عندما أقيم معرض دبي الدولي الأول للطيران في العام 1989، كان من الصعب على العديد من مسؤولي الصناعات الجوية ومتتبعي شؤونها في العالم تصور مدى النجاح الذي سيكون في مقدور هذه السلسلة الجديدة من معارض الطيران تحقيقه، او توقع السرعة التي قد يتم فيها احراز ذلك المستوى من النجاح خلال فترة زمنية وجيزة. بل ان بعض المشككين في صوابية الفكرة وجدواها ذهب آنذاك الى حد الاعراب عن قناعته بأن معرض دبي الاول لن يكون اكثر من مناسبة وحيدة من نوعها، وان المشرفين على تنظيمه لن يفكروا في اقامته مرة ثانية. ففي ذلك الوقت، كانت الشكوى في صفوف الحكومات والشركات المعنية بشؤون الصناعة الجوية تنطلق من كثرة معارض الطيران الدولية وتعددها لا من قلتها. وبينما اخذ عدد من تلك الحكومات والشركات في التفكير جدياً، خلال تلك الفترة، في التخفيف من حجم مشاركتها في تلك المعارض، او الانسحاب منها كلياً في حالات معينة، فان الحكمة من تنظيم معرض دولي جديد واقامته في منطقة مثل الشرق الاوسط كانت مدعاة للكثير من التساؤلات والافتراضات السلبية. نجاح منذ البداية لكن تجربة السنوات الماضية سرعان ما اثبتت الخطأ الفادح الذي وقعت فيه تلك التوقعات المبكرة. فالنجاح الذي سجله معرض دبي الدولي للطيران منذ اقامته للمرة الأولى كان اكبر بكثير حتى من اشد الطموحات تفاؤلاً. واتضح بسرعة ان هذا المعرض لم يكن مرشحاً للتحول الى ظاهرة دائمة ومستمرة فحسب، بل انه اصبح ايضاً مناسبة عالمية رئيسية لا تستطيع اي دولة او مؤسسة او شركة حكومية كانت ام خاصة معنية بالصناعة الجوية والفضائية وبشقيها العسكري والمدني التغيب عنها. وفي الواقع، فان معرض دبي للطيران هو اليوم على المستوى نفسه من الاهمية والشمولية وحجم المشاركة الدولية الذي لا يميز الا معرضين دوليين آخرين للطيران في العالم فقط، وهما معرض "لو بورجيه" الذي يقام في ضواحي العاصمة الفرنسية باريس كل عامين، ومعرض "فارنبورو" الذي يقام بدوره كل عامي بالقرب من العاصمة البريطانية لندن. وشأنه في ذلك شأن "لوبورجيه" و"فارنبورو"، فإن معرض دبي يقام ايضاً كل عامين، حيث تشرف على تنظيمه شركة المعارض الدولة "فيرز اند اكسيبيشنز" بالتعاون مع حكومة دبي والقوات الجوية في دولة الامارات العربية المتحدة ودائرة الطيران المدني الاتحادي وادارة مطار دبي الدولي. و"دبي 95"، الذي يقام هذا العام خلال الفترة الممتدة ما بين 12 - 16 تشرين الثاني نوفمبر، هو الرابع في هذه السلسلة من المعارض التي لم يعد هناك من نقاش حول اهميتها وموقعها البارز على روزنامة الطيران الدولية، والتي اضحت ساحة للتنافس بين المنتجين العالميين لاثبات وجودهم فيها وعرض احدث ما توصلوا اليه من تقنيات ومعدات وأنظمة وتجهيزات ذات صلة بهذا المضمار. واسباب ذلك عديدة، وهي تفسر بدورها العوامل السياسية والاقتصادية والاستراتيجية المترابطة التي كانت وراء النجاح الذي حققته معارض دبي للطيران منذ بدايتها. فالفكرة اساساً من اقامة معرض كهذا في منطقة الخليج والشرق الاوسط كانت ولا تزال