قدرت الموازنة العامة الايرانية العائدات النفطية للعام المالي الجديد الذي بدأ في 21 آذار مارس الماضي بحوالي 17 مليار دولار، وهو رقم يقترب كثيراً من التقديرات التي كانت قائمة العام الماضي، 17 - 18 ملياراً استناداً الى التوقعات المتعلقة بأسعار النفط في الاسواق العالمية من جهة وقدرة ايران على زيادة طاقتها الانتاجية، وهي مسألة ما زالت موضع شك واسع في الاوساط النفطية الدولية. ويمثل رقم 17 مليار دولار الخط الاحمر الذي لا تستطيع ايران تجاوزه هبوطاً بسبب ضخامة ديونها الخارجية وارتفاع قيمة فاتورة الاستيراد من الخارج لتوفير الحد الادنى من السلع والمواد الاساسية في اسواقها المحلية للحد من تفاقم الشكوى المتزايدة. الا ان ثمة شكوكاً واسعة في امكان تحقيق عائدات نفطية تبلغ 17 ملياراً، لاعتبارات عدة، ابرزها استمرار التقلبات الحادة في اسعار النفط العالمية، وفشلها في بلوغ المستوى الذي كانت منظمة الدول المصدرة للنفط "اوبيك" حددته سابقاً كسعر هدف، هو 21 دولاراً للبرميل. الى ذلك، فان شكوكاً واسعة ما زالت تحيط بالتوقعات حول تحسن الطلب في الدول الصناعية بسبب استمرار مستويات النمو عند معدلاتها الحالية، خلافاً للتقديرات التي كانت توقعت ان يتجاوز النمو في الدول العربية معدل 3 في المئة في العام الجاري. كذلك، فان احتمال عودة الصادرات النفطية الى العراق ما زال عنصراً ضاغطاً على حركة الاسعار التي قد تشهد انخفاضاً مؤكداً مع مباشرة بغداد ضخ ما قد يصل الى 15 مليون برميل حداً ادنى يومياً. في حين ان النمو المتوقع في الطلب العالمي في الفصلين الثالث والرابع من هذا العام قد لا يزيد عن 400 الف برميل اعتباراً من تموز يوليو المقبل و800 الف برميل في اواخر ايلول سبتمبر المقبل استعداداً لفصل الشتاء في اوروبا الغربية والولاياتالمتحدة. وثمة اعتبار آخر يضغط على حركة الاسعار ويتمثل في نجاح روسيا الاتحادية في اعادة تنشيط انتاجها النفطي من خلال المساعدات التي حصلت عليها من الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الاخرى، وهو برنامج يعطي اولوية كبرى لتحسين الانتاج النفطي في هذا البلد الذي كان الى سنوات خلت أكبر منتج للنفط في العالم. والمشكلة الضاغطة التي تعاني منها ايران، قد لا تكون فقط في تحقيق عائدات نفطية متواضعة، بقدر ما تكون في تضخم فاتورة الديون الخارجية وارتفاع حجم الطلب الداخلي على السلع والمواد المستوردة. وبالفعل، فقد بلغ حجم الديون المترتبة على ايران حتى الآن 30 مليار دولار، من اصلها بين 7 و8 مليارات دولار مدفوعات مستحقة في الوقت الحاضر. كما اوقفت مؤسسات التمويل الدولية تعاملها مع ايران، من خلال رفع الغطاء عن القروض والصادرات الى هذه البلاد، وفشلت الاتصالات التي اجرتها القيادة الايرانية مع دول مثل فرنسا والمانيا والنمسا لاقناعها باستئناف ضخ القروض وضمان الصادرات، مع تزايد القيود التي تلجأ اليها المصارف عادة اثناء التعامل مع دول ذات مخاطر تسليف عالية. وتحتاج طهران الى استيراد ما تزيد قيمته عن 6 مليارات دولار سنوياً لتغطية حاجات اسواقها المحلية من السلع والمواد الغذائية، على رغم الزيادة التي بدأ تطبيقها اعتباراً من آذار مارس الماضي على الرسوم