شهدت المملكة العربية السعودية خلال العامين الأخيرين بروز مؤسسات ثقافية متخصّصة في الفنون البصرية، نجحت في جذب المهتمين والهواة وفرز جمهور حقيقي يتابع آخر الابداعات وينشغل في الأسئلة الجمالية والنظرية التي تنتج عن هذا الابداع. والدور الفاعل الذي تلعبه، من خلال حضورها القويّ على الساحة الثقافية، هذه البيوت الفنيّة، وبالتحديد "بيت التشكيليين" و"بيت الفوتوغرافيين"، يتجلّى - على وجه الخصوص - في تنشيط حيّ وفاعل للحركة الفنية في مدينة جدة التي يكاد الكثيرون يسمّونها مدينة الفن التشكيلي. قبل ذلك كانت جهود الفنانين تشكيليين أو مصوّرين لا تتعدى الحدود الذاتية في إعداد المعارض، او الالتقاء بزملاء يشتركون في الاتجاه نفسه، او الاطلاع على أحدث تقنيات الفن على المستويين العربي والعالمي. وافتقد الفنانون طويلاً لذة المناقشة العلمية لأعمالهم، إلا في مناسبات نادرة. لذا ليس مستغرباً هذا الاحتفاء اليومي ببيتي التشكيليين والمصوّرين. فإليهما يعود اليوم فضل تقريب هذه الفنون من رجل الشارع العادي. كما أن موقع البيتين في الحي القديم لجدة، يسهّل خلق "تماس" مباشر بين ناس كل يوم وهذه الفنون الرفيعة. يقع في حارة اليمن التي تمر في قلب جدة القديمة، ومثل بقية الحارات، تحتوي على مظاهر معمارية قديمة لها خصوصيتها وتفرّدها. والبيت نفسه ينتمي إلى هذا الطراز المعماري البسيط، الذي عمد التشكيليون المؤسسون إلى الحفاظ على خصوصياته. هناك أيضاً خيمة الابداع المجاورة التي قدّمتها احدى الشركات الوطنية على سبيل الاهداء، فيما يحيط "الجيران" بالمكان، ويعايشون فنانيه عن قرب. ويتكون البيت من اربع طبقات تضمّ قاعات عرض مختلفة تستضيف أعمال عدد من الفنانين. هناك أيضاً مكتبة جانبية تحتوي أحدث الاصدارات المحلية والعالمية المعنية بالفن التشكيلي، الى جوار المحترفات الفنية التي تتوافر فيها المواد الخام. يقدم الفنان إبداعه عادة في الهواء الطلق تحت خيمة الابداع، فيحدث التأثير المطلوب حيث ان المارّة والجيران يعايشون العمل الفني منذ "لحظاته" الاولى، بل ويشكّلون هم انفسهم - احياناً - مادة ابداعية خصبة للفنان. يقول التشكيلي طه صبان رئيس البيت ان "هذا المشروع نجح بالفعل في التواصل مع المكان. كما نجح في تقريب المسافة بين المبدع والمتلقي، خاصة ذلك المتلقي الذي لا يملك أبجديات التعامل مع الفنون الجميلة". وقد تجلّى هذا التقرّب واضحاً في التفاف الناس حول الفنانين في اول مسابقة تجري من نوعها في جدة. أُقيمت المسابقة في الهواء الطلق في ميدان البيعة، وُمنح الفنانون المشاركون ست ساعات لتنفيذ لوحاتهم. ثم قامت لجنة خاصة ومشتركة بين بيت التشكيليين ومكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب في المنطقة الغربية، باختيار الفائزين من بين الذين أنجزوا اعمالهم في تلك الفترة المحددة. ويلفت طه الصبان نظرنا إلى تعاون "بيت التشكيليين" مع "الجمعية العربية السعودية" في اقامة المعرض الجماعي الحادي عشر، وإلى تعاونه مع الرئاسة العامة لرعاية الشباب مكتب المنطقة الغربية في اقامة واعداد المسابقة الاولى لرعاية الشباب. وأقام البيت حوارات ثقافية متنوعة في المنتدى الخاص به، دعي اليه الكثير من الأدباء والمثقفين لمدّ جسور التفاعل مع الفنانين التشكيليين. من جهة أخرى ساهم البيت في تجميل حواري جدة القديمة من خلال تنفيذ بعض الأعمال الجدارية بمبانيها وبيوتها القديمة حيث قام أكثر من عشرة فنانين بممارسة هواياتهم من خلال تلك الجداريات. وأقام معرضاً اسبوعياً مفتوحاً في برحة نصيف، منطقة العلوي، في جدة