العناصر التي أعدتها "الوسط" لفتح الحوار في ندوة الراديكالية واقتراح محاورها، تركت لدي الشعور بأنها تتضمن "مسلمات" اجدني مختلفاً مع الورقة بشأنها، فهي تنظر بتفاؤل او بقدر من الانشراح، الى ما تقرره من ان المصلحة الوطنية والروح العملية حلت محل الشعارات القومية والتوجهات الايديولوجية، وبهذا اقامت الورقة مفارقة بين امور اعتبرتها بدائل. كما انها قرنت الراديكالية بالقومية والايديولوجية. وأتصور انه طالما بقيت لنا ذاتية متميزة، وطالما بقيت لنا "أنا" فسيظل يظهر ما يسمونه ايديولوجية، وان من يقولون عن الغربيين انهم برئوا من الايديولوجيات، انما يقولون قولاً صادراً عن استقرار كبير لايديولوجيتهم، او لقومياتهم، وعن قيام الاطمئنان لديهم عنه اطمئناناً يسمح له بتجاوزها في النظر والتقدير، والحال انه لا يكثر الحديث عن امور كهذه الا اذا كانت هذه الامور مفتقدة واستعادتها مطلوبة، او كانت مزعزعة تحوط بها المخاطر. الايديولوجية في ظني، تتعلق بالفكرة "العقيدة"، اي الفكرة المعقودة في العقول والقلوب التي بها تتبلور الاطر المرجعية ومعايير الاحتكام، وبها يتحدد الموقف "الرسالي" للانسان، اي مثله وغاياته العليا، وبها تتشكل العروة الوثقى التي تخرج الانسان من فرديته وتدمجه في الجماعة، وتخرجه من حسياته وتصله بالدوافع المعنوية، وبها يتشكل الفارق الأساسي في تقدير سلوك الانسان بين الموقف "الارتزاقي" والموقف "الرسالي" وأقصد بالموقف الارتزاقي من يؤدي عمله او يبذل نشاطه من اجل العائد المادي الحسي وحده، والموقف الرسالي من يؤدي ذلك ليحقق فكره. وأتصور ان وصف القومية والايديولوجية بالشعارات، والحاق الراديكالية بها، ووضع ذلك كله في مقابل الروح العملية والمصلحة الوطنية، اتصور ان هذه الصياغة لا تخلو من تحيز، وهي تضع للحوار لغة ليست مسلمة ولا مصطلحاً عليها، ان القومية مثلاً هي معيار تصنيف للجماعة السياسية، سواء كانت ذات اساس ديني حضاري او لغوي تاريخي او عرقي قبلي او غير ذلك. ومفهوم "المصلحة" الذي يوضع بالمقابلة والمجانبة مع القومية والايديولوجية، لا بد هو ذاته ان يقترن بمن تنسب له المصلحة، وهو ان استقل بذاته لصار "ايديولوجية"، فاذا قرناه فانما نقرنه بجماعة، وهذا يحتاج الى معيار تتحدد به هذه الجماعة، وهذا ما فعلته ورقة الحوار ذاتها، فقد قرنت المصلحة بالوطنية، وهي ما دامت فعلت، وكان لا بد ان تفعل، فقد دخلت في مجال التصنيفات والقوميات والايديولوجيات، لانها نسبت المصلحة الى ذات والى وحدة من وحدات الانتماء، وتعلقت المصلحة بضرورة الجماعة. لقد كان فقهاء الشريعة الاسلامية من البصر والعمق بحيث لم يقيموا هذه المقابلة والمواجهة بين المصلحة وبين الايديولوجية، ووضعوا الايديولوجية في جوف المصلحة، لأن المصلحة تتمثل لديهم في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ووضع الدين هنا بحسبانه المقوم للجماعة، وبهذا المنطق لا تقوم المواجهة ولا المجانبة بين المصلحة وبين القومية والايديولوجية. وبهذا النظر ندرك اننا عندما نتكلم عن الجماعة السياسية، فطرية كانت او قومية او دينية، وعندما نناقش قضايا الايديولوجية، لا نبتعد عن المصلحة الوطنية ولا عن الروح العملي، بل نكون نوغل في الصميم من درك المصالح. وبصرف النظر عن التفاصيل فان امامنا ثلاث مشاكل اساسية وكلية، اذا احتضناها في اذهاننا وقلوبنا، فاننا سننظر الى كل وقائع السنين الاخيرة التي تعرضت لها الورقة، سننظر الى هذه الوقائع في اطارها النسبي وفي ملابساتها التاريخية. هذه المشاكل الاساسية هي الآتية: نحن، اولاً، في وضع تابع، نحن جميعاً هكذا، كل ما يعنيه الضمير "نحن" بالنسبة الينا يجعلنا في وضع التبعية، سواء صدق هذا الضمير بوصفنا عرباً قوميين او مسلمين او افريقيين آسيويين. وتاريخنا من القرن التاسع عشر هو تاريخ صدامنا مع قوى طامعة او مسيطرة. ومنذ القرن العشرين صار تاريخنا هو تاريخ صدامنا من اجل التحرر من التبعية، والمرحلة لم تتم بعد فصولاً، والتبعية بدأت مع أوائل القرن التاسع عشر معارك عسكرية كانت تنتهي بهزيمتنا او تكشف عن ضعفنا، وتؤدي في الحالتين الى مزيد من التدخل السياسي والاقتصادي والفكري في بلادنا، وأعقب ذلك مرحلة الاحتلال العسكري لبلادنا التي شغلت الربع الاخير من القرن الماضي والربع