ولدت غادة كرمي في القدس في أواخر الثلاثينات وكان عسكر الانتداب البريطاني تمكّنوا من صدّ حركة الثوار الفلسطينيين 6193 - 9193 بقيادة مفتي القدس الحاج عبدالقادر الحسيني. وبينما كانت تتعلم على خطواتها وألعابها الاولى، كان العداء بين الفلسطينيين واليهود الذين بدأوا منذ عام 1920 يتوافدون الى فلسطين من اوروبا بعد اعلان وعد بلفور 1917 ينذر بانفجار كبير. في عام 1942 كانت ولداً يلهو لما عقد كبار زعماء الصهيونية اجتماعهم التاريخي في فندق بالتيمور في نيويورك حيث تم قرار تكليف الوكالة اليهودية بتجميع يهود العالم على ارض فلسطين. وقد ضاق ملعبها في نهاية عام 1947 فانحصرت مساحته بحديقة البيت ومكعب الشارع العام المقابل له اذ ارتفعت الشرائط الشائكة تسيج ربع المدينة وتقيم زنار المناطق الامنية حول مواقع ومؤسسات سلطة الانتداب لحمايتها من ارهاب عصابات الإرغون. في بداية عام 1948 صار الحي الذي تسكنه وعائلتها محوراً للقناصين العرب واليهود وكانت شقيقتها تسلك الطريق الى مدرستها عبر حدائق البيوت المجاورة وأزقتها الخلفية. وقد شهدت صباح يوم سقوط بدوي قنصاً امام البيت كان يحمل بيده تنكة زيت لعائلته. لكن تفجير فندق "السميراميس" المجاور لبيتهم من قبل عصابة الهاغاناه والرعب الذي طغى على وجه امها وهي تسارع الى حشرها واخوتها في زاوية الغرفة لوقايتهم من زجاج النوافذ المتطاير نتيجة قوة الانفجار، حادثة انحفرت في ذاكرتها وأدخلت الخوف للمرة الاولى الى قلبها اليانع. بعدها لم تعد تلعب برفقة أخيها لا في حديقة البيت ولا في الشارع المقابل وتوقفا عن الذهاب الى المدرسة أما شقيقتها الكبرى فتركت البيت والتحقت بمدرسة داخلية. صار الجو مكهرباً يشوبه الخطر والقلق. وبعد مجزرة دير ياسين في 9 نيسان ابريل من ذلك العام بدأت الهجرة الجماعية من الحي الذي تحول الى ميدان حربي وفرغت بيوته تدريجاً من اهلها. وفي آخر نيسان غادرت غادة كرمي وعائلتها البيت في القدس بحقيبة واحدة للإقامة في دمشق بشكل موقت، كما اعتقدوا يومها، ريثما تهدأ الحالة. ولما حطّ بهم الرحال في لندن في ايلول سبتمبر عام 1949 كانوا من عداد العائلات الفلسطينية القليلة التي تمكنت من اللجوء الى الغرب. في ذكرى مرور العام الثاني على عدم استجابة اسرائيل لقرار الاممالمتحدة رقم 194 القاضي بوجوب إعادة الفلسطينيين الى ديارهم، شحّ امل العودة الى القدس حتى تلاشى مع مرور السنوات. لكن الغربة البريطانية ظلت عابقة برائحة حياتهم في فلسطين. كانت المدرسة التي التحقت بها واخواها انكليزية لكن الاصدقاء كانوا عرباً والطعام عربياً واللغة المحكية وبرامج الراديو في البيت بالعربية. على الرغم من حصولهم على جواز سفر بريطاني لم يشأ أحدهم العودة لزيارة القدسالمحتلة، وبقيت صورة البيت والحي كما كانت يوم المغادرة المشؤومة في نيسان ابريل ال 49. ولما وجهت الدكتورة غادة كرمي كمواطنة بريطانية، رسالة الى السفارة الاسرائيلية في لندن عام 1973 تطالبها بحق الإقامة في القدس التي ولدت ونشأت فيها كان الجواب بأن القانون لا يشمل وضعاً كوضعها وبالتالي لن يحق لها بأكثر من فيزا سياحية. يومها رفضت العودة كمجرد "سائحة بريطانية" وعلّقت القرار حتى آب اغسطس عام 1991 حين قررت المشاركة في مؤتمر صحافي في الخليل وقامت بزيارة القدس للمرة الاولى بعد ما يقارب نصف قرن، بالتحديد بعد 43 سنة! في الفصل الاول* من كتاب سيرتها الذي تقوم بإعداده اليوم، تدوّن الدكتورة بعض وقائع تلك الزيارة حيث وجدت مكان بيتها العائلي مدرسة