حدث في مدينة تومسك الواقعة في سيبيريا انفجار في 6 نيسان ابريل الماضي، سجلت على أثره الاجهزة الحساسة ارتفاع مستوى الاشعاع على مساحة تزيد عن 200 كلم مربع. وبعد ساعة من ذلك ذكرت الاذاعة المحلية ان عطلاً حدث في مصنع ضخم لانتاج البلوتونيوم للقنابل النووية ودبّ الذعر في المدينة التي يبلغ عدد سكانها 500 الف نسمة وفيها مصانع حربية. وعندما ظهر في الشوارع اناس في الاقنعة الواقية ومعهم عدادات غيغر لقياس الاشعاع النووي ازدادت الاشاعات عن ان كارثة نووية حدثت في تومسك تضاهي في ابعادها تلك التي حدثت في تشيرنوبيل سنة 1986. وعلى رغم تطمينات السلطات المحلية بأن ارتفاع الاشعاع لم يخرج عن نطاق الحدود المسموح بها، بدأ الكثيرون من السكان يسارعون الى اخراج اولادهم من المدينة وهجم الألوف غيرهم على الصيدليات لشراء المستحضرات المحتوية على اليود والتي، كما يعتقد، تمنع من تراكم الاشعاع في جسم الانسان. وتبين ان الذعر لا داعٍ له. وسرعان ما اكد خبراء الوكالة العالمية للطاقة النووية صحة معطيات السلطات الروسية التي تقول ان الحادث النووي في تومسك لا يتعدى ثلاث درجات من المقياس الدولي ذي السبع درجات، مع ان كارثة تشيرنوبيل قدرت بسبع درجات. واتضح فيما بعد ان سبب العطل اهمال الموظفين والعاملين الذين لم يستطيعوا التحكم بالارتفاع الحاد للضغط في الحاوية التي تضم حوالي 20 متراً مكعباً من محلول الاورانيوم والبلوتونيوم، مما ادى الى انفجار الحاوية وخروج جزء من المواد المشعة الى الجو. ومع ذلك لا يزال الكثيرون من سكان تومسك لا يصدقون تقديرات الخبراء المتفائلة ويرون ان السلطات تخفض عن عمد مستوى الخطر الحقيقي. ويذكر الناس جيداً في هذه المدينة التي تجمع فيها اليوم ملايين الامتار المكعبة من الفضلات المشعة كيف حدث في هذا المصنع نفسه سنة 1990 تسرب للاشعاع نقل بنتيجته الى المستشفيات 38 شخصاً تلقوا جرعات مختلفة من الاشعاع. فالصحافة آنذاك لم تذكر شيئاً عن هذا كما احيط بجو من الكتمان انفجار مماثل لحاوية فيها مواد مشعة حدث في مدينة تشيليابينسك سنة 1977. لم تكن وسائل الاعلام في الاتحاد السوفياتي السابق تنشر اية معلومات عما يجري في البلاد من اعطال ضخمة او كوارث بيئية وعاش سكان الامبراطورية الشيوعية عشرات السنين وهم على يقين تام بأن انقلاب القطارات عن الخط او حوادث الطائرات لا تحدث الا في الغرب الرأسمالي، وكانوا يعتزون بأن شيئاً من هذا لا يمكن ان يحدث في بلادهم. وكان يغرس في ذهن كل مواطن منذ نعومة اظفاره ان بلاده تنتج أجود السيارات وأحسن الطائرات، ولم يكن يجرؤ الا القلائل على السخرية بهذه الخرافات الدعائية قائلين، من باب المزاح، ان البطيخ السوفياتي هو الاكثر حمرة في العالم وان الساعات السوفياتية هي الاسرع. وكان تصور المواطنين بأن صناعة الطاقة النووية السوفياتية هي الاكثر امناً. بعد الحرب العالمية الثانية انشئت في الاتحاد السوفياتي مراكز عدة لها صلة بالبحوث النووية وبانتاج السلاح النووي. ويعمل في هذه المراكز حالياً اكثر من 100 الف خبير كفء، ويزيد مجموع عدد سكان هذه "المدن النووية" السرية على نصف مليون نسمة. ولعل هؤلاء الناس هم الوحيدون في البلاد الذين لم تكن لديهم اوهام بصدد مكر "العفريت