ماذا يحدث حين يحضر الشعر في حلبة السياسة ويشارك في "احتفائيات" السلطة مستوحيا الصخر والنهر والشجر؟ في حفل تنصيب الرئيس الاميركي الجديد وليم جفرسون كلينتون، ضاقت المسافة المتخيلة بين الشاعر والحاكم. وكان بدأ الحديث حول ادراج الشعر في برنامج احتفالات التنصيب منذ اسابيع فاكتسب أهمية خاصة غير متوقعة في ثقافة مجتمع الآلة. وليس من الغريب ان يبدأ كلينتون عهده بهذه المبادرة كما فعل جون كيندي قبل اكثر من ثلاثين سنة مضت، فللرجلين ميزة خاصة، هي ميزة العفوية في التعبير وامتلاك رؤية متفردة. قبل ذلك كنت اعتقد ان أجمل ما في تنصيب كلينتون رئيساً للولايات المتحدة انه سيكون بداية عفوية في مجال التحولات الكبرى. بشوق كبير يصعد من جراح عميقة، انتظرت غياب وجه جورج بوش الهزيل الصارم، وجه يغيب مخلّفاً وراءه عالماً مثقلاً بالكوارث، وبجراح احدثها دون رأفة في جسد البؤساء داخل بلاده وخارجها، فأضرت بصحته وباميركا، ربما بقدر او اكثر مما أضرت بالعالم. هل الوجه القادم قناع آخر ام وجه حقيقي يحمل أملا بغد جديد؟ ماذا يحمل الوجه الجديد للعالم الجريح، المثقل بجراحه العميقة؟ هل في يده صاروخ ام سعف نخلة ام غصن زيتون من تلال القدس المعذبة؟ هل للوجوه اهمية في زمن الآلة؟ الى متى نظل نعتقد انه ما يزال للانسان دور في صنع حاضره ومستقبله؟ هل تغيب الوجوه، وتبقى الآلة التي حلت محل الانسان في صنع القرارات، فتتكرر المآسي؟ واذا كانت الآلة هي الحاكمة والانسان هو المحكوم فما اهمية الحديث عن غياب وجه وحضور وجه آخر مهما بدا الاختلاف؟ واذا كانت الآلة المقنعة بوجه انساني هي التي تنصب حقاً لماذا يحضر الشعر ليلعب دورا هامشيا؟ هل اصبح الشعر ايضا مساهما في عملية الخداع عن طريق ترسيخ شرعية الآلة؟ هل نزع الشعر وجهه الانساني واستبدله بقناع؟ ام انه يستوحي الانسان والطبيعة في سبيل التحول والتجاوز؟ كنت اتمنى الا يتخلى الشعر عن دوره، لذلك علقت آمالاً على حضوره في حفلة تنصيب الرئيس الاميركي الجديد الذ ي كان طلب من الشاعرة الاميركية الافريقية ميا انجيلو وهي في الرابعة والستين من عمرها ان تؤلف قصيدة تقرأها في حفل تنصيبه. استجابت الشاعرة فلم يغب عنها الاهمية الرمزية لمثل هذه المناسبة الهامة. ولا شك انها تذكرت ان شاعراً كبيراً هو روبرت فروست، تلقى دعوة مشابهة عام 1961 من قبل جون كيندي، فقرأ في حينه قصيدة مشهورة له، مصارعا عجزه وكان يقترب بطيئا وبتردد من الموت، والريح الشديدة البرودة تبعثر اوراقه وشعره الابيض والشمس تتوهج في عينيه. ولم تتكرر هذه الظاهرة منذ ذلك الوقت. قدرت الشاعرة الاهمية الرمزية لتوجيه الدعوة الى امرأة سوداء تستوحي في شعرها الواقع الراهن والازمنة المعاصرة. وفهمت مغزى حلول امرأة سوداء مكان الرجل الابيض، امرأة ستتركز عليها عيون وآذان شعب بكامله. وقد عبرت عن رد فعلها كالآتي: "ربما يكون من المناسب ان تتكلم امرأة سوداء عن الاغتراب والتخلي وعن الامل بشفاء الجراح التي اصابت جميع الاميركيين. فمن أولى منها بالتعبير عن كل ذلك؟". ومنذ قبلت الدعوة والناس يتصلون بها هاتفيا ويكتبون لها طالبين ان تسمع الحاكم اصوات من لا صوت لهم. يسألونها ان تقول شيئا يخفف من البغض بين الناس ويوحد في ما بينهم. ارادوها ان تقول الحقيقة التي يتوهم البعض انها معروفة، وارادت هي ان تقول ما ينبغي قوله. ها هي ميا انجيلو اذن، تتحول دون ان تدري الى شهرزاد تحيك للحاكم الذي قال لها "سلّني بحكاياتك والا قتلتك" قصة بعد قصة، وقصة ضمن قصة فتنقذ نفسها وتنقذ شعبها من الطغيان. منذ ربع قرن وهي تكتب قصة حياتها وتجاربها: كتبت عن الكفاح، والنجاح والفشل، الحزن والفرح، الخيبة والامل، الحب والهوية والصمت. وكما كتبت عن نفسها كتبت عن "زبيدة" التي