فريدة من نوعها، ونجاحها هو بطبيعة الحال برهان على الاهمية الاستثنائية التي تتمتع بها هذه المنطقة باعتبارها احدى اهم الاسواق التي يطمح اليها المنتجون في العالم. وهذا لا ينطبق فقط على الصعيد العسكري ومجالاته المتنوعة من طائرات، وذخائر جوية متطورة، بل وايضاً على الصعيد المدني بما يشتمل عليه من طائرات نقل تجارية للركاب وللشحن، وطائرات نقل لرجال الاعمال، وأنظمة اتصال وملاحة، ومعدات لتجهيز المطارات وغير ذلك من نواح متخصصة ذات علاقة بعمليات النقل الجوي المدني على انواعها. التنافس العالمي واذا كان التنافس على الفوز بأسواق الخليج والشرق الاوسط انعكس تنافساً بين منتجي الصناعات الجوية والفضائية والالكترونية على حضور معارض دبي للطيران واثبات الوجود فيها منذ بدايتها، فان ذلك شكل لهؤلاء المنتجين في الوقت نفسه فرصة للانطلاق نحو توسيع حصصهم في اسواق عالمية اخرى ذات اهمية بالغة مثل اسيا والشرق الاقصى. فالموقع الجغرافي الفريد من نوعه الذي تتمتع به دبي ودولة الامارات العربية المتحدة يجعل منها نقطة وصل والتقاء نموذجية بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب وبين مصادر التطوير والانتاج وأسواق الاستيراد والاستهلاك، ليس على مستوى الخليج والشرق الاوسط فحسب، بل وعلى المستوى العالمي الأشمل. ولعل في هذا ما يفسر الطابع المتميز الذي اتسمت به المشاركة الدولية في معارض دبي الجوية، حيث كانت منذ اللحظة الاولى تعبيراً واضحاً عن هذه السمة العالمية الجامعة. فعلى خلاف معرضي "لوبورجيه" الفرنسي و"فارنبورو" البريطاني مثلاً، حيث ظل طبيعياً ان تطغى منتجات الصناعات المحلية للدولة المستضيفة على غيرها مع اهمية المشاركة الدولية الخارجية، فان معرض دبي شكل في المقابل فرصة حقيقية ومناسبة مثالية لزوسع مشاركة عالمية شاملة لا يستطيع فيها صرف ما ان يطغى على طرف آخر. ولهذا، اصبح تقليداً متبعاً ان يشتمل معرض دبي في كل مرة يقام فيها على حضور متميز لمنتجين كان من الصعب تصور وجودهم في صورة واسعة مماثلة في معارض دولية اخرى للصناعات المحلية فيها مصلحة اساسية تعلو على غيرها. فالى جانب الدول الصناعية الغريبة الرئيسة مثل الولاياتالمتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا، ومعها دول اوروبية غربية اخرى منتجة للطائرات والمعدات الجوية والدفاعية مثل ايطاليا واسبانيا وهولندا، كان بارزاً على الدوام حرص الدول الاوروبية الشرقية على المشاركة الكثيفة في دبي تعبيراً عن اهتمامها البالغ بالدخول الى اسواق المنافسة العالمية، ولا سيما في اعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وتحول هذه الدول الى اتباع اقتصاديات السوق ومبادئها الرأسمالية التجارية. واذا كان المشاركة الروسية من السمات البارزة التي ميزت معارض دبي الجوية على الدوام منذ انطلاقتها الاولى، فإن اهتمام دول اوروبية شرقية اخرى، مثل تشيكيا وبولندا ورومانيا، بالحضور وعرض منتجاتها لم يمكن اقل شأناً. واضافة الى هذه الدول، كان المجال رحباً في دبي