قتيلان إثر تحطم طائرة صغيرة بشارع في ساو باولو وارتطامها بحافلة    العروبة يستعيد نغمة الانتصارات ويتغلّب على الوحدة برباعية في دوري روشن    اتصالات «مصرية - عربية» لتوحيد المواقف بشأن مخطط التهجير    "إفلات من العقاب".. تحذير دولي من استهداف ترامب ل"الجنائية الدولية"    حائل: القبض على شخص لترويجه مادتي الحشيش والإمفيتامين    المسلم رئيس لنادي الطرف لاربع سنوات قادمة    تعاون برلماني بين السعودية وتايلند    الخريف يبحث الفرص الاستثمارية المشتركة في التعدين مع الهند    خطيب الحرم المكي: كل من أعجب بقوته من الخلق واعتمد عليها خسر وهلك    المفوض الأممي لحقوق الإنسان: عنف أشد "سيحل" شرقي الكونغو    واشنطن ترفض مشاركة«حزب الله» في الحكومة الجديدة    الأندية الإنجليزية تتفوق على السعودية في قائمة الانفاق في سوق الشتاء    مفتي عام المملكة ونائبه يتسلمان التقرير السنوي لنشاط العلاقات العامة والإعلام لعام 2024    خطبة المسجد النبوي: من رام في الدنيا حياةً خالية من الهموم والأكدار فقد رام محالًا    "تعليم الرياض" يتصدرون جوائز معرض " إبداع 2025 " ب39 جائزة كبرى وخاصة    3 مستشفيات سعودية ضمن قائمة "براند فاينانس" لأفضل 250 مستشفى في العالم    أسعار النفط بين التذبذب والتراجع.. لعبة التوترات التجارية والمعروض المتزايد    النمر العربي.. مفترس نادر يواجه خطر الانقراض    الصقيع يجمد المياه في الأماكن المفتوحة بتبوك    مجمع الملك سلمان لصناعة السيارات.. الحلم تحول إلى واقع    العُلا.. متحف الأرض المفتوح وسِجل الزمن الصخري    طقس بارد وصقيع في شمال المملكة ورياح نشطة على الوسطى والشرقية    ملامح الزمن في ريشة زيدان: رحلة فنية عبر الماضي والحاضر والمستقبل    «تبادل القمصان»    ناقتك مرهّمة؟!    «سدايا»: طورنا أقصى قيمة ممكنة في الذكاء الاصطناعي لتبني الاستخدام المسؤول    كأس العالم للرياضات الإلكترونية يضم "FATALFURY" إلى قائمة بطولات الأندية لنسخة 2025    «حصوة وكرة غولف» في بطنك !    أدريان ميرونك يتصدر منافسات الأفراد في أول أيام بطولة "ليف جولف الرياض"    أمانة المدينة تدشّن نفق تقاطع سعد بن خيثمة مع "الدائري الأوسط"    لأول مرة.. مبيعات التجارة الإلكترونية عبر «مدى» تتجاوز 1.000.000.000 عملية    ما العلاقة بين لقاحات كورونا وصحة القلب ؟    أضرار الأشعة فوق البنفسجية من النافذة    إنترميلان يسقط بثلاثية أمام فيورنتينا بالدوري الإيطالي    أرض الحضارات    الأردن: إخلاء 68 شخصاً حاصرهم الغبار في «معان»    سبق تشخيصه ب«اضطراب ثنائي القطب».. مغني راب أمريكي يعلن إصابته ب«التوحد»    دور وزارة الثقافة في وطن اقرأ    يا بخت من زار وخفف    لماذا لا يجب اتباع سنة الأنبياء بالحروب..!    