الدول المنتجة للنفط هي الخاسر الاكبر من انهيار الاسعار في الاسواق الدولية، إلاّ أنها ليست بالتأكيد الخاسر الوحيد، اذ ان هناك جهات اخرى تدفع ثمناً باهظاً لتراجع السوق النفطية، ما يهدد استمرار السياسات النفطية التي اعتمدتها حتى الآن دول وشركات كبرى ويدفعها الى التحول نحو استثمارات اقل مخاطرة واكثر ربحية. ففي الولاياتالمتحدة ساهم تراجع اسعار النفط في تقليص عمليات الاستثمار وتراجع عدد الآبار المنتجة واتجاه شركات الحفر الى البحث عن مناطق أخرى في العالم للعمل فيها، او عرض الحفارات العاملة لديها للبيع. وتقول تقديرات اعدها مكتب النفط الاميركي، ان حفارة واحدة تعمل حالياً من أصل 4 حفارات كانت تعمل في اوائل الثمانينات. ويبحث الكونغرس الاميركي في مجموعة من الاجراءات والحوافز لتشجيع الاستثمار في قطاع انتاج النفط، عن طريق منح المنتجين اعفاءات ضرائبية اضافية، الى جانب فتح الباب امام عمليات الحفر والتنقيب في مناطق جديدة كانت محظرة حتى الآن على أعمال الانتاج لاعتبارات بيئية او استراتيجية، خصوصاً في الاسكا والمياه العميقة لخليج المكسيك. واللافت ان تدني اسعار النفط الى المستويات التي حققها في الاشهر الاخيرة شجع المسؤولين النفطيين في واشنطن على إعادة فتح ملف المخزون النفطي الاميركي الذي يقول وليم وايت نائب وزير الطاقة انه بات عملية بالغة الكلفة الى الحد الذي تطرح معه جدية وجدوى معادلة "الكلفة - الفائدة" التي كانت المبرر الرئيسي لانشائه. وطبقاً لتقديرات وزارة الطاقة الاميركية، فإن كلفة المحافظة على المخزون النفطي للولايات المتحدة تصل الى مليار دولار سنوياً، ما يعني ان دافع الضرائب سدد حتى الآن 21 بليون دولار لكميات لا يزيد سعرها الحقيقي عن 24 بليون دولار حالياً. وكانت الادارة الاميركية بررت تكوين المخزون لديها في السبعينات بالحاجة الى وسيلة للتغلب على الاثر الاقتصادي لاية مقاطعة نفطية، او قفزة في الاسعار تفوق كلفة شراء النفط وتخزينه معتبرة أن الفائدة الاساسية تستمر طالما كانت هناك حاجة للجم ارتفاع الاسعار. اما في النروج وبريطانيا اللتين تنشطان في زيادة انتاج حقول الشمال، فإن ثمة تساؤلات واضحة عما اذا كانت الاعفاءات التي حصلت عليها الشركات النفطية ستبقى كافية للتعويض عن تدهور اسعار النفط والمحافظة على حد أدنى من الربحية التي تحتاجها عمليات التوظيف والاستثمار كحافز لاجتذاب المزيد من الرساميل. ويقول محللون نفطيون في لندن، ان الانتعاش الذي حققه انتاج النفط في السنوات الثلاث من العقد الحالي قد لا يكون قادراً على الاستمرار لسنوات اخرى، ما لم تطرأ عناصر جديدة تبرر بالفعل توجيه المزيد من الرساميل الى تطوير العمليات النفطية، وكانت أثيرت مسألة إعطاء الشركات المنتجة حوافز اضافية وقدرة هذه الحوافز على حل الازمة الناتجة عن ارتفاع التكاليف من جهة، وانهيار الاسعار من جهة ثانية. وفي كندا التي زادت من حصتها في السوق النفطية العالمية، فإن التساؤلات تتركز بصورة رئيسية على مدى قدرة الشركات على الاستمرار من دون تحقيق تقدم على صعيد التقنيات المستخدمة وتحسين مردودية الآبار المنتجة، ويقول خبراء لدى الشركات النفطية