النووي" الذي حاول منذ السنين الاولى من صناعة الطاقة النووية السوفياتية الخروج من القمقم. وأصبح من المعروف الآن ان حادثة تشيرنوبيل التي تعتبر اكبر كارثة بيئية في التاريخ سبقتها حادثة نووية خطيرة من حيث ابعاد نتائجها وقعت في سنة 1957 في مصنع انتاج البلوتونيوم اللازم للأسلحة في مدينة تشيليابينسك في الأورال. فبنتيجة انفجار في مستودع الفضلات المشعة تشكلت في الجو غيمة احتوت كمية كبيرة من السترونسيوم الذي اصاب بالاشعاع منطقة مساحتها 23 الف كلم مربع وفيها 217 قرية وبلدة. وسعياً الى اخفاء هذه الكارثة النووية الرهيبة في الاورال عن الرأي العام العالمي لم تبلغ الحكومة السوفياتية بما حدث حتى سكان المناطق التي تعرضت للاشعاع، ومن اصل 437 الف نسمة اصيبوا بالاشعاع تم اجلاء اقل من 18 الف شخص من سكان اربع قرى كانت الاكثر تضرراً. ولم يوزع على الجنود الذين استدعوا لازالة الاشعاع من المنطقة من وسائل الوقاية الا ضمادات من الشاش وأصيب بعضهم بالاشعاع وماتوا فيما بعد موتاً بطيئاً على مدى سنين طويلة من دون ان يجرؤوا على اعلان سر الدولة الرهيب. وأحيطت بستار كثيف من الصمت ايضاً مأساة اخرى حدثت في المنطقة نفسها على ضفاف بحيرة قرة تشاي التي كانت تستعمل كمستودع للفضلات المشعة السائلة. وبسبب الجفاف الذي حدث سنة 1967 نثر الهواء جزيئات من التربة على مسافة 50 - 70 كلم، مما ادى الى اصابة اكثر من 40 الف شخص بالاشعاع. وفي الوقت الذي كانت فيه حياة الألوف من البشر يضحى بها من اجل التوصل الى التوازن النووي مع الولاياتالمتحدة شاهد ملايين الناس في دور السينما السوفياتية فيلم "تسعة ايام من سنة واحدة" الذي حاز الاعجاب في الستينات وبكوا لمأساة العالم الفيزيائي الشاب الذي اصيب عرضاً بجرعة عالية من الاشعاع اثناء التجارب العلمية. حوادث نووية في ذلك الحين كانت صناعة الطاقة النووية السوفياتية عرفت اعطالاً خطيرة عدة، ولكن لم ينشر نبأ اي عطل منها. فقد كان الاهتمام بحفظ ماء الوجه يغلب دائماً عند قادة الكرملين على الاهتمام بالناس الاحياء، وربما لهذا السبب حاولت موسكو للوهلة الاولى اخفاء انفجار تشيرنوبيل الرهيب الذي اثار ارتفاعاً في مستوى الاشعاع في فنلندا والسويد وبلدان اوروبية اخرى. ولم تضطر السلطات السوفياتية، الا تحت ضغط الوقائع التي لا تدحض، الى الاعتراف بأن انفجاراً لا سابق له حدث فعلاً في معمل نووي في تشيرنوبيل، مع ان المصادر السوفياتية الرسمية ظلت مدة طويلة تسعى الى التقليل بكل الطرق من الاهمية الحقيقية لما حدث، مؤكدة للرأي العام العالمي ان الحكومة اتخذت كل الاجراءات الضرورية لضمان امن سكان المناطق المنكوبة. ولكن يتبين الآن مع ذلك ان كل تلك التأكيدات كانت مجرد اقوال فارغة قيلت لتضليل الرأي العام العالمي. فحتى الآن لا يزال يسكن في 16 منطقة منكوبة بحادثة تشيرنوبيل مليونان و300 الف نسمة ولا يتلقى العلاج الآن الا 400 شخص من اصل 400 الف شخص اصيبوا مباشرة بالاشعاع. في نيسان ابريل الماضي عرفت للمرة الاولى ملابسات العطل الذي حدث في الغواصة الذرية السوفياتية ك - 3 التي غرقت في البحر الابيض المتوسط سنة 1967. فقد كشف المعاون السابق للقبطان الكسندر ليسكوف الذي نجا من الكارثة باعجوبة