ترفض ان تستسلم لليأس. ميا انجيلو شاعرة مهمة واستاذة جامعية نشأت في طفولتها مع جدتها في منطقة ريفية على مقربة من بلدة هوب، وهي مسقط رأس كلينتون. ومع انها نشأت في منطقة وزمن عنصريين لا يسمح فيها للاسود بالاختلاط بالابيض، وعانت وهي في الثامنة من عمرها، وانجبت ولدا وهي في السادسة عشرة فقد صرحت: "اعتقد ان الرئيس المنتخب كلينتون اختارني لانني في كل اعمالي اشدد ان الناس اكثر تشابها منهم اختلافاً". ومع هذا كانت لها تجربة تميزها بسبب لونها وجنسها وموقعها في اسفل الهرم الاجتماعي. هذا ما توضحه سيرتها الذاتية التي اسمتها "لماذا يغرد الطائر السجين في قفص". اذا كان للعيش في قفص من أهمية، نستطيع ان نسأل هل بامكان بوش او كلينتون ان يفهما لماذا يغرد العصفور في قفص، ولكن البؤساء الذين يبحثون عن الخلاص دون تعب ويتعلقون بحبل الام لا يفوتون الفرصة بتاتاً. في مناسبة سابقة طلبت زوجة الرئيس الجديد هيلاري كلينتون من الشاعرة انجيلو ان تقدمها فاقتبست بيتاً من الشعر من ترتيلة معروفة في ثقافة السود الاميركيين، "حين يتبين ان الشمس لن تشرق، يظهر قوس قزح في الغيوم"، واضافت ان في هذا الوقت الذي "تحولت فيه شوارع المدن الاميركية الى ساحة معارك يجري فيها الاطفال دون مأوى وأمل، يبدو لي ان هيلاري كلينتون هي قوس قزح". اذن، قبلت الشاعرة ميا انجيلو ان تكتب قصيدة في مناسبة تنصيب كلينتون رئيساً لاقوى دولة في العالم لانها رأت وعداً في الهواء وارادت ان تتمسك بالاهل في زمن غياب الشمس علّ الرئيس الجديد يفهم ما معنى ان يغرد الطائر في القفص فيرتسم قوس قزح في الغيوم. وقد نطقت الشاعرة معبرة من قاع الصمت عن الآمال المكبوتة، فمن الصمت تولد الكلمات مفعمة بالصخب. قيل ان ميا انجيلو عاشت في طفولتها، بسبب عذابها، خمس سنوات دون نطق فكان ان اصبح للصمت تأثير كبير في ذاكرتها وكتاباتها الغنية بالرموز. نمت ذاكرتها بشكل غريب عجيب لانها اصبحت تذكر كلياً او لا تذكر بتاتاً. عندما تتذكر، تتذكر كل شيء. تتذكر الاصوات خارج الصومعة التي لجأت اليها هرباً من قسوة العالم. تتذكر الروائح داخل الصومعة... تتذكر كل شيء أو لا تتذكر شيئاً بتاتاً. ولانها نسيت الظلم، او تريد ان تنساه، وتتمسك بحبال الامل وتريد ان تكون قوس قزح في زمن غابت عنه الشمس طويلاً، قبلت الدعوة وارادت ان تؤلف قصيدة وبقيت وقتاً طويلا لا تعرف عما تكتب. قالت حين تلقت الدعوة انها لا تعرف ما ستكون القصيدة ولكنها كانت تحس بها داخلها. شعرت انها تريد ان تقول ان الوطن واحد وان الخلافات والتفردات يجب ان تجعل المواطنين اكثر قوة لا ان تفسخ المجتمع. هذه هي الامنية التي لا يبدو ان الواقع قادر على الارتفاع الى مستواها. هذا ما يمكن ان نستنتجه نحن العرب. اين امنياتنا واين واقعنا؟ هل للمخيلة التي تستوعب المسافات الفاصلة بين الامنية والواقع من مكان في الوجود العربي؟ كانت شاعرة اخرى بيضاء من النخبة المتربعة على عرش الشعر تتوقع ان يوجه لها الرئيس كلينتون هذه الدعوة. انها منى فان داين. التي تحتل في الوقت الحاضر منصب "الشاعر المتوج" في مكتبة الكونغرس، وهي اول امرأة تحظى بهذا اللقب. وتمسكاً بتقاليد نظن نحن العرب انها مقتصرة علينا، كتبت منى فان داين قصيدة مديح للرئيس الاميركي الجديد كلينتون دون ان يطلب اليها ذلك، متجاوزة فيها محاولة المصالحة بين المبدع والسياسي للقول بأن السياسيين وليس الشعراء هم الذين ينقذون العالم. كتبت في مقدمة قصيدتها: "الى وليم كلينتون، الرئيس المنتخب، اننا في غالبيتنا نعرف انفسنا بأننا اناس غير كاملين، غير اننا ننتظر من قادتنا ان يكونوا كاملين... اننا بحاجة لفكرة الكمال كشيء نكافح باستمرار للوصول اليه". انطلاقاً من هذه الفكرة شبهت في قصيدتها