كيف كنا وكيف أصبحنا    أمانة القصيم تُقيم برنامجًا في الإسعافات الأولية مع هيئة الهلال الأحمر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس الجزائر في وفاة رئيس الحكومة الأسبق    وكيل وزارة الداخلية يرأس اجتماع وكلاء إمارات المناطق    الملك وولي العهد يُعزيان ملك السويد في ضحايا حادثة إطلاق نار بمدرسة    الحميدي الرخيص في ذمة الله    تغيير مسمى ملعب الجوهرة إلى ملعب الإنماء حتى عام 2029م بعد فوز المصرف بعقد الاستثمار    ثبات محمد بن سلمان    «8» سنوات للأمير سعود في خدمة المدينة المنورة    آدم ينير منزل شريف    لبلب شبهها ب «جعفر العمدة».. امرأة تقاضي زوجها    الشريف والمزين يزفان محمد    إطلاق برنامج التعداد الشتوي للطيور المائية في محمية جزر فرسان    ملك الأردن : نرفض محاولة تهجير الفلسطينيين    "سدايا" تجمع روّاد الابتكار بمؤتمر" ليب".. السعودية مركز عالمي للتقنية والذكاء الاصطناعي    الرديني يحتفل بعقد قران نجله ساهر    ألما يعرض 30 عملا للفنانة وفاء الشهراني    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية والرئيس الألماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقرير خاص لپ"الوسط" من عاصمة البوسنة والهرسك أيام الحصار والوحشية والدمار في ساراييفو : نخوض معركة الاسلام ونقاتل دفاعاً عن حريتنا
نشر في الحياة يوم 03 - 05 - 1993

دون نورث صحافي اميركي يتمتع بخبرة 30 سنة في عالم الصحافة المكتوبة والمرئية. قام بتغطية حروب ونزاعات عدة في العالم، منها حرب فيتنام وغزو اسرائيل للبنان وحرب تحرير الكويت. عمل سنوات مع شبكتي التلفزيون الاميركيتين "آي.بي.سي" و"ان.بي.سي"، ونال جائزة افضل تحقيق عن تغطيته حرب فيتنام عام 1967. تعاون مع كبريات الصحف والمجلات الاميركية، ومنها "نيوزويك" و"تايم" كما عمل مع وكالتي "الاسوشيتد برس" و"اليونايتد برس". دون نورث امضى 3 اسابيع في ساراييفو وعاش مع اهلها ظروف الحصار والقتال وكتب هذا التقرير الخاص لپ"الوسط".
بدأ كل شيء في السادس من نيسان ابريل 1992: في ذلك اليوم حاصرت القوات الصربية مدينة ساراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، وبدأت المأساة الكبرى.
عام من الجنون خيم على البوسنة والهرسك وسجل فصلاً جديداً من وحشية الانسان ضد اخيه الانسان. شهدنا خلال هذا العام تدمير ساراييفو، لكن اهلها لم يدمروا. عشرة آلاف من القوات الصربية يحتلون دائرة عرضها مئة كيلومتر حول المدينة، تعززهم مواقع المدفعية التي يزيد عددها على ستمئة ويشنون حملة لخنق المدينة من دون قتلها، وقصفها من دون تسويتها بالأرض، وتطويقها ولكن من دون الاستيلاء عليها. وقد تحمّل سكان المدينة الذين يبلغ عددهم ثلاثمئة الف نسمة مع ان عددهم في الاوقات العادية يزيد على نصف مليون مكرهين او مختارين، حصاراً عنيفاً دام اكثر من حصار مدينة ستالينغراد. ولم يعد في المدينة بناية واحدة لم تصبها القذائف او نيران القناصة. وربما كان في الوسع اعادة بناء الفولاذ والخرسانة التي كانت تؤلف المعمار الفريد لواحدة من اجمل مدن القارة الاوروبية، حينما او اذا ما حل السلام، لكن روح التجانس والوئام العرقي والاجتماعي والديني التي كانت مضرب الامثال للعالم، لآلاف السنين، ربما تكون اندثرت الى الأبد.
في أوقات السلام كانت هذه المدينة ابلغ مثال في العالم على التعايش والانسجام والوئام. والآن، وحتى في احلك ساعاتها نجد المسلمين والصرب والكروات يصمدون بكل كبرياء وتسامح في وجه الحصار. وهكذا فان ساراييفو حتى في وقت تدميرها تثبت كذب من يقولون ان الحرب في البوسنة تعود الى خصومات عرقية ودينية قديمة جمدتها الشيوعية.
