تواصل الطبيعة تحديها لقدرة الانسان ونبوغه التقني مبرزة على الدوام نقاط ضعفه في مواجهة الكوارث البيئية والطبيعية. فبعد الزلزال الأخير الذي أصاب مدينة كوبي في اليابان، تعرضت أجزاء شاسعة من شمال أوروبا الغربية لأسوأ كارثة طبيعية تصيب القارة الأوروبية منذ 60 عاماً. فقد أغرقت مياه الفيضانات ألوف الحقول والمنازل ومئات المصانع والشركات والطرقات. وتوقفت حركة الملاحة النهرية في معظم القنوات وتم اجلاء مئات الألوف عن منازلهم من هولنداوالمانياوبلجيكاوفرنساوبريطانيا. ولقي 27 شخصاً مصرعهم بفعل الفيضانات التي جاءت نتيجة لهطول أمطار غزيرة هي الأسوأ منذ 150 عاماً، وذوبان الثلوج وهبوب الرياح العاتية وتداعي بعض الحواجز المائية، وارتفاع مستوى مياه نهر الراين الذي يمتد على طول المانيا ويتابع جريانه عبر هولندا قبل تفرعه الى نهري وال وماز في طريقه الى بحر الشمال. هولندا في هولندا تسببت الفيضانات التي اجتاحت جنوب وشرق البلاد في مقتل 3 أشخاص وتعطيل 150 ألف وظيفة و15 ألف شركة ونزوح 250 ألف مواطن عن منازلهم في أكبر عملية اجلاء تقوم بها السلطات الهولندية منذ أكثر من 40 عاماً. وقد أبدى المسؤولون الهولنديون مخاوفهم الشديدة من حدوث مزيد من الفيضانات تحت ضغط مياه الأنهار الفائضة جراء ذوبان الثلوج وهطول الأمطار الغزيرة وهبوب الرياح العاتية. ونظراً لأن أكثر من ثلثي سكان هولندا يعيشون تحت مستوى البحر خلف شبكة من الحواجز المائية القديمة التي يعود تاريخها للعصور الوسطى على طول الساحل والأنهار. خشي المسؤولون ان يؤدي ازدياد الضغط المائي على الحواجز نتيجة استمرار هطول الأمطار الغزيرة وذوبان الثلوج وارتفاع منسوب مياه الأنهار الى تداعيها وانهيارها كالقلاع الرملية التي يبنيها الأطفال على شاطئ البحار. تجدر الاشارة الى أن الهولنديين يتذكرون بمرارة الفيضانات الرهيبة التي أصابتهم عام 1953، عندما حطمت مياه بحر الشمال الحواجز المائية في الساحل الجنوبي للبلاد، وغمرت قرى بأكملها مخلفة الدمار ووفاة 1835 شخصاً. وهذا ما دفع معظم المواطنين الى انتقاد حكومتهم واتهامها بالتقصير في حمايتهم من الفيضانات الأخيرة نتيجة اهمالها تقوية الحواجز المائية القديمة التي ترد عنهم خطر الفيضانات والتردد في تدعيمها. بينما وجه البعض الآخر أصابع الاتهام لأنصار حماية البيئة الذين عارضوا عملية تدعيم بنية الحواجز والسدود المائية وتسببوا في تأخير تنفيذها بحجة أنها تسيء الى البيئة وتشوه جمال الطبيعة. ورغم الشهرة العالمية التي يعرف بها مهندسو عمليات الجرف وتنظيم مجاري المياه الهولنديون، وانتشار شركاتهم في أكثر من 70 دولة، جاءت الفيضانات الأخيرة لتثبت عجزهم عن حماية أنفسهم وتقاعسهم عن تدعيم الحواجز المائية وتنظيم مجرى المياه النهرية في بلادهم. وفي فرنسا تسببت الفيضانات والأمطار الغزيرة التي لم تشهد البلاد مثيلاً لها منذ مئة عام، بارتفاع مستوى مياه نهر السين ونهر موز، وأدت الى نزوح 6 آلاف شخص وحرمان 250 ألف مواطن من الكهرباء، بينما انقطعت مياه الشرب عن 