لم يعرف عن صلاح جديد، المولود في 1926، اي حب للظهور او مبالغة في الكلام. وكذلك لم يعرف عنه انه قائد جماهيري، فقد كان سجيناً كحاكم قبل ان يصير سجيناً كمحكوم. فابن قرية دوير بعبده السورية القريبة من مدينة جبلة الساحلية، بدا صامتاً منضبطاً ماهراً ذكياً شبهه بعضهم بالضباط الالمان الشبان. وتحدث كثيرون ان هذا الرجل الجميل الملامح، يخفي وراء ملامحه قدرات تآمرية كبيرة. والحق ان صلاح جديد الذي وصفه آخرون بالتهذيب والتقشف والاخلاقية المتزمتة، سريعاً ما بدأ يتعاطف في مطالع الخمسينات مع الحزب السوري القومي الاجتماعي. وقدمت عائلة جديد الى هذا الحزب شقيقين لصلاح هما غسان وفؤاد. اولهما كان ضابطاً في الجيش وارتبط اسمه باغتيال الضابط البعثي عدنان المالكي في 1955، ما دفعه الى الهرب الى بيروت حيث اغتاله عملاء الامن السوري بعد عامين. والثاني قضى، بسبب حادث المالكي، سبع سنوات في السجن، فلم يطلق الا مع وصول شقيقه صلاح الى السلطة في 8 آذار مارس 1963. لهذا دارت تكهنات كثيرة عن ان صلاح ظل طويلاً قومياً سورياً متخفياً، وهذا ما لم يكن صحيحاً. فقبل مصرع المالكي كان شرع يتحول الى البعث، وكان ذلك بتأثير الضابط البعثي الكبير يومذاك، مصطفى حمدون. وقد بدت هذه الصلة غنية الدلالة نظراً الى علاقة حمدون الوطيدة بأكرم الحوراني، السياسي البعثي الذي نسبت اليه بدايات تسييس الجيش السوري، في ظل شعارات التحويل الاجتماعي والسياسي لسورية. ومثلما أثر حمدون في صلاح، أثر الاخير بدوره في شقيقه الاصغر عزت الذي انتمى أيضا الى البعث واصبح من ضباطه الناشطين. الوحدة و"اللجنة" بقيام الوحدة المصرية - السورية في 1958، نقل صلاح الى مصر مع عدد من ضباط سورية البعثيين ممن ارتضى امينهم العام ميشال عفلق حل الحزب، نزولاً عند طلب عبدالناصر. لكن ريبة الاخير بالبعثيين والمعركة التي ما لبثت ان اندلعت بينه وبينهم حملتا هؤلاء الضباط على تشكيل "اللجنة العسكرية" في القاهرة، وهو التنظيم الذي قيض له، بعد سنوات قليلة، حكم سورية. وكان مؤسسوه خمسة من ضباط البعث، هم بحسب تراتبهم: محمد عمران و صلاح جديد وحافظ الاسد وعبدالكريم الجندي واحمد المير. وقد جمعت بين هؤلاء الشبان نقمتان: واحدة على الادارة المصرية وتعاملها مع السوريين، ولا سيما منهم ضباط البعث الذين آمنوا بالوحدة، واخرى على القيادة التقليدية لحزبهم وموافقتها على حل هذا الحزب. فحين ارسل صلاح في 1960 الى بيروت مندوبا سريا عن "اللجنة" للمشاركة في اعمال المؤتمر القومي للبعث الذي بقي ناشطاً خارج دولة الوحدة، لم يتردد في إعلان تحفظه الكبير عن سياسات عفلق ومبدأ الحل. بيد ان الانفصال عن مصر ما لبث ان تحقق في 28 ايلول سبتمبر 1961، وعاد الضباط السوريون الى بلادهم، وبدأ صلاح ورفاقه في "اللجنة" العمل لاطاحة النظام. الا ان التضارب السياسي والتنظيمي بينهم وبين الضباط الناصريين الساعين الى إرجاع الوحدة مع مصر فوراً، حال دون نجاح مخططاتهم الانقلابية، فاستمرت الحال بين مد وجزر الى ان حدثت حركة آذار مارس 1963 التي بدأ معها حكم البعث. يومذاك لعب صلاح دوراً مهماً إذ استولى على مكتب شؤون الضباط، وهو الذي تصدر عنه التعيينات وحركة التنقلات. ومن موقعه هذا تولى تطهير الكثيرين من الخصوم وتعيين الكثيرين من البعثيين. وتدريجاً راح يرتبط اسم صلاح في العهد الجديد بموقفين راديكاليين: اولهما انه الاشد حساسية حيال عبدالناصر ومؤيديه السوريين ممن استعان البعثيون ببعضهم لانجاح انقلابهم، ثم تخلصوا منهم على دفعات. وفي هذا المناخ تولى ضباط "اللجنة" سحق الانقلاب الناصري الذي قاده جاسم علوان في 18 تموز يوليو 1963، ما دفع عبدالناصر