القائد السياسي المطلوب بتمثال داوود من صنع مايكل انجلو كتعبير عن الكمال. وعلى مقربة من هذا التمثال هناك في المتحف نفسه منحوتات اخرى لمجموعة من الناس كأنهم ينبثقون من قاعدة صخرية غير منحوتة وفي حالتها الخام للتدليل على عدم الكمال والكفاح في سبيل التوصل الى الكمال. عبرت عن كل ذلك كما يلي: "في متحف صغير في فلورانسا، صانع كبير، مايكل انجلو، ترك تصوره لداوود. مرفوع على قاعدة رخامية، ناصع البياض، وجماله الرخامي يشع بضوء ساطع. يشمخ ويضيء امامنا، كامل الجسد، بديع الوجه وكاملاً في الروح ايضا... ... وعلى مسافة من "داوود"، عمل آخر للصانع المعلم في هذا المتحف، مضاء فقط بضوء النهار. يلتفت اليه المتفرج مذهولاً، صخرة ضخمة تطلع منها جماعة من الناس كتفاً الى كتف تشمخ للوصول الى داوود ولكنها تظل عالقة، وجزء من اجسادها ما يزال في صخرة غير منحوتة، هل هو عمل ناقص؟ مرميّ ؟ مقاصده غير معروفة؟ ولكن انتظر. انهم رجال ونساء من أمثالنا... ... لعل قادتنا يحملون في قلوبهم متحفا يحمل الينا جميعاً المعنى المزدوج في منحوتات الصانع العظيم، في الوقت الذي نشمخ معاً، غير كاملين في عملنا وخطتنا، نحو الحرية، نحو الضوء، نحو الفكرة الكاملة للانسان. وتسابق عدد آخر من الشعراء والشاعرات على كتابة قصائد مديح وتقديم النصيحة لوليم كلينتون من بينهم الشاعر جوزف برودسكي الذي فاز بجائزة نوبل وكان قبل ذلك يحتل منصب "الشاعر المتوج" في مكتبة الكونغرس، والشاعر ألن غينزبرغ، والروائي جون ابديك. ماذا يعني أن يكتب كل هؤلاء شعراً للرئيس الأميركي الجديد؟ طبعاً هناك اختلاف في الرؤية والمقاصد من شاعر الى آخر. هناك اختلاف خاصة بين الشاعرة مايا أنجيلو والشاعرة منى فان داين. فالأولى هي التي تمثل المتروكين في أسفل هرم التعاسة البشرية، وهي التي تقول الانسحاق فتندمج في صوتها أصوات المعذبين في الأرض. ومع هذا فهي تدعو للوحدة. وحدة مع من؟ من يقبل الوحدة ومن يرفضها، وفي أية ظروف يتم قبولها؟ وما هي الظروف التي ولدت الانقسامات والنزاعات؟ انجيلو تستوحي شعرها من الطبيعة، من وحدة الصخرة والنهر والشجرة، ومن تعداد شعوب العالم بمن فيهم العرب، فتطلب ان يولد الحلم راسخاً كالصخرة والشجرة ومتدفقاً كالنهر الذي يعني، كما يعني الأفق، التقدم الى الأمام وليس الرجوع الى الوراء. وأهم من كل هذه الأسئلة جميعها في معرض الحديث عن الشعر والسياسة، اسئلة تتعلق بدور الشاعر وموقعه من السلطة. هل من شأن الشاعر ان يكون شريكاً في احتفالات السلطة؟ هل حل القائد السياسي في هذا العصر موقعاً يؤهله كي نتوقع منه الكمال الانساني؟ بل أيضاً هل يجسد توق الانسان لتجاوز الانقسامات والنزاعات وهو المعني، بحكم موقعه في ظل الظروف القائمة، بفرض مصلحة الجماعات والطبقات التي يمثلها حقاً؟ اذا كان بالامكان ان نفترض ان المبدع هو المؤهل للتعبير عن ضمير الأمة، أو بالأحرى الانسانية، وتجسيد أوجاعها وآمالها في آن معاً، عندئذ يصبح بإمكاننا ان نقول أيضاً ان الشاعرات والشعراء الذين أشرنا اليهم يبحثون عن الكمال في غير موضعه. ربما ليس هناك من كمال نبحث عنه، ولكن هناك صوتاً ورؤية يتجاوزان الواقع ويعيدان صياغته. وهذه هي مهمة المبدع. هنا أجد انني استطيع أن أتوجه الى الماضي كما الى المستقبل مستعيناً بملحمة "جلجامش": "هو الذي عرف أقصى ما يعرف الانسان رأى كل شيء، واختبر الأشياء فأعاد ترتيبها، وتعلّم الأسرار هو حصاد الانسانية الذي تمرد ضد الموت فبحث عن الحياة وسرها الأبدي وقام برحلة الى عالم لا يعرفه سعياً لاكتشاف المخبوءات هو المصاب بقلق الروح والقلب الذي فتح الممرات الجبلية وعبر البحار والمحيطات بصحبة الشمس المشرقة وبدت على محياه آثار رحلة طويلة طول الهموم الانسانية".