240 ألف شخص. اضافة الى الاضرار التي أصابت 40 ألف منزل ومقتل 16 مواطناً. وعانت المانيا بدورها من الفيضانات وارتفاع منسوب نهر الراين الى أعلى مستوياته منذ قرنين. كما ارتفع منسوب نهر ماين وغمرت المياه جزءاً كبيراً من مدينة كولون وأجزاء محدودة من مدن فرانكفورت وبون وكوبلنز وتراير وكليف. وراح ضحية الفيضانات 4 أشخاص. وأدت الفيضانات وارتفاع مستوى مياه نهر موز في بلجيكا الى مقتل 6 مواطنين وجلاء 800 عن منازلهم. وفي شمال شرق انكلترا تم ترحيل مئات المواطنين بسبب الفيضانات الناجمة عن هطول الأمطار الغزيرة وذوبان الثلوج. وأدى انزلاق بعض الأراضي الى تصادم قطارين للركاب دون وقوع ضحايا. تناقض الأحوال الجوية وبينما كانت معظم دول أوروبا الغربية تتضرع الى تغير الأحوال الجوية وتوقف هطول الأمطار، واصلت اسبانيا معاناتها من الجفاف الشديد الذي أصابها نتيجة انخفاض معدل هطول الأمطار للسنة الخامسة على التوالي. ما اضطر ملايين الاسبان للتكيف مع انقطاع مصادر المياه عنهم لساعات عدة يومياً. ويعاني المزارعون بشكل خاص من جفاف المحاصيل وما يترتب على ذلك من صعوبات اقتصادية ومادية واجتماعية. أسباب حدوثها وعن أسباب حدوث الفيضانات الأخيرة في شمال أوروبا الغربية صرح البروفسور جيفري بيتس، استاذ الجغرافيا في جامعة برمنغهام البريطانية ل "الوسط"، بأن غياب الجيوب الهوائية الثقيلة والباردة فوق تلك المنطقة سمح بهبوب الرياح الرطبة الدافئة ذات الضغط المنخفض من المحيط الأطلسي الى القارة الأوروبية من دون عوائق، فأدى ذلك بدوره الى هطول أمطار غزيرة فاقت المعدل وأشبعت الأراضي بالمياه. كما أن اعتدال درجة الحرارة وارتفاعها عن معدلها خلال شهر كانون الثاني يناير تسبب في هطول الأمطار بدل الثلوج في المناطق الجبلية وأدى الى ذوبان الثلوج فوق جبال الألب بحيث انجرفت المياه باتجاه الأنهار وسببت فيضانها. وأكد البروفسور بيتس ل "الوسط" ان المحاولات الهندسية للأنهار لم تكن قادرة على السيطرة على مجرى المياه الفائضة ولم تتمكن من منع وصولها الى شمال أوروبا الغربية. وقد يعود السبب في ذلك الى سرعة وضخامة الفيضانات التي ربما ازدادت سوءاً نتيجة لأعمال البناء والتشييد التي يقوم بها السكان على ضفاف نهر الراين. من جهة أخرى أوضح المهندس مارك روبنسون من معهد علم المياه في منطقة والينغفورد في مقاطعة اوكسفوردشاير البريطانية، انه حتى لو لم يتسبب استخدام الأراضي في حدوث الفيضانات الأخيرة، إلا أنه بلا شك جعلها أسوأ وزاد من خطرها. فالأراضي في المناطق النهرية تتصرف وكأنها أسفنجة تمتص المياه الصادرة عن هطول الأمطار الغزيرة، لأيام عدة، ثم تطلقها في النهر دارئة بذلك خطر الفيضان. لذلا فإن إزالة الأشجار وتعبيد الطرقات وبناء أنظمة متعددة للمجاري يزيد من سرعة وصول مياه الأمطار الى الأنهار. كما أن تشييد الأقنية المائية عبر أنهار مستقيمة يزيد من سرعة تدفق المياه، ما يضطر الأنهار الى نقل كمية معينة من المياه خلال بضع ساعات بدل بضعة أيام كما هو مقرر لها عادة. ومن المعروف