الكندية انه ما لم يتم تحقيق تقدم على جبهة الاسعار وتخفيض اكلاف الانتاج لزيادة معدلات المردودية، فإن الايام الذهبية التي شهدها قطاع النفط الكندي في الاعوام الثلاثة الماضية تكون ولت بصورة كبيرة. وفي الواقع بدأت معادلة الكلفة - الفائدة تطرح نفسها حتى في الدول الاقل كلفة للانتاج، ففي روسيا التي تتميز بتدني كلفة اليد العاملة فيها، الى جانب تدني كلفة التجهيزات والنفقات اللوجستية للحقول، يثير المسؤولون حالياً مدى قدرة القطاع النفطي على الاستمرار في ظل المعادلات الحالية للاسعار، وعجزها عن تغطية التكاليف، من دون احتساب قيمة أعمال التطوير التي يحتاجها قطاع النفط، واعادة تعمير الحقول الموضوعة خارج الخدمة، او تلك التي تحتاج الى معالجة خاصة بسبب الاخطاء التي حصلت سابقاً. التكرير والتوزيع واللافت ان تدني اسعار النفط الى مستويات تقل حتى عن كلفة الانتاج، بدأ يرخي ظلاله على الشركات النفطية العالمية التي بدأت تتحول بصورة واضحة نحو التوظيف في العمليات النهائية للنفط التكرير والتوزيع، بدلاً من الاعتماد بصورة مباشرة ووحيدة على إنتاج النفط الخام. ولعل النتائج التي حققتها شركات نفطية كبرى العام الماضي الدليل الاهم الى حاجة الشركات الاخرى الى مثل هذا التحول، إذ ارتفعت ارباحها الى 2.2 بليون دولار، ما عوض بصورة مباشرة الانخفاض الذي بلغت قيمته 932 مليون دولار في عائدات انتاج النفط الخام. وبررت مجموعة "ستيرلينغ الاستشارية" في تكساس، عاصمة النفط الاميركية، انخفاض عوائد الانتاج، بأن غالبية الشركات بنت خططها على أساس 20 دولاراً للبرميل، إلاّ أن تراجع الاسعار دفع الجميع الى إعادة النظر بخططه. وكانت شركات اميركية حققت في الفترة ما بين 1988 و1992 ارباحاً قياسية في عمليات الانتاج، عندما حصلت على أكثر من دولار واحد في مقابل كل دولار أنفقته على عمليات الاستكشاف والتطوير، إلاّ أن هذه الارباح عاودت الهبوط اعتباراً من أواخر العام 1992، عندما بدأ اتجاه الاسعار الى تحقيق المزيد من التراجع الذي بلغ ذروته في الربع الاخير من العام الماضي من دون ان تظهر اشارات الى احتمال حصول تبدل اساسي في العام الجاري. ويقول تقرير أعدته شركة "اموكو" الاميركية الناشطة في مجال العمليات النفطية في حوالي 100 دولة، ان هبوط الاسعار دفعها الى التركيز على نشاطاتها في 25 بلداً فقط، الى جانب ادخال تخفيض اساسي وصل الى 10 في المئة للعام الجاري على الاعتمادات المخصصة لبرامج الاستكشاف. الى ذلك لجأت شركة نفطية كبرى، هي شركة "اكسون"، الى ادخال تعديل جذري على انفاقها على عمليات الاستكشاف والمسح. فقد تحولت الشركة الى سوق "وول ستريت" لشراء الاحتياجات النفطية من الشركات العاملة، وعمدت الى تخفيض اكلاف الاستثمار في مجال التنقيب من 9.1 بليون دولار في العام 1984 الى 4.4 بليون دولار في العام 1992. ويقول مسؤولون في "اكسون" التي تنشط في اسواق الشرق الاقصى أن هذه الاستراتيجية ساعدتها على تحقيق احتياجات نفطية تماثل تلك التي تملكها "شيفرون" او "تكساكو" لكن بكلفة تقل 20 في المئة عنها، مضيفين ان مواجهة التغيرات الحاصلة في اسواق النفط بالاساليب القديمة لن تكون ممكنة.