دينية يهودية "امامها صبية يلعبون تتدلى حول وجوههم جدائل الشعر" نظروا اليها بحشرية من دون ان يدركوا كم كانوا يبدون لها "غرباء وفي غير محلهم". لم تجد أحداً يعرف اي شيء عن ماضي وتاريخ الحي، من ومتى هُدم بيتهم ومن بنى مكانه. واثناء تجوالها في شارع لم يعد يحمل اي أثر لهندسيته السابقة يقع نظرها على بيت يحاكي بشرفته والحديقة المحيطة بيوت الحي القديم فتقرأ على بابه اسم صاحبه الجديد "المحامي شلومو شيندلر". المكان بالنسبة اليها "بدا ممسوخاً ومفسوداً. سكانه الحاليون تمكنوا من التخلص من عقدة الذنب وحتى من معرفة ما ارتكبوه ومواطنيهم في حقّنا اذ لم يحدث وان التقيت باسرائيلي واحد أبدى استعداده للاعتذار عما ارتكبته الطموحات الصهيونية بحق فلسطين وحق اناس مثلي". تكتب في نهاية هذا الفصل الاول من تأريخ سيرتها ومسار الهجرة الفلسطينية منذ ال 48. في الحياة العامة العصرية عندما التقتها "الوسط" في مكتبها في مبنى ادارة الصحة العامة التابعة لبلدية "وستمنستر" لم يكن مقصد الزيارة كتاب سيرتها الذي ما زال في طور الاعداد للنشر والذي يحتل اليوم حيزا هاما في نشاطاتها اذ تحقق عبره الدكتورة الفلسطينية - البريطانية "قسطاً من واجب" عهدت نفسها بتأديته. وهي على يقين بأن زمن المرحلة المقبلة اكثر من اي زمن مضى، يتطلب مساهمة الفلسطينيين في توثيق وتأريخ مسارهم منذ الهجرة الجماعية الاولى في ال 48 وسرد حكايا ووقائع تجربتهم الانسانية في مواطن اللجوء والهجرة كي يبقى "الدرس" محفوظاً ومتواصلاً عبر الاجيال الفلسطينية في الداخل كما في الدياسبورة الموزعة في العالم. اما نحن فقد آثرنا الدخول الى تلك المرحلة الفلسطينية المقبلة من باب الحديث السياسي. فالدكتورة غادة كرمي لا تشغل منصباً رسمياً في الادارة المدنية البريطانية فحسب وتعمل باحثة مساعدة في معهد الدراسات الشرقية والافريقية SOAS . هي ايضاً عضو ناشط في صفوف حزب العمال وقد قّدمت في عام 1992 ترشيحها لنائبة عنه في منطقة هاندن حيث كانت مارغريت ثاتشر تمثل حزب المحافظين لكنها لم تنل الاصوات المطلوبة لفوزها ربما لكونها محسوبة على تيار "الأقلية اليسارية" المغضوب عليه داخل حزب العمال او نتيجة لبروزها الملحوظ والمميز على منبر الاعلام البريطاني إبان حرب الخليج ونجاحها في الدفاع عن قضايا العرب وحقوق الفلسطينيين. وقد كان لمشاركتها في برنامج Question Time، أحد أهم البرامج السياسية على قناة ال بي بي سي الى جانب عرّاب حزب العمال والوزير السابق دينيس هيلي، وقع مؤثر في الاوساط العربية والبريطانية. فهي كما رفضت العودة الى القدس كسائحة رفضت ايضا ان تقيم في بريطانيا كسائحة تعيش على هامش الحياة العامة او كما عبّرت في حديثها الى "الوسط" "ان نعيش في الغربة اربعين عاماً ونحن نردّد ونكرر كل يوم بأننا عائدون غداً" هذه العقلية التي "تدفعنا الى التقوقع والتكوّم على بعضنا البعض لا تنفع ويجب التخلي عنها". لذلك تدعو الدكتورة كرمي اليوم الى القيام بخطة معاكسة تواجه هيمنة الحركة الصهيونية في الغرب وتعتمد منهجها في الوقت نفسه. تشرح قائلة "اي ان نلعب الدور الذي لعبه الصهاينة ونجحوا فيه وهو ان يصبح كل فلسطيني يقيم في الخارج سفيراً لفلسطين، يشترك في كافة ميادين الحياة العامة التي باستطاعته الوصول اليها ويدخل في مؤسسات الدولة كفلسطيني وكمواطن لتلك الدولة على حد سواء. وهكذا يبني موقعاً نافذا يوصل عبره وجهة نظره". فمهام الدياسبورة الفلسطينية بعد اتفاق غزة - أريحا "يجب ان تتمحور وتتكثف