من المؤكد أن انتحار شايين براندو 25 سنة بالقرب من بابيت عاصمة تاهيتي، بشنق نفسها، لم يكن من شأنه أن يثير اهتمام أحد لو لم تكن تلك الحسناء الراحلة ابنة لواحد من أساطير فن السينما مارلون براندو، ولو لم يكن انتحارها حلقة جديدة في سلسلة المآسي وضروب الفشل التي دمرت حياة بطل "انعكاسات في عين ذهبية" و"العراب" و"يوم القيامة... الآن". "ضعوا أنفسكم في مكان هذا الأب. انه لأمر رهيب، كل هذا الذي يحصل له..." بهذه العبارات خاطب الممثل جاك نيكلسون، خريف العام 1990، مجموعة المحلفين، عبر رسالة مفتوحة بعث بها اليهم. ولم تكن الرسالة يومها جزءاً من فيلم يقوم نيكلسون بدور البطولة فيه، بل رسالة حقيقية، الى محلفين حقيقيين تتعلق بمحاكمة حقيقية. صحيح أنها كانت تطاول شاباً في العشرينات، لكن بطلها كان كهلاً، لكنه ليس نكرة. كان كهلاً يحمل بالتحديد اسماً كبيراً: مارلون براندو. وحده مارلون براندو أضفى يومها على المحاكمة طابعها الاعلامي، فهي - في الأصل - تنظر في جريمة عادية، من تلك الجرائم التي تحدث كل يوم: شاب في مقتبل العمر قتل صديق شقيقته من دون سبب واضح. ولكن حين يكون اسم الشاب كريستيان براندو، ويكون واحداً من أولاد مارلون التسعة، تتغير الأمور، خصوصاً أن مارلون أصر يومها على حضور كل جلسات المحاكمة والتدخل كلما أتيح له ذلك. كانت محاكمة كريستيان براندو يومها، مناسبة لتسليط الأضواء على مارلون براندو الذي كان بدأ يستعيد لتوه تألقه كممثل كبير بعد غياب. ولكن بين كريستيان ومارلون لم يتنبه كثيرون في ذلك الحين الى طرف ثالث من أطراف القضية: شابة في العشرين، هي شايين، ابنة مارلون الحسناء التي كان قتل شقيقها لصديقها سبب المحاكمة. بعد ذلك، حين حكم على كريستيان بالسجن تسعة أعوام، تنبه الناس الى مأساة الفتاة التي كانت حاملاً من صديقها وعرفوا أنها حاولت الانتحار مرات، وأنها تعيش حياة في غاية الاضطراب تشغل والدها الشهير. نهاية لحياة مضطربة صحيح أن مارلون براندو كان في ذلك الحين مثل في فيلم "الفريشمان" واحداً من أكثر أدواره هزلاً وطرافة، حيث أمضى ساعتي الفيلم وهو يقلد، ويسخر من دوره الخالد في فيلم "العراب" مثبتاً بهذا أنه ممثل هزلي من طراز رفيع، غير أن آلام حياته ومآسيه لم تكن خافية على أحد. فالجميع كانوا يعرفون أن ذاك الذي يعتبر، منذ "فيفا زاباتا" و"عربة اسمها اللذة" واحداً من أكبر النجوم الذين عرفتهم هوليوود، يعيش مأساة متنقلة كان لا بد لها أن تصل الى ذروتها أواخر الاسبوع الفائت بالتحديد، حين عثر على الشابة شايين براندو مشنوقة في منزل العائلة في احدى أجمل مناطق جزيرة تاهيتي، على مسافة عشر دقائق من العاصمة بابيت. اختارت شايين أن تشنق نفسها واضعة حداً لحياة كئيبة ومضطربة غذت على الدوام أعمدة الصحف ومصادر الاشاعات، مثل كل ما يتعلق بحياة مارلون براندو منذ أكثر من ثلاثين عاماً. وكان من الطبيعي لذلك الموت المفجع لشايين أن يدفع الجميع للالتفات الى مارلون براندو، المقترب الآن من عامه