الاول من هذا القرن، ومع ظهور حركات التحرر استعيض عن السيطرة العسكرية بالهيمنة الاقتصادية والفكرية، وهذا ما آلت اليه اوضاعنا في هذه الحقبة. المهم من ذلك كله ان ادوات التبعية التي تستخدم مجتمعة او منفردة او بمقادير متباينة تتناسب مع ظروف كل مكان وزمان، هي التفوق العسكري كقوة ضاربة او رادعة، والسيطرة الاقتصادية والهيمنة الفكرية الحضارية. ونحن، ثانياً في وضع تجزئة يفسد اية محاولة يقوم بها احد بلداننا لتحقيق نهوضه او المحافظة على استقلاله، او نفض رباط التبعية. والتجزئة السياسية جرت على مدى القرنين الاخيرين، وهي الوجه الآخر لظاهرة التبعية وقد الحقت بلادنا بروابط التبعية قطراً قطراً، سواء في اطار البلدان العربية او البلدان الاسلامية. والملاحظ ان حركة الالحاق الاستعماري فرضت التجزئة، ولكن حركة الاستقلال السياسي المناهض للاستعمار لم تستطع ان تفرض الوحدة، لانها، وان اقامت حكومات وطنية، لم تستطع ان تقطع وثاق التبعية تماماً، فعلى مستوى العروبة وحدها صرنا اثنتين وعشرين دولة، اي اثنتين وعشرين قطعة. وخبراء العسكرية يجزمون بأن الامكانات الكاملة لأي من اقطارنا لا تمكن من بناء نظام دفاعي كامل له، وان الامن القومي لكل من اقطارنا يمتد الى خارج حدوده الاقليمية، ونحن نعلم انه لا مشروع وطنياً من دون امن قومي. وخبراء الاقتصاد منا يستبعدون امكان حدوث نهضة اقتصادية مستقلة في الاطار الاقليمي لأي من هذه الاقطار، ونحن نعلم انه لا استقلال في السياسة من دون الاستقلال في الاقتصاد، ومهما تكن وطنية الحاكمين فان المحددات الاقتصادية والعسكرية على ارادتهم السياسية لا تمكنهم من اطلاق المشيئة الوطنية الى المدى الذي يريدون. ان التجزئة سوّت بيننا في التبعية، وكما ان الفقير يرسف في فقره فان الغني يرسف في غناه، وكما ان كثير السكان فينا يعاني من كثرة السكان، فان قليل السكان يعاني من قلة السكان، وهكذا فان كل عنصر من عناصر وجودنا وضع بالطريقة التي تجعله عنصر اضعاف وليس عامل قوة. ونحن، ثالثاً، نشكو من صراع هائل في حياتنا العسكرية ورؤانا الحضارية، وهو صراع لا يشق المجتمع شقين فقط، ولكنه يكاد ان يشق الفرد الواحد شقين. وكما ان التجزئة فصلتنا جغرافياً عن بعضنا البعض، فان هذا الصراع فصلنا وجدانياً حتى كادت الامة الواحدة أن تصير أمتين. هذا هو الصراع الذي يقوم بين ما اصطلح على تسميته بالموروث والوافد، او التراث والمعاصرة، ويبدو ذلك واضحاً في مؤسسات التعليم والقوانين والقضاء، حيث يقوم بيننا نظامان وأصول للشرعية وأطر مرجعية، منها ما هو منحدر من التصور الاسلامي الذي كان يشمل مجتمعاتنا حتى العصر الاخير، ومنها ما هو وارد من فلسفات الغرب ورؤاه. ان مجتمعنا يشكو من هذا الازدواج في اطره المرجعية وأصول الشرعية النافذة فيه، وان قواه تنهد بقدر ما يقوم الصراع بين شقيه هذين، يمكن ان نتفق في السياسة والاقتصاد، ولكن في ميدان الفكر والرؤى الحضارية فان البون شاسع والبأس شديد، وفي هذه الجبهة يقوم وضع حربي حاد بين قوى الجماعة. وحكمت الحرب الفكرية كل القضايا الاخرى خصوصاً خلال السنوات الخمس الاخيرة، وتتوحد قوى الفكر الوافد في مواجهة قوى الفكر الموروث، بصرف النظر عن الموقف السياسي والاقتصادي الوطني. ان القوى الوطنية العلمانية او المدنية كما شاءت ان تسمي نفسها في الآونة الاخيرة لم تعترف بعد بأن دعاوى الاستقلال لا تقوم في مجال السياسة والاقتصاد فقط، ولكنها تقوم بقوة متكافئة في مجال الاصول الفكرية والحضارية التي تستمد منها الجماعة ادراكها لذاتها المتميزة عن غيرها كما تستمد منها شرعيتها الضابطة لحركتها ومعايير الاحتكام التي تقيس بها الصواب والخطأ، والصالح والضار، ومعنى الوطنية الحافظ للذات. ان كل ما يتخلل هذه الملامح هو وقائع نهوض وانتكاس ومحاولات كر وفر لم تنتهِ بعد بحسم، سواء كان هذا الحسم نصراً كاملاً او هزيمة تامة. ومن المؤكد عندي ان وقائع السنوات القليلة الاخيرة لا يتشكل بها امر حسن من اي نوع، لقد مر علينا في المئتي عام الاخيرة ألوان وألوان من نوع ما يمر بنا في السنين الاخيرة، ولكن النَفَس لا يزال يتردد والعرق لا يزال ينبض ومحاولات النهوض لا تزال متتابعة، والفشل العشرون لم يعقنا عن المحاولة الاحدى والعشرين. * مؤرخ ومفكر اسلامي مصري.