في مجالات الدعاية والفكر والاعلام" وتعود كرمي هنا لتركّز على "إلحاحية التوثيق والتأريخ. فهناك مرحلة ال 48 في تاريخنا التي تبدو مبتورة وناقصة ولم تقم اي محاولة جادة بصدد تأريخها وتجميع حلقاتها المشتتة" وتذهب الى أبعد من ذلك فتقترح "تنظيم معلوماتية احصائية وتاريخية تعود الى اصول العائلات الفلسطينية في الارض المحتلة كما في اسرائيل. فيتمكن كل فلسطيني أينما كان من ان يعرف منابعه وكيف تهجرت عائلته والى اين ذهبت. وهؤلاء الذين بقوا في اسرائيل وأخذوا الهوية الاسرائيلية أليس لهم تاريخ؟ اين هو تاريخهم؟ محفوظ او غير محفوظ؟" هذه المسائل ليست بتفاصيل او امور ثانوية يمكن تأجيلها او المراوغة فيها لأنها "تقوي الروابط الوطنية والقومية بين الفلسطينيين في الداخل والخارج وتكسبهم شعور الانتماء الى تاريخ وجذور" والأهم من هذا كله انها "تستطيع تفشيل محاولات اسرائيل المستمرة في فصل الفلسطينيين عن بعضهم البعض. وهي اليوم تكاد تنجح في اللعبة نفسها فبعد ان حاربت منظمة التحرير وصنّفتها بأنها ارهابية ها هي اليوم تستوعبها وكأنما تقول للفلسطينيين صاروا هم في الداخل وبقيتم انتم برّا في الخارج" حرب التفتيت التي تقودها اسرائيل "من زمان" تكشّر عن انيابها على خريطة الواقع الفلسطيني الجديد الذي أفرزه اتفاق غزة - أريحا. "هذا الخوف، تقول الدكتورة كرمي، نابع من ان مصير منظمة التحرير غير معروف ومستقبلها غير واضح. الوضع اختلف اليوم. فأي منظمة تحرير نتحدث عنها واي تحرير نعني طالما ان الاتفاق حصل بإقامة كيان ربما يصبح دولة. وماذا سيكون مصير تلك المنظمة التي جسدت الرمز - البديل لفلسطين وانضوى تحت لوائها الفلسطينيون رغم التشرد الجغرافي". وتتوقف كرمي عند "هذا الانجاز العظيم" الذي استطاعت تحقيقه المنظمة في مسارها "رغم الاخطاء الكبيرة التي ارتكبتها" والذي تشعر بأن "الكثيرين في الاوساط الفلسطينية لا يعون اليوم مدى اهميته" واهمية الدور الذي لعبه في مواجهة مشاريع التفتيت وتتابع قائلة "كنا نكافح دائماً تلك المخططات رغم اننا كنا فئات وفرقاً متنوعة ومختلفة لكننا كنا موحّدين. فالذين كانوا يعيشون في مصر او في لبنان والذين كانوا يقيمون في بريطانيا مثلي او في المانيا او في انحاء اميركا كلنا كنا فلسطينيين اولاً. هذه ليست بصدفة. انما كانت معجزة عجيبة استمرت من ال 48 الى ال 93" وخوف الدكتورة الفلسطينية التي أمضت اكثر من ربع قرن من حياتها مواطنة على الاراضي البريطانية مقابل دزينة سنوات في الوطن المسلوب ان تتحول الدياسبورة التي تضم الاكثرية الفلسطينية "من فئات موزعة في العالم لكن موحدة الى أقليات تعيش ضمن أقليات البلد الذي تقيم فيه". اما بديل منظمة التحرير التي ستتحول في شرنقة أريحا وغزة الى سلطة وطنية ميدانية يكمن في الشرنقة نفسها اذ يصبح "الكيان الفلسطيني الذي يُنشأ اليوم ويجوز ان يمتد الى مناطق اخرى في الاراضي المحتلة، هو المركز المحوري الذي يمد جسراً بينه وبين الخارج". لا يغيب عن الدكتورة كرمي اهمية "وعي السلطة الوطنية الجديدة لهذه المشكلة" ومدى قدرتها على "استقطاب القدرات الفلسطينية في الداخل والخارج" من اجل تقوية دينامية التفاعل وشعور الارتباط بين مختلف الفلسطينيين اينما كانوا فلا "يعتبر الفلسطينيون المقيمون في انحاء المعمورة ان مسألة بناء الكيان مقتصر اساساً على اهالي الداخل والادارات "والله يكون في عونهم" ولا يقابلهم المقيمون في القطاع وأريحا برد فعل سلبي يجعلهم يشتكون من الوافدين من الخارج الذين يفرضون