احتفلت الاوساط الادبية قبل أسابيع بالذكرى الرابعة عشرة لرحيل الاديب اللبناني سعيد تقي الدين الذي حصلت "الوسط" على بعض رسائله الى أدونيس، أيام كان لا يزال "شاعراً ناشئاً ذا لمعة ابداعية" بتعبير صاحب "لولا المحامي". كان سعيد تقي الدين أكثر أدباء لبنان شهرة ونفوذاً ذلك الوقت، وعلي أحمد سعيد عند أولى محطات مغامرته الابداعية. كان الثاني عضواً في "الحزب السوري القومي الاجتماعي" قبل تقي الدين الذي ما زال يعتبر من أشهر رموزه. بينهما نشأت علاقة صداقة بدأت عبر الرسائل، وكان الاديب المعروف يسعى فيها الى توجيه الشاعر الشاب... ننشر في ما يلي بقية هذه الرسائل، بعد وضعها في اطارها وابراز قيمتها التاريخية، كنوع من التحية الى الاديب الراحل. لم تقتصر رسائل سعيد تقي الدين الموجّهة الى أدونيس على إبراز الايجابيات في شعره. إذ صاغ معظمها بمنهج نقدي سلط الضوء على السلبيات بلغة صريحة مباشرة. وإذا كان من المنطقي الاستنتاج بأن رسائل سعيد الى أدونيس هي أكثر من الرسائل التسع التي في حوزتنا... فان لقاءات شخصية عدة تمت بين الأديب المشهور والشاعر المغمور، وكان مضمون الحوار فيها شبيهاً بما تضمنته الرسائل، بدليل قول تقي الدين في الرسالة المؤرخة في 7 تشرين الأول اكتوبر 1957: "أنت عظيم يا أدونيس. أعظم مما كنت أتصور. وبعد التأمل قررت أن أفقعك النصائح التالية، وأنت قد سمعتها مني سابقاً". فقر في الالفاظ وفي سياق هذه الرسالة التي هي الأهم بين مجموع الرسائل المتوافرة، يوجّه "الناقد" ثلاث ملاحظات جوهرية الى أدونيس الذي كان بدأ يشق طريقه على درب الشهرة، خصوصاً بعد انتقاله الى بيروت، وبروزه كواحد من مؤسسي الحركة الشعرية الحديثة، من خلال مجلة "شعر". الملاحظة الأولى تشير الى خطر ولوج أدونيس باب التنظير، وتنصح بأن يعود الى اطار الخلق والابداع أي كتابة الشعر. وفي الملاحظة الثانية يلفت سعيد نظر أدونيس الى فقره على صعيد الكلمات أو الألفاظ الشعرية، بعد أن لاحظ تداوله عدداً محدوداً منها. وهنا أشار "الناقد" الى عدم التوازن بين الفقر في الألفاظ والغنى على مستوى الفكر والخيال. أما الملاحظة النقدية الثالثة، فقد تمحورت على تحذير من خطر "الأنا" التي تغلق الباب أمام المزيد من الابداع، إن هي استمرت محوراً لقصائد الشاعر. وكان سعيد ضمّن بعض الرسائل السابقة انتقادات وتوجيهات مماثلة. حين تسلّم سعيد "كدسة الشعر" التي طلبها من أدونيس. قال انه لا يستطيع اصدار حكم قاطع بحقها لأنه لم يدرسها. ولكنه استدرك قائلاً انها لم تبهره للوهلة الأولى على أثر تصفّحه الاولي السريع لها. وفي رسالة أخرى غير مؤرخة راجع الحلقة الاولى في العدد الماضي من "الوسط"، يقول سعيد لأدونيس: "لا تكتب الا الشعر. ابتعد عن النثر. لقد دوختني بعد قراءة مقاطع لك في الجيل الجديد". والجدير بالذكر أن أدونيس كان ينشر بشكل دوري مقالات نثرية في الجريدة، وبعضها في العمود الأخير من الصفحة الأولى 1. أدونيس والنشيد القومي وانتقد سعيد تقي الدين في