ان الكراهية والفظاعة والبشاعة التي تعم الآن يوغوسلافيا السابقة امور تمت صناعتها لخدمة اطماع صربيا الكبرى. فهذه ليست حرباً عرقية او دينية وإنما هي حرب سياسية في ذروتها، مما يعني ان في وسع المجتمع الدولي ان يواجهها لو كانت ارادة ارساء العدالة لدى هذا المجتمع قوية بما فيه الكفاية لفرض الحلول. ولهذا فان تسليح اهالي البوسنة سيكون اعترافاً بحقهم الأساسي في الدفاع عن انفسهم والحفاظ على بقائهم.
وأنا كصحفي لست غريباً على المدن التي تخضع للحصار. عشت في سايغون اثناء هجمات عام 1968، وغطيت حرب مشاة البحر الاميركيين عندما استردوا هيو بناية بناية. وشاهدت انقاض بلدة كام ني الفيتنامية التي قال الجيش الاميركي انه كان لا بد من تدميرها لكي لا تسقط في ايدي قوات الفيتكونغ! وفي عام 1982 انتجت فيلماً وثائقياً عن الحصار الوحشي الذي تعرضت له مدينة بيروت على ايدي الاسرائيليين.
بدأ حصار ساراييفو في السادس من نيسان ابريل عام 1992 عندما تشجع اهالي البوسنة عقب اعتراف العالم باستقلال كرواتيا وسلوفينيا فأعلنوا بدورهم استقلالهم. وبعد ان ايدت الغالبية هذا الاعلان في انتخابات عامة اطلق القناصة الصرب نيرانهم على جمهور من المتظاهرين كانوا يطالبون بالابقاء على ساراييفو المتعددة الثقافات على حالها. ومنذ ذلك اليوم وأزيز الرصاص وهدير قذائف المدافع جزء من حياة المدينة. ونتيجة لرصاص القناصة ونيران المدافع والمجاعة وصل عدد القتلى من سكان المدينة الآن الى اكثر من احد عشر الف شخص، بينما بلغ عدد الجرحى اكثر من خمسين الفاً آخرين. اما عدد القتلى في البوسنة ككل فقد وصل الى اكثر من مئة وخمسين الف نسمة، تبعاً لتقديرات المنظمات الانسانية الموثوق بها.
في شوارع ساراييفو تقليد من الاغتيالات. اذ ان السبب المباشر للحرب العالمية الاولى كان اغتيال الدوق النمسوي فرانز فيرديناند برصاص احد المتعصبين القوميين الصرب عام 1914. وفي مكان قريب من الجسر الذي سقط فيه الدوق اختبرت بنفسي رصاص القناصة الصرب وما يفعله بسكان المدينة يومياً. وعندما يتوجه اهالي ساراييفو الى المساجد لأداء صلاة الجمعة يهرولون الخطى ويسيرون في دروب متعرجة ويندفعون كالسهام حين يجتازون الشوارع لتفادي رصاص القناصة المتمركزين في التلال المحيطة بالمدينة. وربما كان القناصة خير دليل على اسلوب الصرب العسكري في الحرب التي يشنونها على السكان المدنيين. فالجنود الذين يطلقون قذائف مدافعهم نادراً ما يرون المجازر التي تسببها هذه القذائف. اما في ساراييفو فان القناص يرى هدفه بكل وضوح من خلال منظار مكبر قوي ويطلق نيرانه على ضحيته من مسافة تصل احياناً الى اقل من خمسين متراً. وكان خبراء الجيش اليوغوسلافي السابق هم الذين دربوا اولئك القناصة في قاعدة قرب ساراييفو.
وإذا ما تحدثت الى سكان ساراييفو يقولون لك ان هناك بعض القناصة الذين يصوبون نيرانهم على الرأس او الرقبة، بينما يصوب آخرون نيرانهم على الصدر. ويتخصص البعض الآخر في مهاجمة السيارات التي تنطلق بسرعة عبر شارع العاصمة الرئيسي الذي يطلق عليه السكان الآن اسم "زقاق القناص"!