الى الغاء ميثاق الوحدة الثلاثية مع سورية والعراق البعثيين، لاعتباره ان البعث يناور ويسعى الى كسب الوقت. والثاني، انه كان اشد قيادات "اللجنة" حماسة الى أعمال المؤتمر القومي السادس وطروحاته اذ نادى ب "الاشتراكية العلمية" و"الحزب القائد" و"الجيش العقائدي". صحيح ان "اللجنة" التي لم تعرف بأي ود لعفلق وصلاح الدين البيطار، وافقت بعد انقلاب آذار على استخدامها واجهتين ورمزين تاريخيين، بما يتيح تجميع الحزبيين حول نظامها الجديد، لكن هذا لم يحل دون العمل سريعاً لتطويق نفوذهما وتأثيرهما، أكان ذلك في ما يتصل بفكر عفلق شبه الصوفي واستبداله بلفظية ماركسية مختلطة، أم بالتحالف مع شبان التنظيم المدني البعثي الذي عرف خلال عهد الوحدة بتنظيم "القطريين" السري، ممن رفضوا حل الحزب وتحفظواعن قيادته التقليدية. وبنتيجة المؤتمر هذا استقالت حكومة البيطار، واحتلت الواجهة الحزبية اسماء قادة القطريين كيوسف زعين وابراهيم ماخوس ونور الدين الأتاسي، وكلهم من اصدقاء صلاح الذي رقي هو ايضاً من عقيد الى لواء. نبش الارسوزي وفي الطريق الى السيطرة الكاملة على الحزب والسلطة، تمت خطوات عدة لم يكن اللواء العقائدي بعيداً عن أي منها. فقد بدأ نبش زكي الارسوزي ليقف ندا تاريخيا يناظر عفلق. الارسوزي كاتب صوفي من الاسكندرونه قاتل الاتراك الى ان احكموا سيطرتهم على اللواء في 1936 فانتقل الى دمشق وراح يبشر بالعروبة ولغتها وبعثها، حتى قيل انه هو صاحب فكرة "البعث" التي "سرقها" منه عفلق. كذلك ضربت وقصفت مدينة حماه المحافظة بذريعة تصفية الرجعية الدينية و"الاخوان المسلمين" وسائر الاعداء الطبقيين، فيما شهدت مطالع العام 1965 حركة تأميمات واسعة طاولت القطاع التجاري واقتصاد المدن. في هذا كله لم يكن صلاح في الواجهة التي منحت لضابط بعثي من حلب هو أمين الحافظ الذي سمي رئيساً لمجلس الرئاسة، لكن الحافظ الذي لم ينقل الى مصر إبان الوحدة، ولم ينضم تالياً الى "اللجنة"، اقتصرت سلطته على الخطابات العصماء و... التوقيع على ما يقرره صلاح ورفاقه. بيد ان انحياز الحافظ الى عفلق في لعبة الصراع على السلطة، فضلاً عن انحياز محمد عمران الذي افشى امر "اللجنة العسكرية" للقيادة القومية، جعل الصدام مسألة لا يمكن تجنبها. هكذا قضت القيادة القومية بحل القيادة القطرية التي يشغل فيها صلاح نيابة امانتها العامة، مكلفة البيطار تشكيل حكومة جديدة يحتل فيها محمد عمران حقيبة الدفاع، فما كان من صلاح ورفاقه الا ان بادروا بالانقلاب الذي نفذ في 23 شباط فبراير 1966. الحكم الفعلي لجديد مع هذا الانقلاب بدأ حكم صلاح جديد الفعلي، علماً ان منصبه بقي على حاله: الامين العام القطري المساعد. اما الواجهة الجديدة فكان رئيس الدولة، ابن العائلة الحمصية العريقة نور الدين الاتاسي. لكن ما انتهى بذلك لم يكن غير فصل واحد من فصول الصراع المديد على السلطة. صحيح ان الجميع في الحزب والجيش والجهاز الحاكم باتوا من "جماعة صلاح"، غير ان احد الطامحين الشبان في هذه الجماعة، وهو النقيب البعثي سليم حاطوم الذي لعب الدور الابرز في انقلاب 23 شباط، لم يكتم شعوره بالغبن اللاحق به في الجيش والحزب. وتعبيراً عن غبنه قاد اواخر 1966 تمرداً شاركه فيه اكثر من طرف في جبل العرب. وعندما توجه صلاح جديد الى السويدا للاطلاع على ما يجري وتهدئة الاوضاع، احتجزه حاطوم ولم ينقذه الا تدخل صديقه ورفيقه وزير الدفاع الذي يسيطر على القوات الجوية: حافظ الاسد. لكن الاسد، مع هذا، بقي ولاؤه مشروطاً، ويبدو أنه لم يشاطر جديد دائماً التفكير على الموجة نفسها. فهذا انما كان صعباً حقاً. حرب الشعب الطويلة الامد ففي ذاك العهد بدأ الكلام