ربما أظهرت التطورات اليمنية الأخيرة مبرراً كافياً للوصول الى قناعة بأن انفجار الأزمة أصبح امراً لا مفّر منه، اذ أوحت هذه التطورات بأن وثيقة الوفاق كانت أشبه برمي الورقة الأخيرة على طاولة الحوار، وان الاطراف المعنية استنفدت بإعلانها آخر خيارات الحل السلمي وأنهت بهذا المهدئ الموقت مرحلة حوار ما ان انتهت حتى تجددت الأزمة بشكل أعنف وأخطر مما كانت عليه. ولعل أقرب تفسير لهذه المفاوضات هو ان الوثيقة، الى جانب استيعابها كل مبررات الخلاف التي كانت وقوداً للازمة، انما كشفت عن جذورها من دون اقتراح حلول مواكبة. وكانت "الوسط" اشارت الى ان الوثيقة عبّرت عن إجماع القوى السياسية على ان "الازمة السياسية لم تكن سياسية بين احزاب الائتلاف بقدر ما كانت فنية وادارية واقتصادية داخل هيئات ومؤسسات الدولة. وهذا ما اكدته الوثيقة بتركيزها على بناء الدولة من دون ان تعطي اهتماماً مباشراً لمسألة الخلاف السياسي المجرد بين الاحزاب". مراوحة في المقدمات ولعلّ الجديد في التطورات الأخيرة شيئان: احدهما تأكيدها ان الخلاف جاء امتداداً لصراع مزمن بين نظامين متناقضين. وثانيهما ان الخلاف هو أصل الأزمة وأساسها وان الحل لا بد ان يبدأ من تسوية الخلاف بين طرفيه الرئيسيين وليس من الأسس النظرية "لاعادة بناء الدولة اليمنية الحديثة"، بل يفترض ان تأتي الوثيقة تالية لحل الخلاف، لأن استراتيجيتها تحتم طرحها في مرحلة وفاق واتفاق بين كل الأطراف المسؤولة عن تنفيذها، وليس في مرحلة خلاف بين الأطراف على كل الخطوات الموصلة الى التوقيع عليها، فضلاً عن الخطوات العملية لتنفيذها، وبهذا يبدو إعلان الوثيقة قبل حل الخلاف شبيهاً بوضع العربة قبل الحصان، اذ هي شهدت بعد إعلانها موجة من التأييد المطلق، في البيانات والتصريحات الصادرة عن قطبي الإئتلاف، المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي، مذيلة باتهام كل طرف الطرف الآخر بعدم الجد في تنفيذ الوثيقة وبوضع العراقيل في طريقها. ومع ان الاختلاف لم يصبح بعد داخل الوثيقة ومحتوياتها، وما زال محصوراً في إطار البند السابع منها الخاص بالمقدمات والترتيبات الأولية، إلا أنه لم يعد محصوراً داخل لجنة الحوار. وهذا انعكس على أعمال اللجنة بكثير من الإرباك والتأخير. ومر عشرون يوماً منذ اعلان الوثيقة 18 الشهر الما ضي وعجلة الحوار تراوح مكانها حول موضوع الترتيبات والضمانات. ومن بينها مسائل تم الاتفاق عليها في أواخر الشهر الماضي، مثل زمان ومكان التوقيع على الوثيقة، لكن صيغة الاستثناءات والتحفظات أعادت الحوار عليها من جديد. وأجّلت بالتالي التوقيع النهائي على الوثيقة، وأتاحت فرصاً لهذه التطورات التي بدأت تقلب الأوضاع رأساً على عقب. محاذير وضمانات ويمكن عرض أبرز جوانب الاختلاف وتطورها في ثلاثة نماذج: الأول، تبادل الحزبان في الاسبوع الأول من الشهر الجاري الاتهامات بالمواقف السلبية من الوثيقة، ومنها ما جاء في بيان صادر عن الحزب الاشتراكي: "ان بعض ممثلي الائتلاف في الحوار وضعوا تحفظات على الوثيقة عند توقيعها، لاستخدام التحفظات عند مناقشة التنفيذ، الأمر الذي شكل تنافياً واضحاً بين قبولهم الوثيقة وتحفظاتهم عليها". ولأن المؤتمر الشعبي اعتبر الاشارة موجهة