القناص
وفي اليوم التالي اطلعت على حرب القناصة من موقع قناص بوسني في الخط الأمامي في موميلو المؤلفة من مباني الشقق العالية التي بنيت خصيصاً لاستضافة لاعبي الدورة الاولمبية عام 1984.
نينان قنطار شاب في الثامنة عشرة من عمره وهو قناص مع حرس الدفاع المدني في البوسنة منذ ثلاثة اشهر. وبعد ان لوح مودعاً والدته صعد الى الطابق العاشر من البناية وهو يحتضن بندقيته العزيزة عليه. كانت البناية شبه محترقة وتطل على الخطوط الصربية التي لا تبعد سوى خمسين متراً عنها. قال لي نينان: "قتلت اثنين من التشيتنك الصرب بكل تأكيد، وربما قتلت اثنين آخرين خلال الشهرين الماضيين. وأنا لا أريد قتل احد ولكنهم يطلقون النار علينا باستمرار. ولهذا ليس امامي خيار. فبعد ان قتلوا خطيبتي قررت ان اصبح قناصاً". وعندما شاهدنا امرأتين تمران من امام المنزل الذي سلط نينان منظار بندقيته عليه لم يطلق النار وقال: "انني لا اطلق النار الا عندما اكون متأكداً ان الهدف جندي. لكنهم يطلقون النار على كل شيء. على الرجال والنساء والاطفال، والعجائز".
ولا يملك المرء الا ان يشعر بالاحباط حين يستمع الى القذائف الصربية وهي تنهمر على المدينة كالمطر في الليل. وكان في وسعي، نظراً الى السلامة النسبية في احدى غرف فندق هوليدي ان، الاستماع الى صدى القذائف وهي تتساقط وتنفجر حتى على مقربة من الفندق وفي مختلف ارجاء المدينة. وحين تسقط قذيفة على مبعدة عنك تشعر بنوع من اللامبالاة الممزوجة بالاسف على ذلك الانسان الذي راح ضحيتها. فبعد ايام او اسابيع يمكنك ان تغادر المدينة حين تكمل مهمتك. اما بالنسبة الى البوسنيين فان طريق الهرب الوحيدة هي عبر الاسلاك الشائكة حول المطار ثم الى الاراضي التي يسيطر عليها البوسنيون وراءه، ومن ثم الى العالم الخارجي بطريق ما. ولكي تهرب يجب ان تزحف متفادياً دوريات الأمم المتحدة التي تسلط الاضواء الكاشفة على الهاربين الذين يتحولون فجأة الى اهداف مكشوفة للقناصة الصرب.
وفي الصباح حين يُرفع حظر التجول يمكنك ان تزور جناح الطوارئ في مستشفى كوسوفو وتبدأ في التعرف على القتلى والجرحى الذين ستضاف اسماؤهم الى قائمة الاحصاءات. اذ ان الموتى يصلون في اكفان. اما الجرحى فيصلون محمولين على نقالات لتلقي العلاج الطارئ قبل ان يتوجهوا الى غرف العمليات. وفي هذا الصباح رأيت صبياً اصيب برصاصة في عنقه وعجوزاً في رجله، وجندياً بوسنياً وقد نسفت رجله وهم يتلقون العلاج في آن. وتسمع صيحات الجرحى وتشاهد بركاً من الدم. وترى الاطباء والممرضات وهم يتحركون بسرعة من مصاب الى آخر بصورة روتينية.
قصف الموتى
في جناح الاطفال والصغار المجاور اصيبت ايلينا 16 سنة بجروح بينما كانت تحاول الهرب من جحيم ساراييفو الى عمتها في فيينا. ففي وقت متأخر من الليل زحفت مع شقيقتها تحت الاسلاك الشائكة في المطار فسلطت دورية الامم المتحدة مصابيحها الجبارة الكاشفة التي ساعدت المدافع الرشاشة الصربية على اصابتهما. وبعدئذٍ جازف جنود الامم المتحدة بحياتهم لانقاذ الشقيقتين ونقلهما الى المستشفى. وفي هذا ما يبين مدى استحالة مهمة الامم المتحدة لحفظ سلام غير موجود اصلاً.