على حرب الشعب الطويلة الامد والتهيئة لالغاء دور الجيش ومنح الحرية المطلقة للمقاومة، وفيه أخضع البلد لكابوس امني لا يرحم، كما رقي الضباط البعثيون بلا حسيب فيما سرح غير البعثيين بوتيرة متعاظمة، وتتالت التأميمات حتى كادت سورية أن تفرغ من كل ما يمكن تأميمه، واستشرت حملة لا سابق لها على العائلات وابناء العائلات، فيما وجد الموظفون دخولهم تتآكل من دون ان تتوقف مطالبتهم بالتقشف عند حد. وفي ذلك العهد ايضاً انفجرت موجة الهجرة من الارياف الى المدن بكل مضاعفاتها الاقتصادية والديموغرافية، وكل حساسياتها الاجتماعية والطائفية. ولم يبق هناك من حليف كامل للنظام: حتى الاتحاد السوفياتي الذي اطمأن الى عداء دمشق ل "الرجعية والامبريالية"، خاف تطرفها وميلها الى المزايدة على السياسات العربية لعبد الناصر، في ظل قطيعتها شبه التامة مع غالبية الانظمة في المنطقة. ولئن عاد خالد بكداش الى بلاده يومذاك، وتم توزير شيوعي سميح عطية للمرة الاولى في سورية، كما اتفق مع موسكو على بناء سد الفرات، فان الحذر لم يفارق السوفيات حيال الميل التوريطي للنظام الذي يبالغ في الالحاح على حرب الشعب، وهو الميل الذي نجح في جر عبدالناصر الى سحب القوات الدولية واغلاق شرم الشيخ واستدعاء حرب الخامس من حزيران يونيو 1967. الاسد لم يكن موافقا هذه قضايا لم يكن وزير الدفاع موافقاً عليها كلها، لكن ما بدأ مهموساً به اصبح مكشوفاً بعد هزيمة الحرب المذكورة. فاللواء، يومذاك، حافظ الاسد وجد من غير المنطقي ان تنسب اليه هزيمة لم يكن مساهماً في السياسات التي افضت اليها. وتعددت اسباب الخلافات وتنوعت: فالاولوية، بحسب الاسد، ينبغي ان تذهب الى الجيش لا الى حرب الشعب، والى الجبهة الداخلية لا الى الصراع الطبقي، والى التنسيق العربي لا الى العزلة المتطرفة. ولم تعوز الشواهد حافظ الاسد: ففي آب اغسطس 1967 قاطعت سورية مؤتمر الخرطوم فقدم المؤتمر مساعدات مالية الى مصر والاردن وحجبها عن سورية. وفي تشرين الثاني نوفمبر انفردت دمشق عن القاهرةوموسكو في رفض قرار مجلس الامن 242. وفي 17 تموز 1968 فوتت فرصة تقارب مع العراق نجمت عن وصول البعث الى السلطة في بغداد. صحيح ان الذين وصلوا هم البعثيون الآخرون، الا ان الاعتبارات العقائدية والحزبية ينبغي ألا تحول، في رأي الاسد، دون درجة من التنسيق الممكن. وجاء المؤتمر القطري الرابع في ايلول سبتمبر 1968 ليعلن على الملأ ازدواجية السلطة وصراع القائدين رفيقي الامس: صلاح جديد وحافظ الاسد الذي لم يتباطأ في اتخاذ الاجراءات المناسبة ضد انصار جديد: من ابعاد احمد المير الى سفارة مدريد، الى ازاحة شقيقه عزت عن قيادة اللواء 70، وصولاً في شباط 1970 الى محاصرة عبدالكريم الجندي الذي... انتحر. بات من الواضح ان صلاح اضحى في موقع دفاعي، لا ينفعه فيه "الخط العقائدي الصائب"، إلا انه توهّم فك الحصار عنه بالمزيد من التصعيد ثورياً، غافلاً كلياً عن ان النظام الذي يرعاه مفلس ومكروه على الصعد كلها. وجاءت الخطوة القاتلة مع انفجار الحرب الاهلية في الاردن، بعد رفض دمشق والمقاومة الفلسطينية مشروع روجرز للسلام. فالتدخل العسكري البري للقوات السورية بقي مكشوفاً بلا غطاء جوي، ما اوقعه تحت النيران الاردنية. ودعا جديد الى مؤتمر طارئ للقيادة القومية الموالية لدمشق في 20 تشرين الاول اكتوبر "لمحاسبة الاسد"، فانعقد المؤتمر بعد يومين على وفاة عبدالناصر. وما ان انتهى المؤتمر الذي اكد خط صلاح ونهجه، حتى عاجل الاسد في 16 تشرين الثاني نوفمبر ب"الحركة التصحيحية"، مرسلاً رفيقه السابق الى سجن المزة وظل فيه حتى وفاته قبل أيام اعلن نبأ وفاته يوم الجمعة في 20 آب/ اغسطس.