ساندرين بونير هي النجمة الفرنسية الأكثر جدية في أدوارها وسط زميلاتها اللواتي اشتهرن في بداية الثمانينات وهن في سن المراهقة، مثل صوفي مارسو وفاليري كابريسكي. ومنذ البداية لمعت ساندرين بفضل طريقتها الطبيعية جداً في الأداء والتي تصفها هي ب "الغريزية". والفيلم الذي أطلق ساندرين بونير عنوانه "من اجل حبنا" لموريس بيالا، ثم تلته مجموعة من الافلام الدرامية الناجحة مثل "بلا سقف او قانون" و"الابرياء" و"الشرطة" و"المحتشمة" و"ايام قليلة معي" و"جان دارك" وكلها من اخراج أسماء كبيرة في السينما الفرنسية. وحول مشوارها السحري من صالون الشعر في الريف الفرنسي الى النجومية الباريسية، كان ل "الوسط" مع ساندرين هذا الحوار: كيف يدور العمل مع مخرج مثل جاك ريفيت اشتهر بأعماله المعقدة وتعذيبه الممثلين بعض الشيء اثناء التصوير؟ - انا أجد متعة في العمل مع ريفيت، واذا كانت افلامه معقدة فإنها لا تقل جودة في نوعيتها عن اي فيلم غير معقد، بل تفوق الافلام الأخرى في كثير من الاحيان. اما بشأن تعذيب الممثلين فلا يمكن القاء اللوم ابداً على جاك ريفيت، فهو يعذّب حاله اولاً والآخرين من بعده. ويقال ان الممثلة إيمانويل بايار عانت كثيراً خلال تمثيلها الدول الاول في "المشاغبة الحلوة" لكنه يعتبر أجمل ادوارها حتى الآن. اسلوب ريفيت في العمل يستحق التقدير، لأنه يأتي بالمفاجآت في كل يوم جديد. فأنا أتردد الى مكان التصوير في كل صباح دون ان اعرف ما الذي سيتم او ما سأفعله شخصياً بالتحديد. والسيناريو عند ريفيت عبارة عن خطوط عريضة يتم الدخول في تفاصيلها بشكل عفوي في كل يوم من ايام العمل. والباب مفتوح امام الممثلين للعثور على افكار والقيام بتجربة طرق الأداء المختلفة بشأن كل موقف. أنا مولعة بهذا الاسلوب، ولكن الممثلين المحبين للنظام التقليدي المبني على الترتيب السالف للعمل، قد لا يرتاحون الى جاك ريفيت. طريقته تناسب اذاً اسلوبك الغريزي في أداء ادوارك، أليس كذلك؟ - نعم، فأنا لم اتعلم التمثيل في مدرسة ما، وبالتالي أمارسه بطريقة عفوية مبنية على الاحساس الفوري تجاه موقف محدد. وطبعاً أشعر بارتياح اكبر اذا عملت مع مخرج يؤمن بطريقتي او على الأقل يترك للمثل حرية معينة في البحث عن اسلوب الاداء المناسب لمشهد ما. سيطرة المخرج هل حدث ان عانيت من العمل مع مخرجين بسبب كبتهم حريتك كممثلة؟ - نعم، وأخصّ منهم المخرجين غير المتمكنين من عملهم، فهؤلاء يخافون من الممثل الذي لا يتبع تعليماتهم بالحرف الواحد ولا يحبذون المجازفة ابداً. انا أفضّل التعاون مع مخرجين لامعين حتى لو كانوا لا يتبعون اسلوبي الشخصي بصورة عامة، لأن سيطرتهم على مهنتهم تجعلهم يسمعون رأي الممثل ويبحثون في نهاية الامر عن حل وسط بين الامور ما دامت مصلحة الفيلم تأتي في الدرجة الاولى. أتذكّر العمل مع السينمائي كلود سوتيه مثلاً في فيلمه "ايام قليلة معي" وهو ينتمي الى الجيل القديم ويحضّر جدول عمله اليومي بدقة متناهية. لكن ثقته في نفسه من ناحية الحكم على أداء الممثلين تجعله يقبل المناقشة ويصل الى هدفه في النهاية بطريقة ذكية هي إقناع الممثل بأن فكرة تنفيذ هذا المشهد او ذاك قد نبعت اساساً منه، من الممثل، إلا انها تحتاج الى بعض التطوير. وفي النهاية يكتشف الممثل انه وقع في الفخ واتبع فكرة كلود سوتيه في أدقّ تفاصيلها. وهذا ما أسميه عبقرية المخرج اللامع. عملت ثلاث مرات مع السينمائي موريس بيالا. وعلى رغم ذلك يقال انه أساء معاملتك فما وجه الصحة في هذه المسألة؟ - انه أساء معاملة كل من تعاون معه، فهذا طابعه ولا يقدر على تغييره. وحكايته مع جائزة احسن مخرج في مهرجان "كان" مشهورة إذ راح يلقي كلمة يشتم فيها لجنة التحكيم بدلاً من ان يشكر افرادها كما هي العادة. والشخص الوحيد الذي يستطيع العمل مع بيالا مرات ومرات من دون ان يتعرض لمزاجه الخاص اسمه جيرار دوبارديو. ان شخصية دوبارديو الفذة تمنع موريس بيالا من تأسيس علاقة مبنية على حكم القوي، وبالتالي لا تقع حوادث سلبية عند التقائهما. أنا عملت معه فعلاً ثلاث مرات، فهو اول من اكتشفني ومنحني فرصة العمل في فيلمه "من اجل حبنا". وبفضل هذه الظروف الخاصة يعتبرني بيالا مثل ابنته نوعاً ما ويقدّرني كممثلة وامرأة . بعد ذلك عملت معه في فيلم "الشرطة"، وفي هذه المرة تلقيت منه معاملة غريبة لم أفهمها بوضوح. انه كان يسخر مني بصوت عال امام فريق التقنيين وامام جيرار دوبارديو الذي كان يؤدي بطولة الفيلم. ومع مرور ايام التصوير ادركت نقطة هامة هي قيام بيالا بمعاملة صوفي مارسو زميلتي في الفيلم بالطريقة نفسها، ولاحظت انه لا يسيء معاملتي إلا بحضور صوفي التي كان يتعمد الإساءة اليها لسبب لم أعرفه ولا أزال اجهله، وبالتالي لم يكن يتحمل مشاهدتنا في وضع مرح او في جو يسوده الوفاق، فراح يعاملنا بشكل سيئ دون ان يفرّق بيننا. كانت صوفي مارسو ضحيته في هذا الفيلم بطريقة متعمدة، وانا شاركتها المأساة لمجرد وجودنا معاً بعض الاحيان، بمعنى ان ذنبي الوحيد كان علاقتي الجيدة بها واعتبارها صديقتي. وخرجت المسكينة صوفي من هذا الفيلم في حالة من الانهيار العصبي التام. أما أنا فقد تلقيت عرض العمل مرة ثالثة مع بيالا، ودارت الامور على ما يرام. انها حكاية غريبة لا استطيع تفسيرها بوضوح. مع صوفي مارسو ما هي نظرتك الى صوفي مارسو التي تنتمي الى جيلك؟ وهل تلعب المنافسة بينكما دوراً أساسياً في حياتك المهنية؟ - أنا لا اعتبر نفسي في حالة من المنافسة مع صوفي مارسو، فأدوار كل واحدة منا تختلف تماماً عن ادوار الاخرى، كما ان مظهري لا علاقة له بمظهرها. اننا بدأنا المشوار السينمائي في الفترة نفسها، وهذا كل ما يجمع بيننا، ولا وجود للمنافسة إلا في مقالات بعض الجرائد التي تخترعها. يقال انك أفضل منها ومن فاليري كابريسكي من الناحية الفنية، ما رأيك؟ - لن أعلّق على هذا الكلام لأني احترم نفسي وزميلاتي. فزت بجائزة "سيزار" كأحسن أمل للسينما الفرنسية عقب فيلمك الاول "من اجل حبنا". ما كان ردّ فعلك تجاه هذه المكافأة الفورية لموهبتك؟ - لم أصدق. كنت تحولت الى نجمة فور نزول فيلمي الاول الى صالات السينما وكنت حصلت في الوقت نفسه على اجمل جائزة تحلم بها ممثلة في فرنسا. كان عمري حينذاك 16 سنة، ومن الطبيعي ان يدير النجاح رأس أي مراهقة في مثل هذا الوضع، فرحت أحلم بالمستقبل الباهر الذي كان ينتظرني. وتخيلت نفسي أتربع فوق عرش الشاشة الفرنسية حال نجمات زمان وحال كاترين دونوف وبريجيت باردو. ولا أزال اعترف بفضل موريس بيالا عليّ، فهو اكتشفني وشعر بمسؤولية أبوية تجاهي، فلم يتركني أضيع في بحر الاحلام والاوهام ونصحني بكيفية حسن اختياري ادواري المقبلة وتفادي تكرار التجربة الاولى. فصحيح ان محاولة تقليد أي فيلم ناجح غالباً ما تنتهي بالفشل. وأنا تلقيت فعلاً بعض العروض المشابهة في المظهر لفيلم "من اجل حبنا"، ولولا نصائح بيالا لوافقت عليها وفقدت شهرتي بالسرعة ذاتها لاكتسابي إياها، لأن الاعمال هذه لم تكن على مستوى الفيلم الاول. هكذا اكتسبت حكمة كبيرة في طريقة العمل، وربما لذلك لم اغضب من موريس بيالا عندما تعرضت لسوء معاملته، فلم أنسَ فضله الأساسي عليّ. حققت حلمك وأصبحت نجمة مثل دونوف وباردو وغيرها، لكن كيف دخلت الى المهنة وانت بعد مراهقة؟ - أقول دائماً ان ما حدث لي يشبه الأساطير وحكايات الاطفال. فأنا مولودة في عائلة بسيطة وواسعة، واضطررت في سن المراهقة الى مغادرة المدرسة والبحث عن وظيفة لمساندة عائلتي مادياً. كل ذلك في مدينة كليرمون فيران الصغيرة الريفية المجردة من اي حياة ثقافية وفنية مثيرة للاهتمام. عملت في صالون لتصفيف الشعر، وكنت انتهز العطلة الاسبوعية للتردد الى السينما والحلم امام جمال النجمات ووسامة النجوم. أحببت آل باتشينو وجون ترافولتا وإيزابيل ادجاني، ولكني لم اتخيل نفسي ممثلة حقيقية بأي شكل من الاشكال. وقرأت اختي الكبيرة اعلاناً عن قيام السينمائي موريس بيالا بالبحث عن مراهقة غير محترفة في مجال التمثيل لأداء بطولة فيلمه الجديد. كان الاختبار يدور في باريس وراحت اختي تسجل اسمها فيه، ثم طلبت مني السفر معها الى العاصمة لمساندتها معنوياً قبل وبعد الاختبار. ترددت مع اختي الى مكان الامتحان وانتظرتها في القاعة المجاورة. وعقب خروجها وقع نظر بيالا عليّ فسألني عن سبب وجودي هنا. لم اكن واعية بأهيمة هذا الرجل او بماضيه السينمائي، ولا شك في ان جهلي منحني براءة لم تتمتع بها اختي بسبب علمها بالأمور ورغبتها القوية في الفوز بالدور. أجبت بيالا بسذاجة تامة قائلة اني اتيت لمساندة اختي معنوياً، فطلب مني الدخول الى الغرفة لأداء الاختبار امام الكاميرا. لم أرغب في اثارة غضب اختي فرفضت، ثم غيّرت رأيي وخضعت لإلحاح هذا الرجل الذي كان يعاملني منذ لقائنا الاول وكأني نجمة محترفة. بقيت هذه التجربة بمثابة التسلية في ذهني وعدت الى وظيفتي في الريف من دون ان أمنح الاختبار اي اهمية. وكنت اسأل اختي بشكل مستمر عن نتيجة الاختبار، الى ان تلقيت مكالمة هاتفية من باريس وعلمت اني فزت بالدور. هكذا بدأ مشواري الفني مثل حكايات ألف ليلة وليلة، ولا يزال مستمراً. لم يسمعوا عني عملت في فيلم تم تصويره في الصحراء، ثم في آخر صوّر في الريف خلال فصل الشتاء وتضمن لقطات خارجية كثيرة. ألا تخافين الظروف القاسية؟ - عملت فعلاً في فيلم للسينمائي ريمون دوباردون تمّ تصويره في الصحراء وبإمكانات مادية قليلة جعلتنا نعيش في ظروف صعبة تحت الخيام ونعاني من الحرارة المرتفعة في النهار ومن البرد القارس في الليل. لكنها أحلى تجربة مررت بها في حياتي الفنية حتى الآن، اذ اني اكتشفت البساطة وعشت وسط أناس لم يسمعوا بي ابداً، وعاملوني بمنتهى الذوق من دون ان تنبع تصرفاتهم عن احترامهم لكياني كفنانة معروفة، بل كامرأة تزور بلدهم. واما تجربتي في فيلم "بلا سقف او قانون" للمخرجة أناييس فاردا فكانت حقاً قاسية، اذ أدّيت دور مراهقة متشردة تعيش في الريف، تنام في وسط الحقول في عزّ البرد وتموت في نهاية القصة نتيجة تصرفاتها هذه. وأرغمتني المخرجة على عدم غسل شعري طوال ايام التصوير، اي طيلة شهر ونصف الشهر، ودار العمل في الشتاء تحت الثلج الذي كان يتساقط علينا. لكني لا ابحث عن الجانب المرفه في مهنتي واشعر بسعادة كلما شاركت في عمل صعب، ما دام يتميز بالجودة في نوعيته.