بين عشرات الاطفال والصغار في الجناح هذا اليوم كانت ويلدانا اصغر المصابين سناً. فهي في الثانية من عمرها. وقد تشوه وجهها بصورة مؤلمة تبعث على الأسى بينما كانت رجلها اليمنى مشلولة. اذ ان قذيفة من احدى الدبابات الصربية التي كانت تهاجم البناية حيث شقة عائلتها أصابت سريرها إصابة مباشرة. وتصوير معاناة الاطفال في الحروب هو اصعب ما يمكنك كصحفي ان تصوره. وحتى لو فقدت الفيلم تظل صورهم راسخة في ذهنك ولن تغيب عن ذاكرتك ابداً.
والذين يموتون في مستشفى كوسوفو لا يدفنون بعىداً عن المستشفى. ففي سفح التلة الذي يقع فيه المستشفى هناك مقبرة اتسعت حدودها خلال العام الماضي لتشغل جزءاً من ملعب كرة القدم الاولمبي المجاور. هنا في هذه المقبرة دفن اهالي ساراييفو كل يوم احباءهم واعزاءهم وخاطروا بحياتهم ليواروهم التراب. فالمقبرة طالما كانت هدفاً لنيران القناصة والمدفعية الصربية: وهكذا فمن المهد الى اللحد انت في ساراييفو هدف للصرب.
وبالنسبة الى صحفي ينظر الى المأساة من خلال عدسات الكاميرا هناك احياناً فاصل دقيق بين ما يراه وبين ما يشعر به. لكن بعض الصور قوي الى درجة انه يتجاوز هذا الفاصل وتلك الدموع فتيشوش قدرتك على التركيز. فصباح هذا اليوم هناك والد مسلم وابنه الذي في سن المراهقة يقفان امام كفن لا يتجاوز طوله نصف متر، بينما يعد حفارو القبور قبراً صغيراً لمواراة التابوت. ويمسح الوالد بهدوء دموعه بينما ينشج الابن حزناً على الطفلة التي فارقت الحياة وسقطت قذائف المدفعية فجأة على حافة المقبرة فأخذ حفارو القبور يسارعون في الحفر.
ومع ان القذائف ونيران القناصة تؤدي الى خمسة وتسعين في المئة من الاصابات والضحايا في ساراييفو فان الأمم المتحدة لا تزال ترفض التدخل العسكري. ومع ان الامم المتحدة وعدت بانقاذ المدينة من المجاعة فان مسؤولي الامم المتحدة في المدينة ابلغوني ان الاستجابة العالمية لتقديم المواد الغذائية اخذت تفتر وان من المرجح ان ينفد المخزون بحلول مطلع ايار مايو الجاري. ومن الغريب ان سياسة الامم المتحدة في انقاذ الناس من المجاعة بما تقدمه من مساعدات انسانية وعدم فعلها اي شيء آخر، فيها ما يرضي المبادئ الاخلاقية والسياسية الدولية مع انها تسمح للعالم بتجاهل الحقيقة المهمة وهي ان السبب الاساسي للموت والمعاناة هنا هو الحديد والنار الصربية.
وفي المدينة ترى بوضوح صناديق المساعدات التي توزعها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين وصندوق انقاذ الطفولة والصليب الاحمر ومنظمة اطباء بلا حدود وغيرها من المنظمات والوكالات الخيرية. وقد اعترف لي وزير خارجية البوسنة بأن اكبر قدر من المساعدات جاء من الدول الاسلامية، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا. وتشير انباء الى ان نسبة ستين في المئة على الأقل من المساعدات المتجهة الى ساراييفو تتعرض لهجوم الكروات والصرب الذين لا بد ان تمر الامدادات عبر الأراضي التي يسيطرون عليها قبل وصولها الى المدينة، كما ان جزءاً كبيراً من المساعدات ينتهي في السوق السوداء فيها حيث يحاول المواطنون اليائسون بيع ما بقي من ممتلكاتهم للحصول على الطعام.