رسائله الى أدونيس نشيد الحزب القومي الرسمي، وجرائد دمشق. فقد طلب من أدونيس أن ينظم نشيداً من 15 بيتاً كي يحلّ مكان النشيد المعتمد. وهذا يعني أن نشيد "سورية لكِ السلام" الذي نظمه أنطون سعادة نفسه، لم يكن ناجحاً في نظره، بدليل قوله ب "عدم وجود نشيد في الحزب". وهذا الطلب ينم عن جرأة خارقة، اذ أن القوميين يرون في أكثريتهم الساحقة أن سعادة فوق النقد، وأنه "إنسان كامل" على حد تعبير الدكتور عبدالله سعادة، أو "مجموعة عبقريات" 2 على حد تأكيد المحامي عبدالله قبرصي. ويذكر الشاعر محمد يوسف حمود في أحد فصول مذكراته الحزبية التي نشرها في مجلة "المواسم"، 3 أن سعيد تقي الدين طلب منه نظم نشيد للحزب. لكنه لم يجرؤ على تلبية طلبه لأن سعادة هو صاحب النشيد الرسمي الحزبي الذي لحّنه الفنان زكي ناصيف 4. والمعروف أن حمود كان من أكثر الشعراء اللبنانيين موهبة في نظم الأناشيد. فهو صاحب "نشيد الشجرة" ونشيد "المقاومة اللبنانية" ونشيد حزب النجادة. حتى أنه نظم نشيداً للحزب القومي بعنوان "سوريانا"... لذلك يمكن القول إن تقي الدين طلب من حمود نشيداً بديلاً لاقتناعه بجدارة هذا الاخير وموهبته. من هنا أن قول سعيد تقي الدين لأدونيس "لو كان في الحزب شاعر لكان نظم نشيداً... ولكن مع الأسف ليس في الحركة شعراء"، يبعث على الاستغراب. لكنه سرعان ما يستدرك أنه ربما استثنى أدونيس في حال نظمه النشيد المطلوب. فهل رفض الاعتراف بشاعرية حمّود لأنه رفض نظم النشيد؟ أم أنه كان يرى في حمود ناثراً مبدعاً، لا شاعراً؟ الارجح أن المعطيين معاً دفعاه الى عدم اعتبار حمود شاعراً مبدعاً في ذلك المقطع من الرسالة. أما نقده لصحافة دمشق، بسبب مأسوية مقالاتها وأخبارها وتحقيقاتها، فانه يشمل جريدة الحزب القومي أيضاً، رغم أن "البناء" الدمشقية كانت على سوية رفيعة، صناعة صحافية، وصياغة، ومضموناً. ولكنه حصر نقده بطابعها المأسوي. و"البناء" كانت أيضاً حقلاً لتغطية الأوضاع السياسية والاجتماعية والأدبية - الفنية الشاذة بمنهج نقدي بعيد عن "النور والضياء والربيع". تقي الدين شاعراً؟ تبقى القصيدة التي احتلت معظم مساحة احدى الرسائل غير المؤرّخة، المنشورة في هذه الحلقة "هي تبغ، هي نبع...". والاشارة فيها الى "عمدة" أدونيس، ترجح أنها كتبت في العام 1957، إذ كان أدونيس عامذاك عميداً للثقافة في الحزب القومي. أما السؤال الذي يتبادر الى الذهن، فهو لماذا نظم الاديب الراحل تلك القصيدة؟ هل كان ذلك من باب السخرية؟ أم أنه أراد أن يثبت لأدونيس أن بامكانه، لا قرض الشعر فقط، بل نظم قصيدة وفق المنهج الأدونيسي؟ مهما يكن من أمر، فان هذه القصيدة دليل على تمكن تقي الدين من الشعر نظماً ونقداً على السواء. ولا بد، ختاماً، من طرح السؤال التالي: هل أخذ أدونيس بنصائح سعيد؟ من خلال نتاج أدونيس، في النصف الثاني من الخمسينات والمراحل اللاحقة، يمكن القول إنه أخذ ببعضها، وضرب صفحاً عن البعض الآخر. فهو لم يتوقف عن كتاباته النثرية. بل أنه كثّفها، كما تشير أبحاثه ومقالاته عن الشعر الحديث التي نشر بعضها في مجلتي "شعر" و"أدب"، إضافة الى أطروحته "الثابت والمتحول". في المقابل، أثرى أدونيس قاموسه الأدبي بالكلمات الشعرية حتى حقق توازنها مع فكره وخياله. أما "الأنا" التي كانت محور معظم قصائده، فقد أمسى حضورها متناسباً مع طبيعة الشعر الذي يصعب فصله عن الشاعر بجدار برليني. 1 المقالات تناولت موضوعات اجتماعية - سياسية. اما الدراسات فقد عالج فيها أدونيس ملحمة جلجامش وغيرها من المواضيع التراثية. 2 سمعت العبارتين منهما في اكثر من لقاء معهما. والجدير ان عبدالله سعادة وعبدالله قبرصي يعتبران من مسؤولي الحزب الرافضين لمنهج تمجيد سعادة. 3 مجلة أدبية - سياسية أصدرها الشاعر إيليا ابو شديد في أواسط الستينات. 4 كان عضواً في الحزب القومي منذ الثلاثينات. الرسالة 1 كل سبت الساعة 7 بروغرام "كل مواطن خفير" في الاذاعة اللبنانية الرفيق أدونيس، حين تصبح عقيداً تتعلم انه حين تبعث برسالة تضع عليها اسمك وعنوانك، حتى يعرف من يريد ان يجيبك عليها كيف يتوجه اليك. وصلتني شحنة شعر وفيها نقد "ربيع الخريف". هي الآن في المكتب. لذلك لا اعرف ان كان فيها ما يجب ان ابحثه معك. لا تنس أن هنالك نقص أو نقصاً في الحزب وهو عدم وجود نشيد. لو كان في الحزب شاعر لكان نظم لا أكثر ولا أقل من 15 سطر تصحّ نشيداً. ولكن مع الأسف ليس في الحركة شعراء. لعل الجيل القادم ينبغ شاعراً أو لعلنا نستلم نشيداً يكذب هذا الظن. 1 سعيد 1 هنا، يوجّه سعيد نقداً لاذعاً لنشيد الحزب الرسمي "سورية لك السلام" الذي نظمه سعادة نفسه خلال وجوده في السجن عام 1936. وكان الشاعر سعيد عقل نظم للحزب الذي كان عضواً فيه خلال الفترة نفسها، نشيد "سورية فوق الجميع" ولكنه لم يُعتمد بصورة رسمية. وهذا الطلب عاد ووجهه تقي الدين الى الشاعر محمود يوسف حمود. إلا أن أحداً لم يلبّ طلبه. الرسالة 2 16 كانون الثاني يناير 1954 عزيزي الضابط الاحتياطي 1، علي اسبر تحية، قصيدة "العمل" وصلت وهي رائعة جداً. كدسة الشعر الأولى لا أقدر ان اقول رأيي فيها. انما للوهلة الأولى لم تبهرني. يا افندم، فحصنا القلب 2 فاذا فيه خللان رئيسيان. وقد انقطعت عن القهوة والتدخين تقريباً ورأسي، مثل ثيابك، مليء بالوحول. هل تستمعون الى بروغرام "كل مواطن خفير" 3 كل يوم سبت الساعة 7؟ افتتحه واختم "ما في دمي غير نداء الكفاح الخ". في الاذاعة فتاة مذيعة 4 تعرفك. "العمل" ستصدر في جريدة "الجريدة"! مش رح تطل على هذه الجمهورية؟ سعيد 1 كان أدونيس يخدم الجندية برتبة ملازم. 2 مات سعيد تقي الدين بعد ست سنوات وهو يسبح في جزيرة أندروز كولومبيا نتيجة نوبة قلبية حادة. 3 أسس سعيد تقي الدين "لجنة كل مواطن خفير" في أواخر العام 1953 وكان رئيساً لها. ومن مسؤولي اللجنة الدكتور بشارة دهان، والصحافي وفيق الطيبي. وكان للجنة فرع في دمشق. أما الهدف الرئيسي للجنة فكان كشف "جواسيس اسرائيل" في بيروتودمشق، وتزويد السلطات الأمنية بمعلومات عنهم، إضافة الى التشهير بهم على صفحات الجرائد. 