أكذب لو قلت إنني أكتب هذا المقال، لأرثي الشعراء الجزائريين الذين رحلوا في السنوات الأخيرة، الواحد تلو الآخر، وبينهم ثلاثة شعراء وشاعرة اختاروا الإنتحار. بإمكان أي شاعر ان يعترف لكم أنه، عبر كل نص يكتبه في رثاء شاعر آخر، لا يرثي في النهاية سوى نفسه. أو من كان يعتقد أنه "هو". وهو بذلك يواصل بطريقة اخرى ممارسة تلك النرجسية التي اشتهر بها الشعراء. لا أنا لا أرثي. منذ سنوات عدّة، توقفت عن بكاء الشعراء. ربما لأنني، موتاً بعد آخر، وفجيعة بعد أخرى، متُّ حقاً. ولم يعد لي من صوتٍ لأرثي نفسي. تعجبني لفتة جميلة لجان كوكتو، في ذلك الفيلم الذي صوّر فيه موته مسبقاً. يتوجه الكاتب الفرنسي الى بيكاسو، والى الأصدقاء القلائل الذين وقفوا يبكونه، ليقول لهم بتلك السخرية الموجعة التي كان يتقنها: "لا تبكوا هذا… تظاهروا فقط بالبكاء. فالشعراء لا يموتون، انهم يتظاهرون بالموت فقط!". حاولت ان أصدق هذه المقولة عندما مات يوسف سبتي مذبوحاً في غرفته. قلت إن عنقه أرفع من ان تقطعه سكين. انه ينام غارقاً في حبره... متظاهراً بكتابة قصيدته الأخيرة! وقبلها حاولت ان أعمل بنصيحة كوكتو عندما سقط الطاهر جعّوط برصاصتين اخترقتا صدره. قلت انه يتظاهر بالموت فقط، ليختبر حبنا له… ويختبر تقدير الجزائر لشعرائها. ولكن عندما بدأ الشعراء الجزائريون يرحلون الواحد تلو الآخر، بين مقتولين ومنتحرين، رحت أدرك أنهم ماتوا حقاً، وأنني أنا من أصبحتُ بعدهم أتظاهر بالحياة. لا أدري أيّ الموتين كان الأشد وقعاً عليّ، وأخذني الى الفجيعة الأكثر ذهولاً. أموت الشعراء الذين اختاروه طوعاً، وذهبوا اليه كما يذهبون الى آخر أمسية شعرية يُوَقِّعون في ختامها مجموعتهم الشعرية الأخيرة؟ أم موت أولئك الذين لم يترك الموت أمامهم من فرصة لإنهاء ديوانهم الأخير، فخطفتهم طعنات سكين أو طلقات مسدس من غفلة الورقة البيضاء. ومنذ أسابيع جاء انتحار الشاعر الجزائري الشاب فاروق اسميرة، الذي رمى بنفسه من جسر قسنطينة الشهير، حاذياً بذلك حذو صديقه الشاعر عبدالله بوخالفة الذي انتحر قبله بسنوات... جاء ليحسم جوابي. نعم... انتحار شاعر يظل أكثر ألماً وفجيعة في نفسي، من اغتياله، على الرغم من فظاعة الجريمة. إن انتحار الشعراء عبر الأجيال والعصور ما زال يذهلني، ويذلّني، ويجعلني أخجل من قدرتي على التأقلم مع الخيبات الوطنية والقومية، ومع مزيد من إهانات الحياة. في هذا الزمن العربي العجيب، زمن الانهيارات والتنازلات، يصبح انتحار الشعراء العرب شهامتنا الوحيدة. وشعورهم بالخجل من مقاسمتنا قدراً كهذا، هو الدليل الوحيد على بقية حياة فينا. وهو قبل كلّ هذا، درس في الشجاعة وردّ اعتبار الى الشعر. أحبّهم. أولئك الشعراء الذين يعتذرون للمخلوقات الصغيرة عندما يمرون بها. ويخافون في سهوهم ان يأذوا حشرة. ولكنهم ذات يوم عندما لا يجدون ورقاً يكتبون عليه سوى جسدهم، ولا يجدون ما يضحّون به احتجاجاً سوى حياتهم، ولا يعود أمامهم سوى طريقة وحيدة لاسماع صوتهم هي الموت... عندها يمسكون