ان نهر الراين كان من أول الأنهار الأوروبية التي تعرضت لعملية شق القنوات، فأصبح يتدفق في قناة عميقة واحدة بدل قناتين أو أكثر. وقد يكون ذلك من الأسباب التي زادت في سوء حال الفيضانات الأخيرة. دور التسخين العالمي تضاربت آراء الخبراء حول دور التسخين العالمي في وقوع تلك الفيضانات. فبينما استبعد خبراء الأحوال الجوية ان يكون للتسخين العالمي أي دور فاعل فيها، أكد بعض خبراء البيئة أن "فيضانات القرن"، كما سماها رئيس الوزراء الفرنسي ادوار بالادور، ما هي إلا دليل على أن مشكلة التسخين العالمي حقيقة واقعة تتطلب تحركاً سريعاً من حكومات العالم لدرء خطر التلوث البيئي واحتوائه قبل أن يستفحل وتصبح الكوارث البيئية والطبيعية أمراً محتوماً يتكرر حدوثه وتتعاظم أخطاره باستمرار. وفي هذا الصدد أشارت خبيرة البيئة آنا ستانفورد من "جمعية أصدقاء الأرض" الى أن أوروبا تعاني من ارتفاع غير عادي في معدل درجات الحرارة خلال شهر كانون الثاني يناير، وان استمرار هذا الارتفاع مهما كان ضئيلاً، حتى لو اقتصر على درجة مئوية واحدة، فإنه يكفي لخلق أجواء مناخية متطرفة كتلك التي شهدتها هولنداوفرنساوالمانياوبلجيكا أخيراً وتسببت بحدوث الفيضانات. وقد دعت الخبيرة ستانفورد الى ضرورة تخفيض انتاج غازات الدفيئة مثل غاز ثاني أوكسيد الكربون، والاقتصاد في استخدام الطاقة. فالأرقام الرسمية تظهر ازدياداً واضحاً في ضخ غاز ثاني أوكسيد الكربون في الأجواء، بشكل لم يسبق له مثيل، في العام الماضي. إلا أن خبير الأرصاد الجوية في لندن مالكولم بروكس لا يوافق الخبيرة ستانفورد رأيها لأن حدوث اضطرابات مناخية في جزء صغير من أوروبا لا يكفي للادعاء بوجود مشكلة مناخية على المستوى العالمي، خصوصاً ان خطر الفيضانات التي شهدتها تلك المناطق بدأ يتلاشى وأوشك على الانتهاء خلال أسبوع واحد فقط. وأشار الى أن الارتفاع البسيط في درجة الحرارة أدى الى هطول الأمطار عوضاً عن الثلوج فوق مرتفعات الجبال، كما أدى الى ذوبان الثلوج المتراكمة أصلاً فوق تلك المرتفعات. ما تسبب في تضخم مياه الأنهار وفيضانها. وفي اتصال أجرته "الوسط" مع أحد كبار خبراء الأرصاد الجوية في بريطانيا وأستاذ هذه المادة في جامعة ردينغ، البروفسور بريان هوسكنز، الذي اكتشف أحدث طريقة وأدقها لتحديد مسار العواصف، أكد الخبير البريطاني عدم وجود أية أدلة على أن التسخين العالمي قد يكون وراء هطول الأمطار الغزيرة والفيضانات التي اجتاحت شمال أوروبا الغربية. ونفى أن تكون هناك علاقة بين ارتداد التيارات المائية الدوري في المحيط الهادئ، واضطراب الأحوال الجوية في أوروبا. من جهة أخرى شكك البروفسور أندرو غودي، أستاذ الجغرافيا في جامعة أوكسفورد، بأن يكون التسخين العالمي وراء تدهور الأحوال الجوية والفيضانات والدمار الذي أصاب بعض المناطق في هولنداوبلجيكاوفرنساوالمانيا. وأشار الى أن تاريخ أوروبا حافل بالتقلبات الجوية والمناخية الشديدة. وأكبر دليل على ذلك الفيضانات الهائلة التي أصابت أوروبا في القرن الماضي. وبما أنه لم تحدث