وعلى مقربة من السوق السوداء رأيت حوالي عشرة كلاب تلعق جروحها وتنبح لترد الخطر الوهمي الذي يهددها. وهناك اعداد كبيرة من هذه الكلاب التي تطوف متنزهات المدينة الآن بعد ان قتل اصحابها ولم يعد هناك من يستطيع اقتناءها.
معركة الاسلام
وهناك الآلاف من المسلمين الذين لجأوا من قرى البوسنة التي عاشت فيها عائلاتهم لمئات السنين، هرباً من قذائف المدفعية ونيران القناصة والاغتصاب والقتل، الى ساراييفو، كمن يستجير بالنار من الرمضاء. وفي احدى المدارس قرب وسط المدينة اكتظ اللاجئون بمعدل خمسة عشر شخصاً او عشرين شخصاً لكل غرفة. وهم يطوفون حول المدينة ليجمعوا ما يستطيعون من اغصان الشجر لاشعال النيران الصغيرة اتقاء من البرد القارس. وتتكرر هذه الصورة في مختلف ارجاء المدينة المعروفة بمتنزهاتها الجميلة. وهكذا تحولت اشجار المدينة الى حطب.
ولعل اعمق اثر تركه الاسلام في حياة السكان هنا يتضح في قيم المسلمين العامة، من امانة ونظافة وحسن ضيافة وجوار. وفي هذا ما يوضح نظرة المسلمين الى جيرانهم: فهي نظرة لا تعتبر الجار غير المسلم تهديداً او خطراً وإنما حقيقة من حقائق الحياة التي تعني التسامح.
أنيس كاريتش، استاذ الدراسات الاسلامية في جامعة ساراييفو، يعيش مع زوجته عائشة وطفلتيه مولينا 11 سنة ويانيتا 7 سنوات. وأثناء الحصار رزقه الله طفلة اخرى عمرها الآن ستة اشهر. وقد التقيت به وبعائلته خلال زيارتي لساراييفو. قال لي انيس: "هذا هو عيدنا هذه السنة" مشيراً الى علبة من اللحم المجفف وعلبة اخرى من الحليب المجفف. نحن نصلي ونبتهل الى الله سبحانه وتعالى ألا يدمر روحنا وندعو الله ان يحفظ مجتمع ساراييفو المتسامح المفتوح وان نظل في مستقبلنا مثلما كنا في ماضينا سفراء للاسلام في اوروبا، وان نساعد بصفتنا اوروبيين على شرح اوروبا للعالم الاسلامي".
لو كان لديهم سلاح
وفي ساراييفو اكثر من سبعين مسجداً. ومع ان القذائف الصربية دمرت الكثير منها فان المسلمين يقيمون صلوات الجمعة فيها او في الاماكن القريبة منها بصورة منتظمة. ومن الواضح ان المساجد في ساراييفو اخذت تشهد اقبالاً كبيراً عليها في الآونة الاخيرة. ففي مسجد جمعية بيغوفا اكتظت ساحات المسجد بالمصلين بينما كان الامام يلقي خطبة الجمعة: "ان الله يبارك المؤمنين الصابرين ويكتب لهم الجنة. ان الله سبحانه وتعالى هو عوننا. وخير لنا ان نقضي ساعة واحدة في معركة الاسلام هذه على انه نقوم بعمل آخر. ومع ان القليلين منا يستطيعون اداء فريضة الحج في مكة المكرمة هذا العام فان علينا ان نتذكر اننا نقف هنا في الخطوط الامامية نقاتل دفاعاً عن حريتنا وعن ديننا. فالعدو يريد تدمير كل ما هو اسلامي. وفي هذا ما يكشف بشكل سافر عن وجهه الحقيقي".
الدفاع عن ساراييفو يتم من دون سلاح من العالم الخارجي بسبب حظر الامم المتحدة. وقد ذكرت لي مصادر عسكرية ان عشرين الف جندي بوسني يمكنهم ان يقاتلوا دفاعاً عن ساراييفو لو كان لديهم سلاح. فكل ما لدى السكان هو بعض الاسلحة الخفيفة وانواع مختلفة من الذخيرة التي يصنعونها، وهي تتراوح بين قنابل المولوتوف والصواريخ المضادة للدبابات، في ورشات سرية.