القديمة، وذلك بهدف خلق تواصل بين المتلقي العادي واللوحة التشكيلية، بالتعاون مع ادارة حماية البيئة. كما تم تنفيذ جدارية بطول عشرة امتار واقامة صالة عرض خاصة بالبيت، بالمشاركة مع احدى المؤسسات التجارية، تهدف الى عرض اعمال الفنانين برسوم رمزية مع اقتطاع نسبة رمزية من المبيعات لصالح البيت. وأقيم مرسم للفنانين، ونفذت جداريات منها واحدة للفنانين عبدالسلام عيد وطه صبان ارتفاع 15 متراً، عرض 5 أمتار، وجدارية الخيل للفنان ربيع الاخرس. أما المعارض الجماعية والشخصية التي أقامها "بيت التشكيليين"، فكان أولها معرض لأعمال طه الصبان، ثم المعرض الخماسي للفنانين محمد فائز ابو هريس وضيف الله قرني ومحمد زكي ومهدي الجريبي وخالد باصرة، والمعرض الشخصي للفنان عبدالله حماس، ومعرض الفنان عبدالرحمن السليمان، والمعرض الشخصي للفنان سعود الشهري، ومعرض الفنانة وفاء هداية، والمعرض الشخصي لنايل ملا، والمعرض الثنائي للفنانتين شادية عالم ورائدة عاشور. على مقربة من حارة اليمن، تقع حارة الشام التي تضم "بيت الفوتوغرافيين" في احد بيوتها القديمة ذات الطراز المعماري المشابه ل "بيت التشكيليين"، وكان افتتاح المؤسستين جاء في فترة زمنية واحدة، في آذار مارس 1993. إلتقت "الوسط" عيسى عنقاوي رئيس البيت الذي قال ان البيت يحتوي على معرض دائم مفتوح يومياً للزوار من هواة ومحترفين ومهتمين بهذا الفن. وقد زار البيت ديبلوماسيون وسياسيون أجانب ووزراء باعتباره أحد معالم جدة القديمة. كما زاره الفنان القطري سالم محمد المري الذي قدّم عرضاً لبعض أعماله على الشرائح المصورة. وزاره الاستاذ ازهري حسين محمد أحمد سكرتير رابطة المصورين الصحافيين السودانيين. وتجري الاجراءات، من خلال مدير فرع جمعية الثقافة والفنون في جدة، مع الجهات المختصة في الرئاسة العامة لرعاية الشباب، للحصول على موافقة رسمية بانضمام "بيت الفوتوغرافيين" في جدّة إلى لائحة الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي. على مستوى المعارض تم افتتاح المعرض الشخصي للفنان عيسى صالح عنقاوي، ثم المعرض الجماعي للمصورين الفوتوغرافيين برعاية جمعية الثقافة والفنون في جدة، اضافة إلى أول معرض جماعي مشترك بين الفوتوغرافيين والتشكيليين. كما شارك عدد كبير من الفنانين الفوتوغرافيين بحوالي 44 لوحة في مهرجان الربيع. وأشرف البيت على تنظيم دورات تدريبية خاصة بالفن الفوتوغرافي، بينها واحدة أدارها الفنان حامد شلبي. وأخرى أُقيمت ضمن أنشطة لجنة التصوير الفوتوغرافي التابعة ل "الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون" بادارة المهندس سعود عبدالرحمن محجوب وبلغ عدد منتسبيها 28 متدرباً. ويعدّ البيت دورة تصوير فوتوغرافي للسيدات تقدمها سوزان باعقيل، بالتعاون مع الجمعية الفيصلية الخيرية النسوية في جدة. ويعدّالبيت للموسم المقبل مشاريع عدّة، أبرزها: معرض جماعي نسائي، معرض فردي نسائي، معرض جماعي رجالي، معرض فردي رجالي، معرض جماعي للمبتدئين - رجالي ونسائي - مفتوح لغير الأعضاء، اضافة الى المعارض الجماعية التي وعدت الجهات المساندة للبيت بإقامتها مثل غرفة التجارة في جدة، جامعة الملك عبدالعزيز، معارض أمانة جدة في منتدى الفوتوغرافيين ومهرجان الربيع... جولة واحدة على البيتين اللذين نشّطا بالفعل الحركة الفنية في جدة، يكفي للاطلاع على نبض الحركة الفنية السعودية اليوم. هذه الحركة التي تعتبر جدّة مؤشراً حيّاً عليها، ومركزاً من مراكز الإشعاع التي تستقطب أصحاب المواهب، وتخلق نواة جمهور حقيقي مستهلك للثقافة البصرية وللفن التشكيلي.