بعد ساعات من اختتام القمة الخليجية السادسة عشرة في مسقط قال ديبلوماسي غربي ل "الوسط" ان القمة التي توقعها الجميع قمة هادئة وعادية ستمر من دون أزمات ومشاكل فاجأت الجميع بأنها اصبحت اكثر هذه القمم إثارة، بعد انسحاب أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني من الجلسة الختامية. ولكن اذا كانت مسألة الانسحاب القطري بالنسبة الى الديبلوماسيين الغربيين مسألة "إثارة" فهي بالنسبة الى مجلس التعاون الخليجي، دولاً وشعوباً، مسألة "خطيرة" وتدهور مثير للقلق والخوف بالنسبة الى مستقبل هذا الكيان الاقليمي الذي تأسس قبل نحو 15 عاماً. وبعبارة اوضح فإن المصادر الخليجية المطلعة التي حاولت "الوسط" ان تخرجها من حالة الذهول ووقع مفاجأة انسحاب قطر غير المتوقع "الذي تم في اللحظات الاخيرة على حد وصف وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي بن عبدالله في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعد القمة" عبّرت جميعها عن قناعتها بأن غياب قطر ليس حدثاً عادياً يمكن التعامل معه بخفة او استهانة وإنما هو في واقع الامر اكبر شرخ يحدث في جدار مجلس التعاون الذي كان يحلو للخليجيين حتى يوم الاربعاء الماضي وصفه ب "البيت الخليجي". اما لماذا يمثل انسحاب قطر اكبر ازمة معلنة في تاريخ المجلس، فذلك يعود الى اسباب لخصتها المصادر المذكورة في النقاط الآتية: - ان حدث انسحاب دولة خليجية من اجتماع قمة للمجلس هو حدث غير مسبوق، ومخالفة حتى للسلوك الخليجي الاجتماعي التقليدي الذي يرفض مواقف الخروج الصريح عن الجماعة او الإنسحاب المعلن من دائرتها. - ان هذا الانسحاب تم على هذا المستوى السياسي الرفيع، اي مستوى القادة، وهو لذلك يمثل دلالة مختلفة وأكثر خطورة الى الانسحابات السابقة التي كانت قطر ايضاً قامت بها على مستويات أقل وزارية وفنية، خصوصاً في عام 1993 اثر حادث "الخفوس" الحدودي مع المملكة العربية السعودية، اذ ان قادة دول المجلس حافظوا باستمرار، على رغم كل الخلافات الحدودية والسياسية بين دولهم، على علاقات اتصال مستمرة في ما بينهم اعتبرت احدى ضمانات استمرار المجلس على رغم كل العقبات التي اعترضت طريقه. ويمثل الانسحاب القطري علامة استفهام في شأن استمرار هذه الضمانة في ما يخص العلاقات بين زعماء الدول الخليجية. - ان هذا الانسحاب يهدد بوضوح فكرة انعقاد القمة الخليجية المقبلة التي يفترض ان تعقد - حسب نظام التعاقب على الاستضافة بين الدول الاعضاء - في العاصمة القطرية اذا لم يدع أمير قطر زملاءه قادة دول المجلس كما هو متبع الى حضور القمة في الدوحة العام المقبل. وعلى رغم ان التساؤل الذي طُرح في ختام القمة امام وزير الخارجية العماني عما اذا كانت قمة مسقط ال16 هي آخر القمم الخليجية، على غرار قمة القاهرة العربية التي عقدت بعد غزو العراقالكويت عام 1990 ولم تُعقد بعدها أية قمم اخرى، على رغم ان هذا التساؤل قد يجد جوابه في ان الدعوة لم توجه بسبب "بروتوكولي بحت" وهو انسحاب امير قطر وعدم حضوره الجلسة الختامية التي