نائب القائد العام لمركز انتاج المواد الحربية في ساراييفو هو لوقا صوليان، وهو مهندس ميكانيكي لديه خبرة 23 عاماً في صناعة الاسلحة، قال لي: "اننا نصنع ما يحتاجه جنودنا على الخط الامامي مما سبق ان قمنا بتخزينه في المدينة. فنحن نجمع القذائف الصربية التي لا تنفجر. كما اننا نستطيع استخراج سبعة كيلوغرامات مثلاً من مادة تي.ان.تي. من قذيفة مدفع عيار 155 ملم.
ومن ذلك نستطيع ان نصنع 70 صاروخاً. وفي وسع هذه الصواريخ كي ام - 2 التي تنتجها هذه الورشات السرية ان تتغلغل لمسافة 150 ملم في الفولاذ او لمسافة 500 ملم في الخرسانة مما يجعلها فعالة ضد دبابات تي - 65 الصربية وضد مواقع المدفعية المحصنة". كذلك ينتج لوقا ورفاقه القنابل اليدوية التي يتألف كثير من عناصرها من المواد البلاستيكية نظراً الى عدم توافر العناصر المعدنية.
لكن الجيش البوسني، حتى بهذه الاسلحة المبتكرة، ليس لديه من الاسلحة ما يؤهله لكسر الحصار المضروب على المدينة. وهكذا فان الحصار مستمر وسكان ساراييفو اسرى.
وإذا ما حل السلام فان من المستبعد ان يعود التجانس والتسامح الى ذلك المجتمع الذي تطور عبر مئات السنين. يقول استاذ القانون في جامعة ساراييفو جارافكو غريبو: "ها أنا اجلس هنا. انني اشعر بالظمأ والجوع وقد فقدت نصف بصري وأنا اقرأ على ضوء الشموع. لكنني اشعر بكبرياء لأنني شاطرت سكان المدينة هذا العام حزنهم ومأساتهم وكارثتهم. ومع هذا فانني لا اريد ان اتحدث عن هوية جماعية جديدة. اذ لا يحق لأحد ان يحكم على الناس لأنهم صمدوا وظلوا في المدينة او لأنهم هربوا منها. فقد تعلمت الكثير عن مدى ضعف العلاقات الانسانية، كما اننا اكتشفنا حقائق جديدة عن اصدقائنا. فهناك الكثيرون الذين هم على استعداد لمشاركتك في آخر لقمة خبز او سيجارة. لكن الذي يحدث هو ان الذين لديهم اكثر شيء هم اقل الناس استعداداً لمشاركة الآخرين بما لديهم".
ويقول ميودراغ تريفونوف، وهو ممثل موهوب بقي في ساراييفو لاخراج الاعمال الفنية التي تساعد على رفع معنويات السكان: "ان معظم الممثلين غادر المدينة حين بدأت الحرب. اما نحن الذين بقينا هنا فقد اصبحنا اقوى مما كنا عليه في اي وقت مضى لأن علينا ان نقوم بدور مهم جداً وهو تشجيع الناس على الصمود. وسيكون هناك خط يفصل بين الذين ظلوا في المدينة والذين غادروها ورحلوا عنها لأن الذين رحلوا لا يمكن ان يتخيلوا ابداً الخبرة التي مررنا بها نحن ببقائنا. انني لست غاضباً من اولئك الناس الذين رحلوا ولكن بيننا وبينهم هوة كبيرة".
وهكذا، وكما حدث في طروادة وقرطاجة وبيرسوبيلس وغيرها من تلك المدن التي اختفت ولكنها لا تزال تأخذ بألباب علماء الآثار اليوم، ربما ينقب العلماء في انقاض ساراييفو بعد الفي عام ويتساءلون: كيف كان من الممكن ان تقصف احدى اجمل مدن اوروبا وتدمر في آخر عقود القرن العشرين، والعالم كله يتفرج من دون اكتراث؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.