امام مشاركة منتجين عالميين ظهرت صناعاتهم الجوية والدفاعية وتنامت في صورة لافتة خلال العقدين الماضيين لتصبح الآن في مقدم المتنافسين الدوليين على التصوير والانتاج والتصدير الى خارج بلادها. وهذا ينطبق بالذات مثلاً على دول من العالم الثالث تتمتع في الوقت الحاضر بقاعدة صناعية متطورة مثل البرازيل واندونيسيا وباكستان وجنوب افريقيا، وهي جميعها دول اصبحت تعتبر معرض دبي للطيران بمثابة المناسبة الدولية المثلى لعرض منتجاتها ومقارعة منافساتها في العالم على الفوز بالأسواق والعقود الخارجية الثمينة لتمكينها من الاستمرار في تنمية صناعاتها وتطويرها. الأضخم والأشمل انطلاقاً من كل هذه العوامل، لم يكن مستغرباً ان تحقق معارض دبي الجوية قفزات متتابعة في كل مناسبة اقيمت فيها. فكما كان الحال في "دبي 91" الذي تفوق بمراحل على معرض دبي الاول الذي اقيم عام 1989، جاء "دبي 93" متفوقاً من حيث الاهمية العالمية وحجم المشاركة الدولية على سلفه. ولن يشذ "دبي 95" هذا العام عن القاعدة لأن جميع الموشرات المتوافرة تدل في صورة اكيدة علي انه مرشح لتحطيم كل الارقام القياسية التي كانت ميزت سلفه "دبي 93" وسيكون "دبي 95" من دون شك الاضخم على الاطلاق في سلسلة معارض دبي الجوية منذ انطلاقها. اذ ينتظر ان تشارك فيه اكثر من 500 مؤسسة صناعية ما بين حكومية وخاصة من حوالى 35 دولة عالمية، وهو ما يشكل نسبة زيادة تبلغ 20 في المئة بالمقارنة مع حجم المشاركة الدولية في معرض "دبي 93". وهذا ما استدعى ادخال توسيعات موازية على المساحات المخصصة للمنتجات المعروضة من طائرات وغيرها من معدات متنوعة، وكذلك على مساحات الاجنحة والقاعات والمقصورات الخاصة بالمشاركين وعددها. كما زيد عدد ساعات افتتاح المعرض يومياً، وعدد الساعات المخصصة للعروض الجوية بما يتناسب من الزيادة الحاصلة في عدد الطائرات التي ستشارك في تلك العروض. وستكون المشاركة الاميركية الاكبر من نوعها في "دبي 95"، اذ انها ستشتمل على 57 شركة تضم اضخم مؤسسات الصناعة الجوية والدفاعية في الولاياتالمتحدة، بما فيها "بوينغ" و"ماكدونل دوغلاس" و"لوكهيد" و"بل - تكسترون" و"هيوز" و"غلف ستريم" وغيرها. كما ستبرز كالعادة من بين الدول المشاركة كل من بريطانيا التي سيشتمل حضورها على شركات اساسية مثل "بريتيش ايروسبايس" و"رولس رويس" و"وستلاند" و"شورتس"، وفرنسا التي تحرص دائماً على عرض ابرز منتوجاتها الجوية والدفاعية واحدثها عن طريق شركات مثل "ايروسباسيال" و"داسو" و"ماترا" و"تومسون". وستحضر من الشركات الايطالية الرئيسية كل من "ألينا" و"إيرماكيش و"اغوستا" و"أوتو - ميلارا"، فيما ستشارك ايضاً "داسا" الالمانية و"فوكر" الهولندية و"بومبارديير" الكندية و"كازا" الاسبانية و"إيرو" التشيكية و"يار" الرومانية و"ب.ز.