إليه، أصدر عن لجنته العامة بياناً جاء فيه ان السيد حيدر العطاس ممثل الاشتراكي في لجنة الحوار طالب لجنة الحوار أثناء اجتماعها برئاسته في اليوم السابق لاعلان الوثيقة في عدن، بإسقاط فقرة من الوثيقة تقول: "توحيد الارادة السياسية وتمكين المؤسسات الدستورية من تأدية مهامها وممارسة صلاحياتها وتنفيذ ما تم التوقيع عليه في وثيقة العهد". وقال البيان انه عندما أصر ممثل المؤتمر في اجتماع اللجنة الفرعية للجنة الحوار على بقاء الفقرة أيده أعضاء اللجنة، لكن ممثل الاشتراكي أصر على شطبها، وهذا ما دفع ممثل المؤتمر الى توزيع مذكرة إيضاح للفقرة على أعضاء اللجنة. وتأتي أهمية الفقرة لدى الجانبين من كونها تشير الى قضية رئيسية في الخلاف هي شرعية المؤسسات الدستورية، في مقابل الشرعية السياسية او الوطنية لوثيقة الوفاق، إذ أن مجلس النواب، مثلاً، يستطيع بشرعيته الدستورية ان يصدر قراراً بإلغاء الوثيقة أو تأجيل النظر فيها، سواء عند مناقشته لما ورد فيها من نصوص تتطلب تعديلات دستورية، أو عن طريق الدستور والقوانين النافذة، خصوصاً ان نواب حزبي المؤتمر والاصلاح يزيد عددهم عن ثلثي اعضاء المجلس مجموع أعضائه 301 ولذا تظهر هذه القضية محفوفة ببعض المحاذير، كما قال لپ"الوسط" عضو في لجنة الحوار مضيفاً "ان اللجنة الفرعية للجنة الحوار هي المخولة وضع الضمانات الكفيلة بتنفيذ الوثيقة، لأن الضمانة المتوافرة حتى الآن هي الاجماع السياسي والوطني على الوثيقة من قبل القوى السياسية، بما فيها احزاب الائتلاف التي اخذت على عاتقها مسؤولية التزام التنفيذ...". وعما لو استخدم مجلس النواب سلطته ضد الوثيقة، قال: "لا نعتقد ان ذلك سيحدث، لأن احزاب الائتلاف التزمت تنفيذ الوثيقة التي حظيت بتأييد شعبي عام، وبالتالي فإن النواب يدركون اهمية الاستجابة لتنفيذ ما أقرّه الشعب الذي يمثلونه". واستطرد قائلاً: "ولكن، وعلى أساس هذا الاحتمال الضئيل بأن يستخدم مجلس النواب سلطته ضد الوثيقة، ففي هذه الحال، على القوى السياسية المطالبة بحل مجلس النواب لأنه سيصبح متناقضاً مع الارادة الشعبية في قرار بهذا الحجم". خيارات وبدائل الثاني، زمان ومكان التوقيع النهائي على الوثيقة. وكان تحديدهما في العاصمة الاردنية في السابع من الشهر الجاري اصبح قراراً أو شبه قرار نهائي. ويبدو ان الاختلاف على مسائل تتعلق بالضمانات كان السبب في التأجيل، وهو ما عبر عنه السيد احمد جابر عفيف مقرر اللجنة ب "ظروف قاهرة" في اعلانه عن التأجيل، اذ قال "ان اللجنة الفرعية كانت بدأت التحضير للتوقيع، في العاصمة الاردنية، لكن ظروفاً قاهرة حالت دون ذلك". وحددت اللجنة في اعلان تال العاشر من الشهر الجاري، موعداً نهائياً لموضوع الترتيبات، واعلان موعد التوقيع خلال الاسبوع الذي يليه في عمان. الثالث، إقرار وثيقة الوفاق من قبل مجلس النواب. وتأتي هذه النقطة ضمن الضمانات التي اقترحها الحزب الاشتراكي لتنفيذ الوثيقة والتزامها من قبل شريكيه في الائتلاف. وفي مقدمتها التوقيع على الوثيقة خارج اليمن، واشراك حكومات ومنظمات وشخصيات عربية وغير عربية في التوقيع، ومنها "تشكيل حكومة وفاق وطني تكون مسؤولة عن تنفيذ الوثيقة. وطرح الاشتراكي اجراء استفتاء شعبي على الوثيقة بدلاً