توجه منها الدعوة عادة، فإن القضية تظل مثارة خصوصاً ان وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني قال ان بلاده لم تقرر بعد هل ستعقد القمة الخليجية المقبلة في الدوحة او لا. - ان الانسحاب القطري - وهذا هو الأخطر - يهدد كيان مجلس التعاون الخليجي ومستقبل بقائه، على الاقل بحجمه السياسي والجغرافي الراهن. اذ ان التصريحات القطرية الاولى بعد ختام القمة تركت الباب مفتوحاً، حتى لاحتمال الانسحاب من المجلس نفسه وليس فقط من القمة. وكانت الدوحة دعت الخميس الى مؤتمر صحافي يعقده وزير الخارجية السبت بعد صدور "الوسط، وينتظر ان يعلن الموقف القطري من القضية برمتها. علماً ان أمير قطر اوضح لمجلس وزرائه وجهة نظره وما حدث في القمة. ان الفكرة التي أشار اليها وزير الخارجية العُماني بعد انهاء القمة عن طبيعة المجلس ككيان اقليمي صغير الحجم باعتبارها طبيعة تتطلب تعاملاً خاصاً عند النظر في قضايا الاجماع والغالبية تظل صحيحة ايضاً عند النظر في قضايا التكوين السياسي والحجم. فإذا وقع الاحتمال الذي لا يزال الكثيرون في الخليج يستبعدونه على اي حال، وهو تطوير قطر لموقفها ليتحول من انسحاب احتجاجي من القمة الى انسحاب شامل من المجلس وخروج تام من عضويته، فإن مثل هذا الخروج بالنسبة الى عدد اعضاء المجلس 6 دول فقط وبالنسبة الى حجمها السكاني والجغرافي المحدود سيتجاوز مجرد انسحاب دولة الى قطع الامتداد الطبيعي والجيواستراتيجي للمجلس وإضعاف وزنه السياسي في وقت كان يتهيأ ليدخل القرن المقبل ككيان اقليمي دفاعي وديبلوماسي له سوق مشتركة ويبحث لنفسه عن مكان مناسب وسط التكتلات الاقليمية الاخرى. تحديات السياسة والقانون والشرعية واذا كان من شيء تبينه ظاهرة انسحاب قطر من المجلس فهو ليس فقط الخروج عن الاجماع في المجلس ولكن ايضاً ان المجلس ليس بخير وان "عافيته" السياسية ليست على ما يرام. ويمكن القول ان هذه الظاهرة بلورت ثلاثة تحديات رئيسية يواجهها المجلس وتحتدم داخله، وجاءت هذه العاصفة الانسحاب لتكشف عنها بهذه الصورة "التراجيدية" امام اجهزة الاعلام، وهذه التحديات هي الآتية: * تحدي الخلافات الثنائية والحدودية: تثبت هذه الازمة ما سبق ان قلل كثيرون من خطورته ان الخلافات الثنائية بين بعض دول المجلس سواء على الحدود او على بعض المواقف السياسية الاقليمية هي اكبر قنبلة موقوتة تحت بناء المجلس، وان ازالة هذه القنبلة نهائياً بتسوية هذه الخلافات بصورة سريعة ومنصفة هي الحل الوحيد لاستعادة الثقة السياسية المفقودة وإزالة عناصر الريبة والشك القائمة بين بعض الدول. أما كيف تثبت هذه الازمة خطوة هذه الخلافات فواضح للغاية، اذ ان السبب المعروف لانسحاب قطر وللأزمة العنيفة التي سبقتها في أروقة القمة والتي لم تفلح كل الجهود في احتوائها هو مسألة اختيار غالبية دول المجلس للمرشح السعودي جميل الحجيلان كأمين عام للمجلس على حساب المرشح القطري عبدالرحمن العطية. لكن هذا السبب، كما يعرف الجميع، لا يفسر لا حدة الازمة ولا حدة الموقف القطري بالانسحاب، اذ ان