ل" البولندية. وستكون من بين الدول المشاركة في صورة بارزة ايضاً جنوب افريقيا، فيما ستحرص روسيا، كعادتها في معارض دبي الجوية، على المشاركة بأوسع طريقة ممكنة وعرض احدث منتوجاتها من الطائرات العسكرية والمدنية وطائرات الهوليكوبتر وأنظمة الدفاع الجوي والالكترونيات المتنوعة. نجوم العرض اما بالنسبة الى المعروضات المنتظرة في "دبي 95"، فمن المتوقع ان تشتمل على احدث منتجات الصناعات الجوية العالمية واهمها، وذلك في المجالين المدني والعسكري على حد سواء. وقد يكون كافياً ان نذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، بعض ابرز ما سيكون محط اهتمام الخبراء والمراقبين في صورة خاصة كالمقاتلة الفرنسية الجديدة "رافال" التي ستعرضها شركة "داسوش للمرة الاولى في دبي، ونموذج المقاتلة الاوروبية المستقبلية "يوروفايتر - 2000" التي يجري العمل على تطويرها حالياً لحساب الاسلحة الجوية البريطانية والالمانية والايطالية والاسبانية، وثلاثي المقاتلات الاميركية الشهيرة "ف - 15 ايغل"، بطرازها الهجومي المتطور المعروف باسم "ف - 15 اي سترايك إيغل"، من انتاج "ماكدونل دوغلاس"، و"ف - 16 فالكون" من انتاج لوكهيد" و"ف - 18هورنت" من انتاج هورنت" من انتاج "ماكدونل دوغلاس" ايضا. وستكون من بين اهم نجوم "دبي 95" ايضاً طائرة النقل الاميركية العملاقة الجديدة "سي - 17 غلوب ماستر" التي ستشكل عماد قوات النقل الاستراتيجي الاميركي في القرن المقبل، والتي ستعرض في دبي بدورها للمرة الاولى. وستشارك روسيا بطائراتها المقاتلة المتطورة التي باتت اشهر من ان تعرف مثل "سوخوي - 35" و"ميغ - 29"، الى جانب طائرات الهليكوبتر "ميل - 26" و"ميل - 35" و"ميل - 38"، فيما ستعرض جنوب افريقيا طائرة الهليكوبتر الهجومية المتطورة "رويفوك" التي تسعى من خلالها الى الفوز بحصة من السوق العالمي المتنامية لهذه الفئة من الطائرات. ولن تكون نجوم "دبي 95" في مجال الطيران المدني اقل شأنا من نظيرتها العسكرية. ولعل المفاجأة الكبرى في هذا المجال هي مشاركة طائرة "بوينغ" الجديدة للمسافات المتوسطة والبعيدة "بوينغ - 777" وطائرة "ماكدونال دوغلاس" الجديدة للمسافات القصيرة المتوسطة "م. د - 90". كما ستشارك "بريتيش ايروسبايس" بأحدث طراز من طائرة النقل الجديدة للمسافات القصيرة "افرو ر.ج" او "ريجيونال جت" كما تعرف ايضاً. ولا يستبعد ان ترسل روسيا احدث طائرات النقل التي يتم العمل على تطويرها هناك مثل "توبوليف - 204" و"توبوليف - 234" و"اليوشن - 96". وستكون الى جانب هذه الطائرات النقل المخصصة للشركات والهيئات الحكومية ورجال الاعمال مثل "ليرجت - 60" و"غلوبال اكسبرس" من انتاج "بومبارديير" الكندية، و"فالكون - 900" و"فالكون - 2000" من انتاج "داسو" الفرنسية، و"غلف ستريم جي - 5" احدث طرازات هذه العائلة الشهيرة من طائرات النقل الخاص الاميركية، و"هوكر - 800" البريطانية. وعلى اي حال، فإن الامر الاكيد هو ان "دبي - 95" سيشكل مرة اخرى المناسبة المثالية للتعرف على احدث ما توصلت اليه تكنولوجيا الصناعة الجوية وفروعها، والاطلاع على برامج هذه الصناعة وخططها المستقبلية، والجهود التي يتم بذلها في سبيل تطوير منتجاتها وتسويقها في العالم خلال ما تبقى من هذا العقد واستعداداً لمجيء القرن المقبل.