السبعين، ومع ذلك يعيش فترة ذهبية من فترات مساره السينمائي، حين نراه - كأنه يريد أن يتحدى سوء الطالع الذي يطارده - يعمل في فيلم بعد فيلم. كان انتهى من تصوير دوره في فيلم "دون جوان دي ماركو"، وأعلن انه العمل في فيلم جديد أساسه عن رواية "جزيرة الدكتور مورو". وفي انتظار ذلك يستعد براندو لتمثيل دور قسيس في فيلم "استحواذ رباني"، قسيس ايرلندي عنيد يريد، أياً كان الثمن، أن يطوب شابة مناضلة وخجولة تقوم بدورها ديبرا وينغر بطلة "شاي في الصحراء". من المسؤول عن الفواجع من الواضح أن مارلون براندو الذي يعود الى السينما بأكثر مما فعل في أي مرحلة أخرى من مراحل حياته، انما يريد بالعمل الدائم المصاحب لترحال لا يتوقف، ان يهرب من المآسي التي تحيط بحياته. أنجب تسعة أولاد من زيجات متعددة، ويعيش مآسي أولاده بقلب مجروح وانتباه قد ينم عن شعوره بالذنب. وهذا ما لاحظه أولئك الذين تابعوا محاكمة كريستيان براندو في العام 1990. فيومها كان وجه مارلون وجه أب حنون حزين يخشى على مصير ولده، ويشعر بأنه مسؤول ولو بعض المسؤولية عما أصابه وفعله. وبالفعل فإن محللين كثيرين قالوا يومها أن المأساة الحقيقية التي يعيشها أبناء مارلون براندو تكمن، تحديداً، في أنهم ابناؤه وهم يريدون - عبثاً - ان يصبحوا أي شيء آخر. فما الحل؟ لا حل واقعياً لمثل تلك المأساة. كريستيان وجد الحل على طريقته: القتل. فهل تراه اتخذ القرار ومارس التنفيذ وحده، أم أن ثمة مؤامرة عائلية أسفرت عن قتل لصديق شايين، هو أشبه بتنفيذ حكم بالاعدام على حد تعبير والد الضحية؟ لقد صرخ والد القتيل يومها في وجه العدالة أن المجرم هو مارلون براندو نفسه الذي يعيش حياته كعراب حقيقي، ويربي أولاده كأنهم أعضاء في خلية مافيا عائلية. فهل هذا منطقي؟ بالطبع لا. ومع هذا يعتقد مارلون اليوم بأن تعثر مسيرته السينمائية وتشعبات حياته هي المسؤولة عن تفكك عائلته وآلامها. فهل تراه يعتبر نفسه اليوم مسؤولاً عن انتحار شايين بنت الخامسة والعشرين والتاركة وراءها طفلاً من صديقها القتيل؟ من المؤكد أن مأساة شايين ستضيف حزناً الى حزن ذاك الذي كان يعتبر في الخمسينات أكثر نجوم هوليوود سحراً وسعادة، وكان الكثيرون يتنبأون له بمستقبل زاهر وسعيد. زاهر... أجل. لكن السعادة لم تعرف باب مارلون براندو سوى للحظات يسيرة. بل أن اسطورته كممثل، أتى من "الآكتورز ستوديو" ستوديو الممثل، الشهير ليدخل جديداً في الأداء الهوليوودي لا يزال يتتلمذ عليه كل الكبار الذين عرفتهم هوليوود خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لم تمنع مسيرته من لحظات هبوط عنيفة. فشل على كل المستويات أياً يكن فإن المجد الكبير لمارلون براندو، اقتصر في البداية على سنوات عمله الأولى، حيث مثل تحت ادارة ايليا كازان، أفضل أفلامه من "فيفا زاباتا" الى "عند الرصيف" مروراً ب "عربة اسمها اللذة" عن مسرحية تيسي ويليامز الشهيرة، بعد ذلك نراه أخلد الى مرحلة هبوط، لم يقطعها إلا دوره في "انعكاسات في عين