4 ربما تكون السيدة عبلة الخوري حفيدة رئيس احدى الحكومات السورية في الخمسينات فارس الخوري. الرسالة 3 الرفيق أدونيس، وصلتني هدية سواكير العدد يبقى سراً من الرفيق رشيد الرسامني. ارسل منها ثلاث خرطوشات وهذا أكبر عمل ثقافي قامت به عمدتكم. أرجو توزيعها على الرفقاء هي تبغ، هي نبع، وهي لحظة فاقتحمها واغتنمها كل شيء بعدها لغو، رماد. اشعلوها دخنوها دمروها انها رمز الظفر واذا برّح فيكم نجم نحس أو طفر نشتريها بأبيها - شرط ان ندفع في ليل القدر سعيد الرسالة 4 الاثنين 7 تشرين الأول أكتوبر 1957 أدونيس، خيرات الله عليكم لأنك في حاجة اليها أكثر من البركات. اكتب اليك بعد يوم قراءة وتأملات وسباحة في بحر جنون. هذه أخبارنا وآراؤنا. 1 - قبض ناطور الضيعة على بعض العمال العلويين يسرقون العنب. 2 - بعض النهار قضيته معك في "قصائد أولى" 1 ومجلة "شعر" 2. يوسف الخال نقلته من مصنف الى مصنف. وكان في ذلك ربح له. 3 - أنت عظيم يا أدونيس. أعظم مما كنت أتصور. وبعد التأمل قررت ان افقعك النصائح التالية، وأنت قد سمعتها مني سابقاً، ولكن قراءاتي اليوم عززتها: أ - حذار المَنيَره 3 وفي هذا الحقل تدخل كل الأبحاث الأدبية والنقد، وحلقات الأدباء، والآراء ولحد ما مجلة "شعر". اخلق. انتج. ولا تتحدث عن الانتاج. ب - لازمك ستوك الفاظ هذه قلتها في مقدمة "الفراغ" فخيالك وفكرك أضخم من أدوات أدائك. لذلك تعود فتردد. خلصنا من "التوق" و"الدرب" وعلقنا "بحبة القمح" و"الأجفان" الخ. ج - الأنا الشرقية تطغى على شعرك. اعتقد ان تفلت منها - والألفاظ التي تتردد - فستنفتح أمامك آفاق جديدة. د - أكثر ما سرني في "قصائد أولى" ظهور العاطفة "موت أمي" و"الى خالدة". 4 - واصلك عنب وتفاح. يجب غسل العنب بالصابون جيداً. هذا لملء الفراغ في برادك. 5 - قالت لي الرفيقة ليلى زوجة الرفيق رجا ان 150 ليرا قبلت وداد قرطاس 4 بدفعها. موسى سليمان 5 عمل عدة اتصالات قد تأتي نتيجتها أو أتت. وعد بالاتصال بك بواسطة يوسف الخال. جبرايل جبور 6 يعطيني الجواب غداً. من يدري فصنين غداً تكسوه الثلوج. 6 - جربت الصلاة لأول مرة في حياتي بعد بلوغ سن الرشد. وما أنهيت صلاتي حتى دخل تاجر التفاح ودفع لي 600 ليرا ثمن التفاح الذي باعته اياه أمي، دينا. هي غائبة عن البيت. وثمن التفاح سيبقى غائباً الى الأبد. هكذا ترى ان أول ثمرات الصلاة سرقة. لا عجب والدنيا كما هي، فالناس يملأون الكنائس والجوامع. Je vous emprie سعيد 1 عنوان أحد دواوين أدونيس. 2 أصدرها يوسف الخال بالتعاون مع مجموعة من الشعراء، أمثال أدونيس، أنسي الحاج، شوقي أبي شقرا، نذير العظمة، محمد الماغوط. 3 كلمة من اختراع تقي الدين، وهي مزيج من عبارتين "بذيئتين"، يسوقها على سبيل الدعابة. 4 مديرة "المدرسة الاهلية" ذلك الوقت. 5 أديب من فيع - الكورة. شقيق الأديب المعروف فؤاد سليمان. 6 أستاذ سابق في الجامعة الأميركية وباحث أدبي له عدة مؤلفات عدّة. كان زميلاً لسعيد في الجامعة الأميركية.