الجمركية. وجاء ارتفاع فاتورة السلع المستوردة، في الوقت الذي سجل فيه القطاع الزراعي تراجعاً واضحاً وعجزاً عن تلبية احتياجات شعب يزيد تعداده عن 60 مليون نسمة، وبمعدل زيادة سنوية تصل الى 5،3 في المئة. وكان من المقدر ان تؤدي سياسة تحرير واردات السلع والمواد الاولية الى تنشيط القطاع الصناعي وتحسين مستوى الاكتفاء الذاتي، الا ان تزايد القيود الخارجية على التعامل مع ايران، ثم القرارات المتضاربة على المستوى الحكومي، كل هذه الاعتبارات دفعت المستثمرين والصناعيين الى التحول الى العمليات التجارية القصيرة الأجل. وبدلاً من ان يسعى المستثمرون الى اعادة تنشيط القطاع الصناعي تحولوا في ظل الاجراءات المتضاربة والمتناقضة الى مجرد تجار يحاولون الافادة من ارتفاع الطلب المحلي على السلع المستوردة. وتجمع تقديرات متطابقة على ان القرض الذي حصلت عليه طهران اخيراً من البنك الدولي لن يكون البديل عن الحاجة الايرانية الى صندوق النقد الدولي لمساعدتها على اعادة جدولة ديونها المستحقة. في اشارة الى ان طلب المساعدة من صندوق النقد يعني عادة التزام الدول التي تطلب المساعدة تحقيق اصلاحات اقتصادية محددة وفق برنامج زمني متفق عليه. وكانت طهران باشرت مفاوضات مع صندوق النقد منذ حوالي السنتين، الا ان هذه المفاوضات لم تؤدِ حتى الآن الى اتفاق مقبول من الطرفين. ومن غير المتوقع ان تنجح الحكومة الايرانية الحالية في تحقيق تقدم على هذه الجبهة، لسبب بسيط، هو ان الانتخابات العامة في البلاد ستجري في حزيران يونيو المقبل، وسيكون شبه مستحيل على اي طرف سياسي في الداخل الاقدام على اجراءات اقتصادية لا تحظى بقبول الناخبين، وهي السمة التي تتسم بها عادة الاجراءات التي يفرضها صندوق النقد. ويقول خبير اقتصادي ايراني، ان هامش المناورة امام الحكومة الايرانية محدود جداً، لا بل معدوم. فالاصلاحات التي اقرت اخيراً لتوحيد اسعار صرف العملة غير كافية. وليس امام الحكومة سوى اعتماد برنامج متكامل للاصلاح، يبدأ بتقليص معدلات التضخم القائمة حالياً والتي بلغت 50 في المئة العام الماضي، اي ما يزيد بنسبة 20 في المئة عن الارقام التي اعلنتها الحكومة، ويوفر فرصاً اضافية لزيادة الاستثمارات الصناعية والزراعية لاستيعاب ملايين العاطلين عن العمل، وتشجيع القطاع الخاص من خلال زيادة الحوافز والتسهيلات وحتى الضمانات التي تحتاجها الرساميل. عندما انتهت الحرب مع العراق، كان ثمة شعور عام بأن الازمة الاقتصادية التي ضغطت على البلاد، شارفت على نهايتها، الا ان الخسائر التي اصابت قطاع النفط والفوضى الاقتصادية واستمرار فقدان الاستقرار السياسي، كلها عناصر دفعت الى ترسيخ الشعور بأن الانهيار الاقتصادي لم ينته فعلياً، لا بل هو مرشح للتوسع. ويقول احد تجار السجاد في تبريز، المدينة المشهورة بهذا النوع من الصناعة: عندما انتهت الحرب مع العراق على فداحتها ظن الجميع ان ايران ستكون مشغولة بهمومها الداخلية، وتسوية مشاكل الشعب الذي تقل اعمار 06 في المئة من افراده عن 20 سنة. الا ان السنوات الخمس الماضية، اظهرت ان احلام الناس كانت مجرد سراب. فسياسة "تصدير الثورة" مستمرة، وايران تتحول مجدداً الى ترسانة عسكرية. وقد لا يكون المثال العراقي بعيداً.