ذهبية" الى جانب اليزابيث تايلور باشراف المخرج جون هيستون، و"الانتقام ذو الوجهين" الذي كان الفيلم الوحيد من اخراجه. بعد ذلك غاب طويلاً ليطل بالدور الرائع الذي مثله في "العراب"، دور الدون كورليوني، من اخراج فرانسيس فورد كوبولا. وهو الدور الذي جعله يفوز بأوسكار أفضل ممثل، لمرة ثانية بعد فوزه الأول عن فيلم "عند الرصيف". بيد أنه، لئن كان في المرة الأولى قابل فوزه بسرور ورضى فإنه في المرة الثانية، مع "العراب" رفض أن يتسلم الجائزة، بل أرسل هندية حمراء ألقت باسمه بياناً دان فيه المجازر التي مورست ضد الهنود الحمر. هذا التحدي الصارخ لهوليوود واجهته عاصمة السينما بتجاهل لبراندو دام طوال الفترة اللاحقة، ولم يخرجه منه سوى الايطالي برناردو برتولوتشي الذي أعطاه دوراً لا ينسى في "آخر تانغو في باريس"، ثم صديقه كوبولا الذي أعاده الى الشاشة الأميركية في دور كبير في "يوم القيامة.. الآن" 1978. وبعد ذلك كانت أدوار تناسب كهولته، وكان تأمله في حياته ومآسيها، هو الذي قال ذات مرة للصحافيين: "انني، بعد كل شيء لا أحب السينما لأن السينما دمرتني وجعلت حياتي وهمية واسطورية. من هنا أصارحكم بأنني أفضل الكتابة على السينما". لكنه، مع ذلك، لم يكتب كثيراً، بل واصل عمله السينمائي ورصد مآسي حياته. "رصد فشلي" كما قال هو نفسه: فشله على مستوى الحياة العائلية، اذ ها هي عائلته مفككة وقد عرفت القتل والانتحار والمخدرات التي يتناولها علناً معظم ابنائه، وفشله في أن يصبح كاتباً، ومخرجاً، إذ أنه لم يكرر أبداً تجربته اليتيمة في "الانتقام ذو الوجهين"، وفشله في أن يقيم صداقات حقيقية، فهو انسان وحيد منعزل يهرب من وحدته الى الأمام ويركض من دون أن يدري الى أين، وفشله خصوصاً في مناصرة القضايا التي ناصرها: قضية الهنود الحمر، قضية زنوج جنوب افريقيا "لقد كان بامكان كل شيء ان يسير حياته الطبيعية من دوني"... قال، وفشله في الحب على رغم زيجاته الكثيرة. نحو انقلاب اساسي؟ كان لا ينقص مارلون براندو إلا هذه النهاية المفجعة التي كانت من نصيب ابنته المفضلة شايين حتى تكتمل تعاسته وتصل مأساته الى ذروتها. حتى الآن، لم تتحدث الصحافة عن رد فعل مارلون براندو على انتحار شايين. هل هذا الفنان الذي لم يرضه في حياته شيء، حتى ولا كونه رشح لنيل الأوسكار ثماني مرات، وهو أمر لم يضاهه فيه سوى العملاقين الآخرين: سبنسر ترايسي ولورانس اوليفييه، ولا كونه من ناحية ثانية صاحب الرقم القياسي بالنسبة الى أكبر مبلغ دفع لفنان في مقابل ظهوره في فيلم من الأفلام، هل سيواجه مأساته الجديدة بنزعة تأملية، معتبراً انتحار شايين حلقة طبيعية وحتمية في سلسلة مآسيه المتتالية، أم ان انتحار الصبية سيدفعه الى انقلاب أساسي في حياته؟ انقلاب؟ وفي نهاية العقد السبعيني من العمر؟ هل هذا ممكن، يتساءل المراقبون ثم يجيبون: أياً يكن ان حياة مارلون براندو عرفت حتى الآن كل أنواع المآسي والانقلابات، وفي كل مرة كان الرجل يخرج خفيفاً معافى على رغم تقدمه في العمر".