الابرة هي مضرب الامثال في صغر حجمها، وربما في هوان امرها احياناً فالذي يبحث عن شيء صغير تائه، تشبهه الامثال بالباحث عن ابرة في كومة من القش او التبن، بينما يقول مثل آخر "يفتي في كل شيء حتى الابرة" ويضرب للشخص الذي يتدخل في ما لا يعنيه. لكن الابرة على صغر حجمها مهمة لدى الانكليز، لدرجة ان اقاموا لها متحفاً يعظم شأنها ويحفظ تاريخها، ويسهب في وصف انواعها… ولعلهم محقون في اهتمامهم بالابرة الى هذه الدرجة، فهل يمكن تصور حياة البشر بلا إبر؟ عرف الناس منذ قديم الزمان الابرة، وربما جاءت فكرتها بالفطرة. فقد صنعها قدماء المصريين وأهل بابل من مختلف المواد، من العظام والخشب والبرونز. ويكاد المؤرخون يجمعون على ان الصينيين هم اول من صنعوا الابرة الحديدية، لكن العرب طوروا صناعتها وانتجوها بكميات وفيرة، وعن طريقهم عرفتها اوروبا والحضارة الغربية. وفي مدينة نورنبرغ، المشهورة بمحاكمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، تأسس اول مركز لصناعة الابر في اوروبا في العام 1370، ومن هناك انتشرت صناعتها في تشيكوسلوفاكيا والمانياوبريطانيا. تطور صناعة الابر من أهم المراكز البريطانية لصناعة الابر مدينة ريدتش Redditch التي تضم حالياً متحف الابر، ولكن لماذا ازدهرت صناعة الابر في تلك المنطقة بالذات وهي منطقة ليست قريبة من لندن العاصمة - بل تقع على مقربة من مدينة برمنغهام في الشمال؟ الاجابة عن ذلك تحكيها الاسطورة الشعبية السائدة في مدينة ريدتش التي تروي ان الحاكم البريطاني اوليفر كرومويل كان مهتماً بشؤون صانعي الابر في العام 1656 لدرجة انه منح المحترفين منهم رخصاً للعمل في صناعتها داخل مدينة لندن، وجمعهم تحت لواء شركة كبرى تضم المهنيين والحرفيين في العاصمة، كما سن قوانين خاصة بكيفية عمل الابر وتسويقها. ولكن شخصاً يدعى "وليام لي" خالف قوانين الصنعة وتمت محاكمته بتهمة استخدام حجر غير مناسب في صنع الابر وتشذيبها. وبعد المحاكمة ببضعة اشهر، ظهر "وليام لي" في مدينة ريدتش، ويبدو انه قرر الابتعاد عن لندن هروباً من ماضيه والسمعة السيئة التي بدأت تلاحقه، واستقر به الحال في المدينة الجديدة، وسرعان ما اسس اول حانوت لصنع الابر في المدينة. وبحلول القرن السابع عشر كانت المنطقة كلها تزخر بصنّاع الابر، وكانوا قبل ذلك بقرن يصنعونها في منازلهم دون الحاجة الى انشاء مصانع، بل تخصص كثير منهم في انتاج انواع معينة او تصنيع المادة الخام اللازمة لها. لا احد يدري لماذا ازدهرت هذه الصناعة على وجه التحديد في تلك المنطقة، ولكن ريدتش ظلت منذ القرن التاسع عشر مركزاً هاماً لها، وساعدتها موقعها بالقرب من مصادر المياه على ان تصبح واحداً من اهم مراكز الاحتكار في العالم، فقد ادخلت المكننة الى المدينة، وتحول العمال المهرة من بيوتهم الى المصانع يعملون في انتاج الملايين من الابر في كل عام. ومع دخولها امكن استخدام قوة المياه في صقل الابر وتشذيبها، مما جعل الابر المنتجة تتميز بمواصفات عالية، فإزداد الطلب العالمي عليها، وهكذا سارت العجلة بسرعة لتجلب معها الى اهل المنطقة الرخاء، ولكن هذا لم يتحقق الا بعد سنوات طويلة من العمل الشاق، وتذكر المواثيق والسجلات المحليةپان الاطفال بالذات ظلوا يستخدمون كعمال في هذا المجال وبأسعار بخسة وفي سن صغيرة، بل ان بعضهم كان في الرابعة من عمره عندما بدأ العمل في صناعة الابر وكانت ساعات العمل الطويلة تعني الفقر والمرض للعاملين، خصوصاً النساء اللائي كن لا يتقاضين سوى نصف اجر الرجال. وصناعة الابرة صناعة دقيقة بسبب صغر حجمها، وكانت قبل التطور الصناعي، صناعة خطرة ايضاً فقد كان العامل يعتمد على حجر يشبه الرَحى لسنّ الابرة، واحداث الثقب في احد طرفيها. وتلك كانت مهمة حساسة لان تطاير شذرات الحديد كان يشكل خطراً على العيون، كذلك كان العامل يواجه خطر تكسر الحجر وتطايره. وما يزال متحف الابر في ريدتش يعرض صوراً للطرق البدائية الخطرة التي كانت تتم بها صناعة الابر، كما يضم ايضاً بين جنباته لوحات تذكارية في المواقع التي قضى فيها عدد من العاملين، فقد كان المتحف نفسه مصنعاً لانتاج الابر حتى اوائل هذا القرن. والعجيب ان العمال في العصور الماضية