أعتقد ان مفهوم الفن عندنا ما زال غامضاً مختلطاً. صحيح ان بعض العناصر الوضعية قد دخلته في هذا العصر، فأصبحنا نراه تعبيراً عن النفس او عن الواقع او نراه تأليفاً ينتج دلالته من نفسه ولا ينقلها من خارجه، لكن فئات كثيرة منا ما زالت تعتقد ان الفن نوع من الالهام، وان له قوة خارقة تصله بمنابع الشر والجحود في النفس الانسانية، وأظن ان هذه الفكرة الموروثة الراسخة سبب من اسباب المواقف السلبية التي نقفها من الفن في هذه الأيام. ان هناك من يحرمون الفن اطلاقاً ويعتبرونه ضلالاً وغواية، وهناك من يحلون بعضه ويحرمون بعضه، وهناك من يشترطون على الفن ان يكون نوعاً من الوعظ والارشاد ليكون مقبولاً مباحاً. ووراء هذه المواقف كلها، هذا الاعتقاد الذي يرى الفن نشاطاً غيبياً لا يستطيع الانسان ان يسيطر عليه: لا الفنان الذي يتلقاه عن قوى خفية غير منظورة، ولا الجمهور الذي يتلقاه عن الفنان فينفعل به انفعالاً جامحاً، يخرج به من حدود العقل، فيجعله اداة طيعة في قبضة الاهواء الشريرة. هذا الاعتقاد قديم جداً، وربما عاد بأصوله الى عصور سبقت بداية التاريخ، وهو من ناحية اخرى ليس مقصوراً على ثقافة واحدة، وإنما عرفته كل الثقافات. في تلك العصور السحيقة كان الانسان يعيش في عالم متوحش يناصبه العداء، ولهذا كان يشعر بالخوف منه شعوره بالحاجة اليه، ولأنه لا يستطيع ان يصل الى الامن والاشباع فعلاً، فقد حاول ان يصل اليهما لعباً وتمثيلاً. لقد دفعته رغبته في امتلاك الأشياء واتقاء شرها الى ان يصنع صوراً مطابقة لها ومساوية لموضوعاتها الواقعية. كان الصياد القديم يرسم على الصخور ما يحب ان يصطاده من الافراس والابقار والوعول، ثم يصوب الى الرسوم سهامه فيصيبها، وعندئذ يشعر بالطمأنينة والثقة في انه سيصيب من هذه الحيوانات حين يخرج لصيدها غداً كما اصاب من صورها المرسومة. هكذا اصبح الفن مساوياً لموضوعه، تماماً كما تكون الصورة المعكوسة على صفحة الماء مساوية لأصلها. وقد لاحظ البدائيون ان اي تغير في الاصل لا بد ان ينتقل الى الصورة، وعكسوا هذا المنطق فاعتقدوا ان اي تغير في الصورة لا بد ان ينتقل الى الاصل، ومن هنا جعلوا الوحش صريعاً في الرسم ليجدوه صريعاً في الواقع. وقد روى عالم اجتماع فرنسي تخصص في دراسة العقلية البدائية، ان احد الهنود الحمر رأى في الاقليم الذي تعيش فيه قبيلته باحثاً غريباً يرسم بعض الثيران البرية فقال "لقد وضع هذا الرجل كثيراً من ثيراننا البرية في كتابه، ومنذ ذلك الحين لم تعد لدينا ثيران"! الفن إذن حسب هذه النظرة نوع من الرؤيا او الرقية. والرسم او الرقص او الكلام اوالغناء له سحر فاعل محرك يؤثر في عالم الحيوان والنبات والجماد كما يؤثر في نفوس البشر. من هذه العقيدة ظهرت عند اليونانيين اسطورة اورفيوس الذي زعموا انه كان مغنياً عبقرياً تطرب الاشجار والاحجار والوحوش لروعة صوته وسحر موسيقاه، فتنقاد له وتتبعه وتفعل ما يريد. وحول هذه الاسطورة نشأت العقيدة "الاورفية" التي أثرت في كثير من المذاهب والتعاليم الشرقية القائلة بضرورة قهر الجسد والامتناع عن قتل الحيوان. ومن هذه العقيدة ايضاً ظهرت الافكار "الفيثاغورية" حول القيمة المؤثرة للاعداد والانغام، وظهرت الافكار العربية حول القيمة الرياضية والسحرية للحروف. وما زالت التقاليد والمعتقدات الشعبية عندنا تحمل آثاراً من هذا الاعتقاد القديم أن للفن طاقة خارقة تجعله استشرافاً للحدث الذي يمثله او تحتم وقوع هذا الحدث نتيجة لتمثيله. فالارياف والاحياء الشعبية المصرية تعرف الكثير من الشعوذات المرتبطة بهذه الخرافات. أقول ان هذا المفهوم للفن ما زال يؤثر في فئات كثيرة عندنا، يحدد تصورها لعلاقة الفن بالواقع، ويفرض عليها موقفها من طبيعته الاخلاقية، هذا الموقف الذي يتميز بالخوف من الفن والريبة فيه والاستعاذة من شروره. لقد كان العرب القدماء يعتقدون ان لكل شاعر كائناً يوحي اليه الشعر، يقول حسان بن ثابت: "ولي صاحب من بين الشيعبان فطوراً أقول وطوراً هُوَهْ" ومن هذا الاعتقاد رأى بعض النقاد القدماء ومنهم الاصمعي ان "الشعر نكد بابه الشر، فاذا دخل في الخير لان"، اي ان الشعر لا يستجيب الا للدوافع الغريزية والعواطف العنيفة الجامحة كالحب والحماسة والفخر وطلب الشهرة والمال. فاذا اراد الشاعر ان يسخره للحض على مكارم الأخلاق ضعف وفقد تأثيره، لأنه ينفصل حينئذٍ عن هذا العالم الدنيوي وما فيه من اطماع ومخاوف. الأثر الشرير للفن مبني اذن على اساس القوة التي يستمدها من تمثيله للعالم، وذلك لأن الشاعر - كما يقول افلاطون في الكتاب الثالث في "الجمهورية" - يقدم كثرة من الشخصيات يجسدها جميعاً، وفيها الضعيف والجبان والمتخاذل الذين تنقل رذائلهم الى نفس الشاعر، ثم تنتقل من الشاعر الى الناس، لأن النفس تتأثر بالمحاكاة. لكن هذا الأساس الذي يعتمد عليه من يحرمون الفن ليس الا اسطورة لا نصيب لها من الحقيقة.