بمسدس لا يحسنون استعماله تماماً، ويصوّبونه نحو رأسهم. واذا بهم يطلقون النار علينا ويرحلون. أحبهم. أولئك الذين يرحلون على رؤوس الأصابع من دون ضجيج تقريباً، عدا صوت ارتطام أوهامهم بالصخور، بعد ان ألقوا بحطام القصيدة المستحيلة من الجسر المعلّق الذي يبلغ ارتفاعه 170 متراً. إنه جسر مدينتي قسنطينة! أولئك الشعراء الذين أعرفهم ولا أعرفهم، أولئك الذين ولدوا في أقاصي الأمة العربية، في مدن جزائرية تعرفني… وماتوا في أحياء مجاورة لحيي… على جسرٍ مقابل لبيتي… كلهم أنا. هكذا، في سنوات غربتي الباريسية، لبست وحدي حداد خليل حاوي. وواصلت وحدي، مع كل اجتياح اسرائيلي جديد، اطلاق النار على نفسي. وخلال حرب الخليج لم أبكِ سوى راشد الخاطر، الشاعر والديبلوماسي القطري الذي لم ينتظر تلك الفجيعة ولا ما وصل اليه العرب من ذُلّ، لينسحب من الحياة. فقبل ذلك بسنوات وفي آذار مارس من سنة 1983 بالذات، بعد ان شارك في اجتماع للجامعة العربية في تونس، خرج ليصوّب مسدسه نحو رأسه وينتحر "يأساً من أوضاع الأمة العربية"، مخلفاً وراءه أطفاله الخمسة وحقيبته الديبلوماسية. حفنة من الأشعار... وكثيراً من الأوهام القومية…! لماذا اذاً، عندما أصبح الانتحار ظاهرة شعرية جزائرية، دخلت في حالة ذهول، ولم أعد اتقن الحزن ولا أعرف الرثاء؟ أنا التي كنت أحلم أن أكون ولاّدة بنت المستكفي… صنعوا من عباءة شعري كفنهم… وذهبوا جميعاً ليتركوا لي دور الخنساء. كلّهم كان صخراً فعلى أي قبر أبكي في زمن الموت الاستعجالي…؟ كانوا سيرتجلون للوطن قصيدة… عندما ارتجل الوطن لهم مقبرة…! ذات خريف افتتح الشاعر المبدع عبدالله بوخالفة موسم الرحيل المفجع، بعدما تعرّى وركع يصلّي أمام قطار. وكان أن حوّله القطار الى أشلاء، وواصل سيره مسرعاً وتحت عجلاته بقايا دم… وأشلاء القصيدة. عبدالله بوخالفة الذي لم يقتله الفقر ولا القهر ولا العنف وقد كانوا قدره جميعاً... قتله غياب الحرية، وأنانية الأوساط الأدبية، واحتقار الجزائر شعراءها. كان مصير الوطن قلقه الدائم. أما مصيره هو فراح يبحث عنه تارة في الصوفية، وتارة في الفلسفة أو في الأفكار "الزردشتية". لكنّه لم يمت متأثراً بمقولة زردشت، إنسان نيتشه المتفوق الذي كان شعاره "حرّ حتى الموت… وحرّ في الموت". كان واضحاً انه جاء متأخراً عن الحرّية بجيل، ومتأخراً عن الشعر بوطن: "هكذا تزهو دموعي/ يحتويني البحر/ يأتي أصدقائي/ هكذا أرحل عنكم/ أحمل الملح وأبكي/ فافتحوا الموج/ وعودوا الى المدينة". ومثل بوخالفة رحل أصدقاؤه، رفاق الكلمة المرهفة. فلقد تلته في موتها الاختياري الشاعرة الفرنكوفونية صفيّة كتّو ملقية بنفسها من جسر "تيلملي" في العاصمة، احتجاجاً على وضعها النفسي وعلى الاغتيال الصامت الذي واجهته بمقاطعة الصحافة لها. ثم تلاها صالح زايد الذي وهب جسده لصخور قسنطينة، ملقياً بنفسه من أحد جسورها الشاهقة... واليوم نزداد حزناً وذهولاً… أمام المصير المفجع الذي أختاره لنفسه الشاعر الشاب فاروق أسميرة الذي يضاف الى قائمة