ان الحريق الذي شب في الغواصة المحتوية على اسلحة نووية كان فعلاً يشكل خطراً عظيماً على بلدان حوض البحر المتوسط. وقال ليسكوف: "كنت ادرك حق الادراك ان نصف اوروبا سيتضرر حتماً اذا انفجرت الطوربيدات". ولم يكن غرق الغواصة ك - 3 الأول ولا الاخير. وأكثر ما عرف في العالم هو غرق الغواصة الذرية "كومسوموليتس" في مكان غير بعيد من سواحل النروج في 7 نيسان ابريل 1989، مع انه حسب معطيات منظمة "غرين بيس" الدولية المدافعة عن الطبيعة حدث في الفترة الممتدة من 1956 حتى 1993 في الغواصات الذرية السوفياتية 126 عطلا خطيراً أودى بحياة اكثر من 500 بحار. ولكن المسألة ليست فقط في ان الاعطال التي تحدث في الغواصات الذرية قد تؤدي الى انفجار القذائف النووية انفجاراً يعادل تشيرنوبيل جديدة في اية نقطة من العالم، ولكن ايضاً في ان الغواصات الغارقة تصبح مصدراً كامناً لنشر الاشعاع في المحيطات العالمية التي هي حتى من دون ذلك مشبعة كثيراً بفضلات الوقود النووي الذي ينسكب فيها من الغواصات الذرية منذ عشرات السنين. ويجب القول، لوجه الحق، ان الاولوية في تلويث المحيطات العالمية بالاشعاع ليست للاتحاد السوفياتي بل للولايات المتحدة. ففي سنة 1946 اغرق الاميركيون للمرة الاولى حاويات عدة لفضلات مشعة في احدى نقاط المحيط الهادئ. وسرعان ما حذت حذو الاميركيين بريطانيا وزيلندا الجديدة واليابان. ولم يأتِ دور الاتحاد السوفياتي الا في سنة 1959 عندما انسكب في البحر الابيض، اثناء تجارب احدى الغواصات الذرية، 600 متر مكعب من الفضلات المشعة. المافيا النووية وفي سنة 1965 اصدرت قيادة سلاح البحر السوفياتي تعليمات تسمح بسكب الماء من مفاعلات الغواصات الذرية في البحر وباغراق الفضلات المشعة الصلبة من دون وقاية خاصة، وحتى من دون حاويات على الاطلاق. وبعد ان دخلت حيز المفعول سنة 1976 اتفاقية لندن التي تحظر دفن الفضلات المشعة في خطوط العرض الشمالية وفي الجرف القاري، استمر الاتحاد السوفياتي يخالف كل بنودها تقريباً ولو انه حد بعض الشيء من رمي الفضلات. ومع ذلك ردت السلطات الرسمية السوفياتية على سؤال اللجنة الدولية بهذا الصدد سنة 1986 قائلة من دون اي ارتباك: "ان بلادنا لم ترمِ ولا ترمي ولا تخطط لرمي فضلات مشعة في البحار". يقول كثيرون من الخبراء في موسكو في الآونة الاخيرة ان روسيا اكثر دول العالم تلوثاً بالاشعة. فعدا السلاح النووي الموجود في حوزة الجيش الروسي، والمستودعات الهائلة للرؤوس النووية، تعمل في اراضي روسيا اليوم 9 محطات كهربائية نووية ضخمة ناهيك عن المفاعلات الصغيرة الكثيرة الموجودة في مراكز البحوث على اختلافها. واذا اضفنا الى هذا السلاح النووي الذي يضم 235 سفينة ومدافن الفضلات المشعة الكثيرة المنتشرة في البلاد، فان تشبيه روسيا، المتزايد في الآونة الاخيرة، بالقنبلة النووية الهائلة الموقوتة، لن يبدو مبالغاً فيه. ومما يثير قلقاً خاصاً بهذا الصدد ان عدد الحوادث الخطرة في صناعة الطاقة النووية الروسية لم يقل مع الوقت بل لا يزال في ازدياد متواصل. فالمعطيات الرسمية تدل على انه حدثت في الاهداف النووية الروسية في سنة 1992 وحدها 205 ازمات قدّر خمس منها بدرجتين واثنتان بخمس درجات. واذا كانت اكثرية الحوادث