منصب الأمين العام للمجلس ليس منصباً حاكماً وليست له صلاحيات سياسية استقلالية كبيرة، خصوصاً اذا قورن مثلاً بمفوض الاتحاد الاوروبي. لكن التفسير هو ان الحدة عكست "عدم صفاء" العلاقات وعدم توافر الثقة والتسامح السياسي بين بعض دول المجلس بسبب القضايا الثنائية المعلقة التي لم تحل، وكانت قضية التنافس على منصب الأمين العام الفرصة والمتنفس للتعبير عنها، لكن بصورة لم يتوقعها حتى اكثر المراقبين تشاؤماً. * التحدي القانوني، صار معروفاً للجميع الآن ان قطر انسحبت بدعوى ان اختيار الأمين العام الجديد للمجلس بموافقة خمس دول على رغم اعتراضها هي اي بموافقة الغالبية يعتبر مخالفة صريحة للبند الثاني من المادة التاسعة من النظام الاساسي للمجلس التي تقول ان قرارات المجلس الأعلى "تصدر في المسائل الموضوعية بإجماع الدول الاعضاء المشتركة في التصويت وتصدر قراراته في المسائل الاجرائية بالأغلبية". وهكذا، ففي حين رأت قطر - وحدها - كما اكد وزير الخارجية العماني ان هذه المسألة موضوعية لا بد ان تحسم بالاجماع رأت الدول الخمس الاخرى الاعضاء انها مسألة اجرائية تكفيها الغالبية. ومن اسباب ذلك ان النظام الاساسي للمجلس لم يفسر بوضوح او تفصيل ما هي القضايا الجوهرية وما هي القضايا الاجرائية. وربما كانت احدى النتائج التي تطرحها ازمة انسحاب قطر اهمية وجود نصوص قانونية محكمة ومفصلة في النظام الاساسي او في ملحق خاص به تحدد القضايا الموضوعية التي ينطبق عليها شرط الاجماع والقضايا الاجرائية التي ينطبق عليها شرط الغالبية، حتى لا تكون مدخلاً او ذريعة لقيام اي دولة في المستقبل بالانسحاب او عدم التزام اي قرار لا يعجبها. * تحدي الشرعية الاقليمية: بالنظر الى العلاقات التاريخية والسياسية المتداخلة بين دول المجلس شعوباً وأنظمة حكم، فإن الدعم الاقليمي الذي تقدمه الدول الاعضاء لكل حكم ونظام سياسي في احداها يعتبر عنصراً مهماً في مسألة الشرعية السياسية والاقليمية لهذا النظام. وأكدت مصادر قطرية وخليجية انه عقب انسحاب قطر تم حذف فقرة كان متفقاً على ادراجها في البيان الختامي للقمة وتتضمن ترحيباً بالشيخ حمد بن خليفة آل ثاني كأمير لقطر باعتباره يحضر القمة للمرة الاولى بهذه الصفة. وبغض النظر عن الاسباب يبدو ان قطر كانت تعتبر هذه الفقرة مهمة لتأكيد الدعم والاعتراف الذي قدمته كل دولة من دول المجلس على حدة عندما تولى الشيخ حمد بن خليفة مقاليد الحكم بدلاً من ابيه في شهر حزيران يونيو الماضي بحيث يصبح دعماً واعترافاً جماعياً. والخلاصة ان انسحاب قطر وضع كل سلبيات وتحديات المجلس امام مواجهة حتمية، فإما ينجح اعضاؤه الست في حسمها والتغلب عليها بحكم وبسرعة ايضاً ويستمر بالتالي المجلس ككيان للمجموعة التي تضم بين جنباتها نصف احتياطي العالم من النفط وربع احتياطه من الغاز، وإما تتهاون في التعامل معها فيتسع الشرخ والانشقاق في الجدار الخليجي وتصبح مسألة استمراره والحفاظ على ثروات شعوبه والحصول على موقع اقليمي ودولي يتكافأ مع وزنها الاقتصادي محل شك وغموض كبيرين.