الشعراء الجزائريين المنتحرين بالقاء نفسهم من جسر. هؤلاء اختاروا ان يكون الموت آخر قصيدة يوقّعونها ويتركون لجرائد الغدر مهمة قراءتها علينا. تلك الجرائد نفسها التي ساهمت في اغتيالهم. بعد انتحار صفيّة كتّو قامت "السلطات المعنية" في العاصمة الجزائرية برفع سياج على جانبي جسر "تيلملي"، لمنع آخرين من الانتحار بالطريقة نفسها! والاجراء يذكّر بحكاية تلك البلدية التي انهالت عليها شكاوى المواطنين من منعطف خطير، تسبب في سقوط عشرات السيارات وجرح وموت العديد من الناس، فلم تجد أفضل من بناء مستشفى على مقربة من ذلك المكان! وهناك "نكتة" أكثر عبثية وشراسة، تتعلق بموت عبدالله بوخالفة. فهذا الأخير أخطأ في اختيار القطار كوسيلة مبتكرة للانتحار في بلد كالجزائر. ذلك ان مؤسسة السكك الحديدية التي قلّما احترمت عنصر الوقت، شأنها في ذلك شأن وسائل النقل الاخرى في الجزائر، كانت هذه المرة في منتهى الدقة والعقلانية. فقد رفعت دعوى ضد عائلة الفقيد لأنه أخّر وصول القطار في الوقت المحدد، ما ترتّب عنه أضرار مادية ومعنوية لحقت أصحاب البضائع المشحونة... وأغلبهم من الخواص!! وجلّ ما نتمناه اليوم، ألا يأتي يوم تصلنا فيه عدوى القانون الصيني الذي يطالب أهل المحكوم بالاعدام، بأن يدفعوا للدولة تعويضاً عن ثمن الرصاص الذي استُعمِل لإعدام إبنهم! وهي للمناسبة فكرة مربحة، قد تعود على خزينة الدولة الجزائرية - المفلسة - وعلى محترفي الإرهاب - النشطين - بما يكفيهم من الأموال لمواصلة ابادة الناس من الطرفين. وفي الحالتين، سيكون الشعراء والمبدعون والصحافيون الجزائريون، هم نزيف الجزائر الدائم، وموتهم مهانتنا التاريخية. إذ لا يمكن لجزائري بعد الآن، أو لأي مثقف أو مبدع عربي حيث كان، أن يتبرأ من دمهم. لا يمكن لأحد أن يصمّ أذنيه عن ذلك الصمت الصاخب الذي يخلّفه خبر موتهم كل مرة. فكلّ الكائنات، من خنافس ألمانيا الى ضفادع استراليا، وجدت من يدافع عنها، الا هذه الفئة المهددة بالانقراض أكثر وأسرع من سواها، أي شعراء وكتاب الجزائر. في هذا الزمن الذي تتسابق فيه الجرائد على ملء صفحاتها الأولى بأخبار الجزائر وبتشريح فجائعنا ومذابحنا وإفلاسنا الاقتصادي، لا تبحثوا عن أخبارنا في الصفحات الأولى. لن تجدوها في التصريحات السياسية، ولا في الجداول الاقتصادية، ولا في الأخبار اليومية المثيرة. تعلّموا ان تسألوا عن أخبار الشعراء. أولئك الذين ينساهم الجميع، لكنّهم لا ينسون أحداً. والذين لا يملكون سوى حياة بسيطة خبّأوها بعناية... لتكون زاد سفرهم الأخير. تعلّموا ان تحصوا عدد المنتحرين والقتلى منهم في كل مدينة عربية. فالشعراء كالحيوانات التي تشعر مسبقاً بالخطر وبالبراكين والزلازل... فتغادر المكان قبل الآخرين. تعلّموا ان تستمدّوا من رحيلهم الجارح، مادةً لتحليلاتكم السياسية. وتعلمّوا ان تبكوا - أو تتظاهروا بالبكاء - عندما يتركون يوماً على جريدة صباحكم، مربعاً صغيراً أسود... حُشرت فيه قصيدتهم الأخيرة! * شاعرة وكاتبة جزائرية مقيمة في لبنان.