انفسهم على تسيير شؤونهم". لفحتها انفاس ذلك الخطر المتربص بالوضع الفلسطيني اليوم. كان ذلك اثناء قيامها في آخر آب اغسطس العام الماضي بزيارة عمل الى الجليل تتعلق بمشروع صحي. وقد استقدمت من بريطانيا لامتلاكها الاختصاص المناسب كما استُقدم من الاراضي المحتلة اخصائي فلسطيني له خبرة معينة بحاجة اليها المشروع. لما سمعا بخبر الاتفاق سألت زميلها القادم من الاراضي المحتلة عما يمكن المساهمة به. وسرعان ما اكتشفت ان مواطنها لا يملك اي تصور لدورها سوى ان ترسل "ما أمكن من مساعدة مالية او تبرع". لم يقصد ايذاءها لكنها فهمت انها أمام "ابن الاراضي المحتلة في ال 67 الذي ينظر الى ابنة الارض التي احتلوها في ال 48 وكأنها خارج الصورة كاملة". سلطة مخلوطة والانتخابات مخرج ضروري تتحاشى صاحبة الاختصاص الوقوع في التنظير الفوقي ولكنها لا تستطيع تشخيص المشاكل والامراض من دون جملة ارشادات وملاحظات ونصائح تقوم بتبويب بعضها في لائحة المتوجبات وبإدراج بعضها الآخر في لائحة الممنوعات. ربما كان ذلك بمثابة طبيعة ثانية للدكتورة! المهم برأيها ان تقوم السلطة الوطنية في المرحلة الاولى "ببناء البنى التحتية لمؤسساتها كي تستوعب هذه القدرات المطلوب استقطابها من الخارج". ولا تنسى كرمي "خبرة المنظمة في بناء المؤسسات والاجهزة المختصة. فهي بالنهاية لم تحمل البندقية في غابة ولم تكن محصورة في مخيم". لكنها تجد ان الثغرة الفادحة هي "في وضع النظام الداخلي وإرساء مفاهيمه وقواعده" فالتركيز على التفاصيل الدقيقة "أمر يغيب عن الاذهان التي كثيرا ما يسلبها بريق الاعمال الرنانة والكبرى". المنهج المعتمد في ان "كل واحد مشغول بالعمل الذي يقوم به الآخر" ما زال سائداً كما ان عقلية اهل البلاط "وتوظيف المقربين في مواقع الاختصاص والمسؤولية" تضرب عرض الحائط "مبادىء سياسة ادارية منظمة وفعالة تنص "على وضع الكفاءة المناسبة في المكان المناسب" وليس انطلاقاً من مزاجيات وأهواء شخصية ونسبية تجعل "كل واحد صاحب رأي يدّعي بأنه مختص وشاطر في كل الامور، في السياسة والاقتصاد والعسكر والاعلام... يعني بتاع كلو كما يقولون في العامية المصرية" وتصعّد صراحتها قائلة "ومع كل احترامي ومحبتي للرئيس ابو عمار ولكن حان الوقت لأن نقلع عن تلك الممارسات والعقليات التي تحيط عمله". المطلوب ان يقام بتعيين "جهاز قادر على ايجاد واستقطاب الاختصاصات الأنسب والأفضل لإتمام العمل المطلوب أكان ذلك من الداخل او من الخارج، أكان من المناضلين الذين نذروا حياتهم للنضال العسكري او من الذين انكبوا على التحصيل الاكاديمي والتخصص المهني المحترف" . وتقترح لذلك البدء "بإعداد دليل مبوّب يشتمل على الكفاءات والخبرات والاختصاصات المهنية والعلمية المتوفرة في الشعب الفلسطيني، يكون قاعدة ومرجعاً لعملية اختيار الأنسب والأفضل للمهمة المطلوبة". وتتمنى ان يتم التعاقد مع الكوادر الفلسطينية المقيمة في عالم الدياسبورة على أساس "انهم مستشارون من الخارج تتحدّد مواصفات مهامهم ورزنامتها وفق اصول العقد الاداري والمهني المعمول به بين العامل ورب العمل" في هذا المجال تلفت الدكتورة كرمي الانتباه الى "القدرات والخبرات النسائية في كافة مجالات الاختصاص العلمي" وتحضّ على الاقلاع "عن حصر تعيين النساء في مجالات تتعلق بشؤون الامومة والتربية والاطفال دون غيرها" اذ ان عملية "بناء المجتمع المدني المتقدم لا يقتصر فقط على المساواة بين الطبقات فحسب ولكن يرتكز بشكل اساسي وحيوي على المساواة بين الجنسين والكفاءات".