اضربوا لما يقرب من عام عندما حاولت السلطات فرض قانون بوضع شفاطات هوائية للتخلص من الغبار المتطاير من صقل الابر وثقبها، وكان سبب الاضراب هو خشيتهم من تخفيض اجورهم اذا ما انفقت ادارة المصنع على تركيب تلك الشفاطات. لذلك كان متوسط عمر العامل في صناعة الإبر لا يتجاوز الثلاثين عاماً فاذا لم يمت في حادث ما يتعلق بالصنعة نفسها، كان يصاب بامراض الرئة نتيجة استنشاقه الغبار القاتل المليء بشذرات المعدن والغبار الناجم عن دوران الرحى. ولكن يبدو ان هؤلاء العمال كانوا يعرفون ان الآلات ستكون سبب تدهور صناعتهم وزوال مجدهم في النهاية. فمع استخدامها ازدهرت صناعة الإبر لفترة في ريدتش، ولكن ذلك كان سبباً في دخول آخرين مجال المنافسة. وبالتالي تقلص انتاج المنطقة من 3500 مليون إبرة في العام الى اربعمئة مليون إبرة فقط. والسر هو في دخول اليابانيين مجال المنافسة ومن طرائف ما يروى عن اهتمام اليابان بكسر احتكار بريطانيا لصناعة الإبر انهم اطلقوا على مدينة صغيرة في ضواحي طوكيو اسم "ريدتش" وأسسوا فيها مصانع للإبر وهكذا امكنهم ان يكتبوا على المنتجات "صنع في ريدتش"، مثلما كان يُكتب على الابر الاصلية. قصة أصغر ابرة في متحف الإبر قاعة كاملة خصصت لأندر مجموعة من الإبر وفيها تتمثل كل انواعها: الإبر العادية، وتلك المستخدمة في التطريز او الاشغال المختلفة كالتريكو والكروشيه، وإبر الصيد او الصنانير، الى جانب اكبر وأصغر إبرة انتجتا، والاخيرة يحكي المتحف قصتها، فقد حاول احد اصحاب المصانع في المانيا ان يتحدى الصناع البريطانيين فارسل الى ريدتش إبرة صغيرة الحجم تكاد لا ترى بالعين المجردة وادعى انها أصغر إبرة في العالم، فما كان من "اهل ريدتش" الا ان صنعوا إبرة اصغر وشبكوها في عين الإبرة التي ارسلها الالماني وأعادوها اليه. وعندما افتتح المتحف أعيد جمع هذه القطع النادرة لوضعها بين جنباته. في المتحف ايضاً مجموعة من اندر اشغال الإبر التي صاغتها ايدي المشاهير من النساء الحاكمات في بريطانيا او اللائي كن على صلة بالاسرة المالكة فقد كانت اشغال التطريز والإبرة هي موضة العصر في القرون السابقة، وما تزال اعمال سيدات الطبقات النبيلة شاهداً على ذلك. ويفخر اهل ريدتش الى اليوم بمدينتهم ومتحفهم الفريد من نوعه ويلفتون الانتباه الى ان صناعة الإبر آلياً ادت الى تطور في مجال ادوات الخياطة، وهكذا عرف العالم آلة الخياطة التي انتجتها شركة "سنجر" وكان اسلوب هذه الشركة في التعامل مع وكلاء في البلدان المختلفة هو فاتحة استعمال مثل هذا الاسلوب التجاري الناجح الذي تطور اليوم واصبح جزءاً لا يتجزء من حركة التجارة الدولية. وما تزال ريدتش الى اليوم تنتج الوف الإبر الطبية كذلك، تلك التي تستخدم في الجراحة والاخرى المستخدمة في الحقن. أما اقدم إبرة يضمها المتحف فيطلق عليها اسم "إبرة حواء" وتلك مصنوعة من الياف بعض النباتات الاستوائية وما تزال الإبر الشبيهة بها تنتج في بعض انحاء افريقيا. اما احدث انواع الإبر المنتجة والتي يضم المتحف نموذجاً لها كذلك، هي ما يسمى "بأبرة الفضاء" وهي إبرة صنعت خصيصاً في ريدتش ليتم بها خياطة الغطاء الواقي للحرارة في المكوك الاميركي كولومبيا. وتطوراً مع العصر، تحاول ريدتش الآن انتاج مواد مثيلة في خاماتها للإبر ولكن بتنويعات مختلفة، مثل اسلاك عجلات الدراجات، ولكن اسم ريدتش لدى اهلها سيظل مرتبطاً بالإبر، ربما لذلك يفخرون بمتحفهم الفريد من نوعه. إبر ودبابيس إبر المستقبل سوف تصلح اخطاء الخياطة، ولكن كيف؟ ابتكر العلماء في معهد جورجيا للتكنولوجيا في مدينة اتلانتا الاميركية آلة خياطة يمكنها الكترونياً ان تعرف من صوت الإبرة ما اذا كانت الخياطة صحيحة او لا وهكذا يمكن للشخص التوقف عن الخياطة واصلاح العطب. كان الهنود الحمر يبادلون قطعاً من اراضيهم مع الاوروبيين لقاء دزينة من الإبر. أطول إبرة في التاريخ طولها 185 سنتيمتراً، وهي التي صنعها شخص يدعى جورج ديفز من مدينة سمرفيلد البريطانية بهدف خياطة أزرار على المراتب طولياً. ويحتفظ بهذه الإبرة الفريدة في متحف ريدتش. في العام 1971 أفلحت الانكليزية بريندا روبنسون في تمرير الخيط داخل ثقب احدى الإبر العادية 3795 مرة!