أية انفجارات بركانية خلال الأشهر الماضية فإنه لا يمكننا أن نعزو الاضطرابات الجوية الأخيرة اليها، كما حدث عام 1991 عندما أدى انفجار بركان ماونت بناتوبو في الفيليبين الى التأثير على الطقس العالمي لمدة عامين وأدى الى هبوط درجة الحرارة في أوروبا طوال تلك الفترة. وأيد الدكتور روجر نيوسون، المسؤول عن برنامج أبحاث المناخ العالمي في جنيف، ما قاله البروفسور غودي، مشيراً الى أن الفيضانات التي اجتاحت شمال أوروبا الغربية لا يمكن ربطها بالتقلبات المناخية في الوقت الحاضر. إلا أن التجربة الحالية في دراسة المناخ العالمي تبين أننا نسير في اتجاه التسخين العالمي. فالاحصاءات الدولية تشير الى أن العام 1994 كان من أكثر الأعوام دفئاً، كما أن الفترة ما بين شهر آذار مارس وكانون الأول ديسمبر كانت من أدفأ الأشهر منذ العام 1951. غير أن عدم استمرار موجات الدفء هذه والتقلبات الاحصائية للمناخ أبقته في حيز التغيير الطبيعي للبيئة. اما إذا استمر الدفء خلال فصول الشتاء المقبلة فإننا بلا شك نكون سائرين في اتجاه كارثة التسخين العالمي. إن عدم ثبوت علاقة التسخين العالمي بالفيضانات والأحوال الجوية القاسية التي أصابت شمال أوروبا الغربية يجب أن لا يثنينا عن المطالبة بضرورة التزام دول العالم، وبالذات الدول الصناعية، بتخفيض انبعاث غاز ثاني أوكسيد الكربون في الأجواء بنسبة 20 في المئة عما كان عليه عام 1990 وذلك بحلول عام 2005. لأن غازات الدفيئة التي يمكن أن تتراكم على مدى عشرات السنين ستحتجز أشعة الشمس داخل جو الأرض، ما يسبب تسخيناً عالمياً تدريجاً يؤدي لاحقاً الى ارتفاع مستوى البحار وهبوب العواصف العاتية والفيضانات أو الجفاف وغيرها الكثير من المصائب البيئية الخطيرة التي تهدد مستقبل البشرية. اجراءات ضرورية ضد الفيضانات بعد تعرض حكومات الدول المتضررة جراء "فيضانات القرن" لانتقادات شديدة من ممثلي الشعب ومن المواطنين والمزارعين وأصحاب المصالح والأعمال، واتهامها بالتقصير والاهمال. قررت كل من فرنساوهولنداوالمانياوبلجيكا تخصيص موازنات محددة لتغطية نفقات بعض الاجراءات الضرورية الكفيلة بحماية المواطنين وممتلكاتهم ومصالحهم من خطر الفيضانات. وقد تتعدى قيمة هذه الاجراءات بلايين الدولارات على المدى البعيد. وقامت هيئة الاتحاد الأوروبي بالطلب من كافة فروعها المختصة بالشؤون الزراعية والبيئية والسياسية الاقليمية والحماية المدنية وغيرها، وضع دراسة مفصلة وتحليل للأسباب التي أدت الى حدوث تلك الفيضانات الهائلة، وتقديم الاقتراحات والتوصيات اللازمة لمنع تكرار مثل هذه الكارثة مستقبلاً. من الاجراءات المقترحة: 1- دعم وتقوية السدود والحواجز المائية على ضفاف الأنهار. 2- تطوير شبكة المجاري والطرقات للسيطرة على سرعة تصريف المياه. 3- منع أعمال البناء والتشييد في المناطق النهرية المعرضة لخطر الفيضانات. 4- تحسين وتطوير طرق التنبؤ بالأحوال الجوية. 5- اعادة زرع السياج والحواجز النباتية واحياء الأراضي الرطبة. 6- اعاة دراسة هندسة القنوات المائية للأنهار.