من اقرارها من مجلس النواب، في حال اقتران هذا الخيار بمحاذير سلبية. وفيما عدا زمان ومكان توقيع الوثيقة فإن المؤتمر الشعبي لا يوافق على اقتراحات الخيارات الاخرى، بل يتهم مصادرها باستخدامها لغرض المماطلة في تنفيذ الاتفاق. ضوابط جديدة من هنا كانت لتأجيل التوقيع على الوثيقة آثار سلبية على الأوضاع إذ أدى الى مزيد من الخلاف والحوار الثانوي وتصعيد الأزمة من جديد على الجوانب السياسية والاعلامية والامنية والعسكرية. ففي الجانب السياسي تحولت وثيقة الوفاق الى مصدر للخلاف يهدد مستقبل التعاون على تنفيذها، ويقلل الأمل في امكانه عن طريق حكومة الائتلاف القائمة. وظهرت تفسيرات للمواقف على شكل تهم متبادلة حول مدى التزام الوثيقة. فالمؤتمريون يفسرون موقف الاشتراكي بأن الوثيقة لم تكن بالنسبة اليه غاية وانما وسيلة لكسب الوقت وصولاً الى غايات اخرى. والاشتراكيون يفسرون استعجال المؤتمر على توقيع الوثيقة بأنه استعجال لتجاوز الضمانات لتحقيق الالتفاف عليها. وعادت الحملات الاعلامية بين الحزبين الى أشد ما كانت عليه قبل اعلان الوثيقة مشحونة بتبادل التهم المختلفة، في تصعيد وصل الى حد استخدام وسائل الاعلام الرسمية. ولم تعد مقصورة، كما كانت على الصحف الحزبية، في حال تذكر بما كان يحدث قبل الوحدة، ما دفع لجنة الحوار الى تشكيل لجنة من أعضائها لوضع ضوابط يلتزمها طرفا الخلاف. ظواهر اجرامية وبرزت على الساحة الأمنية بصفة مميزة أعمال الاقتتال والخطف والسرقة وقطع الطرق التي تدخل في معظمها ضمن الخلافات القبلية. وكان الرئيس صالح عبّر في حديثه أمام ممثلي الملتقى الجماهيري لمحافظة صنعاء عن استياء الدولة من "بعض الظواهر السلبية التي قام بها البعض أخيراً والمتمثلة في أعمال التقطع والخطف وسرقة السيارات". ووصف هذه الاعمال بأنها "ظواهر إجرامية تسيء الى شعبنا وتتنافى مع عقيدته واخلاقه ومبادئه". وألمح الى عملية اختطاف السياح الفرنسيين الثلاثة منذ أكثر من عشرين يوماً بالقول: "فليس من قيم شعبنا وعاداته الاساءة الى الضيوف"، مؤكداً ان الدولة "لن تتسامح مع مثل هؤلاء وسينالون عقابهم إن عاجلاً أو آجلاً". وظهرت بوادر تصعيد عسكرية في أكثر من مكان. وظل الجانبان يتبادلان الاتهامات بتحركات عسكرية من قبل كل منهما. وتتابعت بياناتهما عن ضبط صواريخ هنا ورصد تحركات لوحدات وألوية هناك ودفع تعزيزات مدرعة الى مناطق الوسط والقبض على شحنات من الاسلحة كانت مرسلة لتوزيعها على المواطنين في المناطق الشمالية أو الجنوبية وحجز طائرة في مطار الحديدة تحمل معدات فنية عسكرية، متجهة الى مطار عدن من دون ترخيص من الجهات المعنية، وناطق من مطار عدن ينفي ما جاء في تصريح وزارة الداخلية عن الطائرة مؤكداً انها مرخصة مسبقاً، الى آخر المسلسلات اليومية. والمتابع لبعض صحف الحزبين يشعر بأن الانفجار متوقع بين ساعة وأخرى. لكن مصادر عسكرية في وزارة الدفاع أكدت ل "الوسط" ان كل هذه البوادر والظواهر لا تعني انفجاراً عسكرياً بأي حال. وأضافت ان "هناك سقفاً سميكاً وخطوطاً حمراً، لا يمكن لأي من الجانبين اختراقها أو تجاوزها". وعندما استفسرت "الوسط" عن هذا السقف السميك والخطوط الحمر رد أحد هذه المصادر بقوله: "إن اللبيب من الإشارة يفهم".