الانكليز يعشقون احياء عناصر التاريخ. انظر في ذلك طقوس افتتاح البرلمان، وتغيير الحرس الملكي، وملابس ذلك الحرس، ومراسم احتفالهم في ايار مايو من كل عام بيوم ضحايا الحرب العالمية الاولى الذي تشارك فيه الملكة والحكومة والجيش والشعب بوضع زهور حمراء على نصب تذكاري اقيم للمناسبة. ولكن دع جانباً كل هذه التفاصيل، وانظر معي الى مشروع اعادة بناء مسرح شكسبير القديم على ضفة النهر التايمز، بناء على الطراز المعماري القديم نفسه وفي الموقع ذاته. ومسرحا شكسبير، القديم والجديد، يحملان اسم "غلوب" اي الكوكب، او الكرة الارضية. وقد ولد شكسبير بعد ستين سنة من اكتشاف اميركا، وتدفق الهجرة اليها، وشيوع التعلق بفكرة العالمية او الكونية، فكان لهذا الاسم جرسه المؤثر. وربما عاد اليوم لتسمية الجرس المؤثر نفسه بعدما اصبح الناس جميعاً يرددون ان الدنيا يشملها نظام عالمي واحد وجديد، وان كوكب الارض اصبح مجرد قرية واحدة كبيرة. فكرة اعادة بناء مسرح شكسبير الاصلي، يعود فضل اطلاقها الى مبادرة ممثل اميركي، انكليزي الاصل، لم ينل شهرة كبيرة اسمه سام واناميكر. اعتزل واناميكر العمل في هوليوود وانشأ في لندن "صندوق خيري ثقافي لمسرح غلوب" منذ اثنين وعشرين عاما، واستطاع ان ينال لمشروعه دعم دوق ادنبرة زوج الملكة الامير فيليب، وسير جون غيلغود عميد فناني المسرح وسير انتوني هوبكنز ممثل المسرح القومي الحائز على اوسكار عن دوره في فيلم "صمت الحملان" والنجمة دايانا ريغ واهل الخير ومحبي فن شكسبير الذين جمعوا للمشروع سبعة ملايين جنيه استرليني وما زالوا يحتاجون الى مليونين اخرين لانهاء العمل، وافتتاح المسرح في عيد ميلاد شكسبير الثلاثين بعد الاربعمئة، الذي سيحتفل به العالم خلال العام المقبل. وكان مسرح شكسبير القديم احترق عام 1613 عندما دوى صوت انفجرا مدفعي اصطناعي من المفروض انه يصاحب دخول احد الممثلين الى المنصة، فإنطلقت من الة الصوت شرارة بارود اشعلت الستائر واحدثت في المسرح حالة هرب هستيري، فلم يتوقف احد لاطفاء النار الصغيرة التي انتشرت على هواها والتهمت المسرح تماماً. واللافت في الامر ان المسرح الجديد يتم بناؤه طبق الاصل على طراز المسرح القديم، بمواد بناء مصنعة خصيصاً على الطريقة القديمة، كما كانت تصنع في اول القرن السابع عشر واخر القرن السادس عشر: الطوب والمونة اللاصقة للطوب والاخشاب… كما سيتم بناء المسرح بشكل دائري، وقطر دائرته مئة قدم طبقاً للمقاييس الاصلية للمسرح القديم. وسيظل المسرح مكشوفاً كما سيمنع استخدام التكنولوجيا الحديثة فيه: لا بروجكتورات او مصابيح مسرحية ولا موسيقى مسجلة. كما سيكتفي المسرح بكتابة لافتة في كل منظر تدل على مكان وقوع الاحداث، دون الاستعانة بالديكورات والرسوم والايهام بالمكان، كما كان يفعل الممثلون ايام شكسبير. وسيتسع هذا المسرح الصغير نسبياً لألف مقعد، وخمسمئة متفرج واقف! كما سيجري التمثيل نهاراً وفي ضوء الشمس على الطريقة المتبعة ذلك العهد. وما فائدة المناظر وهندسة الاضاءة والايهام؟ ان شكسبير، وفرقته الاصلية كانوا يلقون كل العبء على عاتق الممثل وقدراته التعبيرية، وعلى عاتق الشعر وتأثيره السحري في الايهام، وعلى عاتق المتفرج الذي يستدعي مخيلته ويستمتع بتنشيطها! وقد تساءل النقاد حول هذا الاسلوب في المعمار، الم يكن شكسبير ليحتفي بالامكانات الحديثة للمسرح لو انه عاصرنا وولد في زمننا الحديث؟ شكسبير، عرف بحب الحداثة، وبمساهمته الكبيرة في تحديث المسرح، فأي اعتبار يملي على اصحاب المشروع بناء المسرح بهذا الاسلوب المتحفي والاثري، وكأنه يُبنى كأثر من الاثار لا كمسرح حي؟! وقد قيل في الرد على هذا الطرح، ان لندن فيها مسارح من كل الاشكال واساليب المعمار: مسارح على الطراز الايطالي المألوف، ومسارح دائرية على الطراز الروماني، ومسارح الحديقة… فلماذا لا يكون فيها مسارح على الطراز الشكسبيري؟ وقالوا ان المسرح الجديد - القديم، ليس الهدف منه اعادة انتاج مسرحيات شكسبير طبق الاصل كما كانت تنتج ايام شكسبير، انما الغرض منه ان يجرب الفنان المعاصر - المخرج والممثل - وضع ابداعه في الظروف المسرحية القديمة واستحداث وسائل للتعبير، تُغني عن الآلية الحديثة والاطار الفني الحديث، وتعوض عن غياب هذه العناصر بأدوات التعبير البشرية الاصيلة. هذه النظرية الفنية، طالما ناقشناها في الندوات والمؤتمرات، وعلى صفحات الجرائد والكتب، ولكن لم يخطر ببالنا ابداً انها ستناقش بطريقة كلفتها تسعة ملايين جنيه استرليني! وفي موقع العمل، سترفع صورة عملاقة لشكسبير، كتبت تحتها عبارة "ساعد على بناء مسرح غلوب". كما ستبنى منصة كي تطرح فوقها هذه الجدلية المسرحية، وكي يتم اختبار تجربة المسرح بلا اضواء او مناظر، حيث نصف المشاهدين جالس، ونصفهم الآخر واقف او متجول… اما اذا امطرت، فلا مفر من البلل، الا لمن خطر بباله ان يحضر مظلة تقيه غضب الطقس. اذا احببت مشاهدة المسرح على هذا الشكل، فأهلاً وسهلاً، واذا لم تحب، فعندك مسارح اخرى من كل الاشكال في المدينة، اختر منها المعمار الذي يعجبك. اما اذا كنت مثلي، فستسأل ما سر هذا الغرام الانكليزي بإحياء عناصر التاريخ، في كل مكان ما يذكر الناس بالماضي، وكل بيت سكن فيه احد المشهورين، هناك لافتة تشير الى اسم الذي سكن ذلك البيت وصفته. وفي لندن مئات المتاحف الصغيرة والكبيرة ولكن ما سر غرام الانكليز بإحياء عناصر التاريخ في احتفالاتهم القومية والسياسية، والطقوس الملكية والبرلمانية، وحقيبة وزير المال التي يحمل فيها الموازنة الى البرلمان منذ اربعة قرون، وتبدو دائماً في الصورة او في التلفزيون بالية الاركان متهالكة، كلما لوّح بها وزير المال البريطاني للصحافيين فخوراً، ولسان حاله يقول: "الموازنة هنا ومهما كانت مطابقة الايرادات على المصروفات صعبة او تبدو للسذج مستحيلة، فهي عندي تطابقت!". ها هي الحقيبة القديمة كالمسرح القديم، قد صار احياؤه ليشاهد الناس مسرحيات شكسبير في ظروف تلك الايام الغابرة، ويستمتعون بهذا الغرام البريطاني بالعناصر التاريخية. ودعنا نحن نتعجب من ان انكلترا المحتفية بالتاريخ لا يزيد تاريخها المعروف جيداً في الواقع على الف سنة او ربما اقل. ولعل هذا هو السبب، فإفتقاد الشماء يدعو الى اشتهائه! او ربما كان الحضور الدائم للتاريخ نوعاً من التربية الشعبية التي تؤكد في النفوس الشعور بالوطنية، وحب الولاء والعزة القومية، والاخوة المدنية. وربما كانت تنمية المشاعر التاريخية ايضاً، وسيلة لتأكيد الهوية ونفي اي مشاعر بالاغتراب، في دنيا مجنونة بالتقدم التكنولوجي السريع، وما يترتب عليه من تغيير مستمر في طريقة الحياة وتباعد الفجوة بين الاجيال في طريقة النظر الى الدنيا والحياة. في الغرب المتقدم ازمة اغتراب معروفة ومذكورة، فهل كان احياء عناصر التاريخ ترياقاً وعلاجاً لهذه الازمة النفسية والقومية، او بعضاً من هذا العلاج وعنصر توازن للشخصية الفردية والجماعية؟ اسئلة وراء اسئلة… ولكن، هؤلاء قوم عمليون، طرحوا السؤال بتكلفة قدرها تسعة ملايين جنيه، والافتتاح يوم الرابع والعشرين من نيسان ابريل 1994. وسنرى ما يقول النقاد والمشاهدون. وغداً لناظره قريب.