جرت في الماضي بسبب اخطاء من الموظفين والعاملين فالآن تصعد الى المرتبة الاولى الاسباب الفنية المرتبطة بكون المعدات تبلى بالتدريج وتعتق وليست عند الحكومة الاموال الكافية لاستبدالها. وتعمل في روسيا الآن 15 وحدة كهربائية ذات مفاعلات شبيهة بمفاعل تشيرنوبيل الذي تثير مضمونيته تخوفات كبيرة عند الخبراء، ولكن تجديدها او اصلاحها او استبدالها يكلف مبلغاً ضخماً يقدر بپ50 مليار دولار. وعلى رغم ان خطر وقوع كارثة نووية جديدة يمكن ان يحدث في اي وقت في روسيا فان روسيا هي اليوم الدولة النووية الوحيدة التي لا يضبط فيها اي تشريع لاستخدام الطاقة النووية منذ 50 سنة. ولهذا السبب، كما يقول فيودر غوسبوريان رئيس لجنة الوقاية من الاشعاع، "لا تساوي حياة الانسان عندنا قشرة بصلة، فالانباء عن الاعطال السابقة وعن الحالة الراهنة للصناعة النووية لا تزال موضع سرية شديدة". ان جو السرية المحيط في روسيا بكل ما له علاقة بالاستخدام العسكري او السلعي للطاقة النووية ساهم في انشاء ما وصفته اخيراً الباحثة الروسية ايلينا بيلكينا صراحة بپ"المافيا النووية" التي تعمل بلا اية رقابة تقريباً ولا تقدم الحساب عن تصرفاتها لأحد. قالت بيلكينا: "اننا في هذه الحال نستهلك دائماً مواد غذائية "ملوثة" بيئياً ونصطاد السمك في الانهار المسمومة ثم نمرض امراضاً غير معروفة... والشيء الوحيد الذي يمكن ان ينقذنا هو رفع الحظر عن نشر اسرار الدولة في صناعة الطاقة النووية". ولكن "المافيا النووية" التي تجمع بعض كبار موظفي المجمع الصناعي الحربي ومسؤولي صناعة الطاقة النووية وكبار العلماء المشتغلين في وضع مختلف المشاريع النووية غير مستعدة، على ما يبدو، للاذعان لضغط الرأي العام. وقام "اللوبي النووي" في بداية هذه السنة بمحاولة لمنع صدور اول قانون عن البرلمان يعين التلوث الاشعاعي المسموح به. ومن جهة اخرى تصر "المافيا النووية" على ان الطاقة النووية ليس لها بديل لأن روسيا، في ظروف تدهور استخراج البترول وغيره من الوقود، تضطر اكثر فأكثر الى الاعتماد على المحطات الكهربائية الذرية التي انتجت في السنة الماضية وحدها 120 مليار كيلوواط ساعة من الطاقة الكهربائية. يشتد القلق في الغرب في الآونة الاخيرة من ان الصناعة النووية للاتحاد السوفياتي السابق تنطوي على خطر كامن على امن اوروبا. لكن حكومات البلدان الغربية لم تف حتى الآن بالوعود التي قدمتها سنة 1992 بمساعدة روسيا على تجديد معدات بعض المحطات الكهربائية الذرية لرفع مستوى امنها الى المستويات الاوروبية. فبعد سنة من الوعد بتقديم 700 مليون دولار لهذه الاغراض لم تنل حكومات اسرة الدول المستقلة شيئاً من هذا المبلغ. ومن جهة اخرى يتضح اليوم اكثر من أي وقت مضى ان مسألة امن المحطات الكهربائية النووية في اراضي الاتحاد السوفياتي السابق لم تعد مسألة داخلية للدول التي قامت على انقاضه. فالكارثة البيئية التي قد تحدث في كل لحظة لا تعرف الحدود وقد تذهب ضحيتها بلدان بعيدة بآلاف الكيلومترات عن مكان الكارثة. وفي هذا الصدد تتجلى كل اهمية ما قاله العالم والرحالة النروجي المعروف تور هياردال من ان "كوكبنا الارضي مركبة فضائية خالية من انبوب العادم، وكل ما تنتجه من سوء يعود عليها نفسها بالضرر".