البحر يغدق رطوبته على الجبل، فقد تشابك البلوط بالفلين، وأخذت اشجار الصنوبر تبرز شامخة في الغابات الواسعة لتزيد من متعة الباحثين عن الشمس وضباب الصباح، وتضاعف دهشتهم وهم يعانقون مساء الأفق المشبع برائحة السيست وندى البحر. والشاطئ برماله الناعمة ومياهه الصافية، يسمح للجميع بمشاهدة الاعماق الصخرية التي تجوبها انواع لا تحصى من الاسماك. غير ان هواة الصيد وحدهم يتابعون بمتعة تموجاتها البطيئة طمعاً باصطياد الكبيرة منها ولا سيما حين تتلألأ قشرتها الفضية تحت اشعة الشمس!! وفي صباح كل يوم، يقصد القرويون تطوان لترويج بضاعتهم من الزبدة والعسل والخضر والنباتات العطرية. وتعد ساحة "الحسن الثاني" التي توجد على الحدود القديمة والجديدة للمدينة محطة لقاء الباعة الجوالين، ومنها تتفرع مختلف الساحات الصغيرة التي تضج بالنشاط التجاري مثلما تعج بسلع من كل الانواع. نشأت المدينة الجديدة خلال فترة الحماية الاسبانية متميزة بعماراتها ذات الشرف الحديدية، اما المدينة القديمة فانها تتحصن بالاسوار العالمية العتيقة. وقد استطاع النموذج الاسباني ان يفرض حضوره على تطوان بحكم العلاقة التاريخية فعلى المستوى اللغوي تكاد تكون السيادة للغة الاسبانية التي يتكلمها بطلاقة سكان الشمال المغربي كباراً وصغاراً، وغالباً ما تلتقط الاذن كلمات هي خليط من العربية والاسبانية، ونتيجة لذلك، لا تشاهد غالباً في البيوت والمقاهي والفنادق، الا القنوات التلفزيونية الاسبانية او الاجنبية التي تبث بهذه اللغة. وعلى مستوى البناء أصبحت الاحياء الحديثة تفتقد شيئاً فشيئاً الطابع المغربي الاصيل. ومع ذلك فان حنين تطوان الى كل ما هو مغربي وعربي يعبر عنه وله التطوانيين وشغفهم بالموسيقى الاندلسية، فهم يتناقلونها جيلاً بعد جيل ويتلقونها عبر نظام للحفظ والرواية والتقلين، حتى لا تكاد تذكر تطوان الا مقرونة بهذه الموسيقى التي اسماها الفقيه التطواني محمد بن الحسين الحايك عند قيامه بجمع نوباتها "صناعة الطرب" فهذه الموسيقى الزاخرة بالألحان والايقاعات والأشعار مثلت مظهراً راقياً من مظاهر الابداع في الاندلس عامة، وعكست جمالات الموسيقى العربية في ابهى حللها، وكانت بحق ثمرة الذوق المرهف للانسان العربي الذي نشأ في ربوع الاندلس فتوافرت له تجربة ثقافية غنية. تضم تطوان القديمة مجموعة كبيرة من الآثار منها قصر الخليفة الذي يعود الى القرن السابع عشر ولئن جددت تطوان ورممت خلال فترة عديدة فهي لا تزال تحافظ على ملامحها كمثال للمدينة الاندلسية. واضافة الى ما يقدمه متحفها من شواهد على روائعها الفنية، فان اكثر ما يجدب الزائر اليها ازقتها الملتويةالمائلة الى الزرقة التي تختفي تحت القباب لتظهر من جديد امام نور ساحة او لتصطدم بزقاق مسدود. وفي كل زقاق طائفة من الحرفيين، زقاق الصباغين اللصيق بزقاق صناع الاسلحة التقليدية كالخناجر والسيوف غير بعيد عن زقاق الى زقاق ويرسم علامة من العلامات التي تولن اجواء تطوان وتكشف عن تقاليد التطوانيين الذين لتباين المراحل التاريخية التي مرت بها مدينتهم وسمتهم ب"ذاتية" واضحة، دون ان يعني ذلك مفاضلة على غيرهم من المغاربة. فالتقاليد التطوانية مميزة، ومن ذلك طقوس الزواج التي انحسرت او في طريقها الى الانحسار حيث يستمر الزفاف اسبوعاً كاملاً، والصداق الذي يسميه التطوانيون "المعشر" يعني ان العروس لا بد لها من كل شيء عشرة، سواء تعلق الأمر بقفطان او دملج او غيرهما من ضروريات الملبس والحلي. وهناك من الطقوس التطوانية خلال الاعياد والحج والمواسم الدينية ما يلفت النظر لخصوصيتها او لطرافتها. ووسم تعقيد الساحل التطواني، حيث تتسارع حركية عناصره الطبيعية والبشرية، هو الآخر المدينة بذاتية في المجال الجغرافي وتسبب في افراز اختلالات باتت موضع مخاوف الآثاريين وأنصار البيئة، فعدا النمو الديموغرافي المرتفع والهجرة السكانية المتمثلة في التوافد والنزوح في الوقت نفسه هناك انجراف التربة والانهيار المتواصل للاحجار المكونة لقشرة المدينة ما يعرضها للتوصل او التصحر، وبالتالي فقدان التربة لخصوبتها، فيما يحتدم توسع عمراني غير متناسق او مدروس، وتطغى هندسة غريبة علي المحيط البيئي والقليدي للمدينة. التحدي الكبير ولحماية تطوان باعتبارها تراثاً مغربياً وعالمياً، يقترح مهندسون مغاربة صيانة احياء المدينة والعمل على وضع تشريعات لانقاذ ما يمكن انقاذه من معالمها العريقة، غير ان طرق الحماية تطرحم اشكاليات عدة، فترميم المدن القديمة الاندلسية يتعدى لك الصيغ المطروحة، لان صيانة كل اثر يعتبر متابعة لكل ما هو معمار وتاريخ وثقافة حملها معهم الاندلسيون المهاجرون الى الشمال الافريقي. ترى كيف سيكون ترميم حي سيدي المنظري الذي هو نواة تطوان وروحها الاندلسية؟ وحي الملاح البالي، ناهيك بالمقابر؟ كيف يمكن للتقنيات الحديثة ان تحافظ على الهندسة المعمارية التي تطبع بطابعها الخاص بيوت تطوان وساحاتها، وان تبرز تجليات الهندسة الاسلامية في المساجد والزوايا؟ وهل بمقدورها اعادة الماضي الى الحاضر، ليمتزجا معاً ويتفاعلا دون تنازل او مجازفة؟ ليس مفارقة ابداً، ان يتنفس العصر عبر التاريخ، ويلتقي القديم بالجديد، ما دامت تطوان تخلد الوقائع وتباهي بقدرتها على مقاومة النسيان. انه التحدي الذي يواجه تطوان التي تفتح رئتيها لرياح العصر من دون ان تبدد عبق التاريخ.