موديز ترفع تصنيف المملكة الائتماني عند "Aa3" مع نظرة مستقبلية مستقرة    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عالم فرنسي أمضى عمره في الابحاث يرد على السؤال : لماذا نحلم ؟
نشر في الحياة يوم 06 - 12 - 1993

يستيقظ في اثناء نومنا، ولا يعيش الا مئة دقيقة كل ليلة. يقوم بمغامرات تستخف بالحدود والمنطق والزمان، ويدوس الواقع بكل وقاحة... يمكنه ان يفعل ما يشاء ويجرؤ على كل شيء: يمشي في الهواء، يحب، يموت ويبعث حياً من جديد. هذا الشخص الوقح الذي يتعذر علينا إلقاء القبض عليه هو كل واحد منا، هو رديفنا او وجهنا الآخر على الاصح او بتعبير آخر هو مَنْ نصير عندما نحلم...
"أنا هو شخص آخر" عبارة الشاعر هذه تنطبق تماماً على ازدواجية الشخصية التي تميز الاحلام، فمنذ آلاف السنين والفلاسفة والعلماء والباحثون يضلون في متاهات النوم أشبه بعميان استبد بهم العناد مصطدمين الف مرة بالحواجز ذاتها، من دون ان يعثروا ابداً على المفتاح الذي يفتح امامهم باب الاحلام - أقله - حتى أيامنا هذه.
منذ حوالي ثلاثين سنة راح قبس ضئيل، قبس علم مدجج بأسلحة ثورية حاسبات آلية، آلات تصوير تعمل بواسطة البوزيترون، وسكانر يلقي على الدماغ نظرة جديدة ويعرض مقولات مغرية حول عمل الخلايا العصبية وآلية التفكير ولكن هل من جديد حول الهيجان اللاإرادي الذي يطلق عليه: "الفكرة" موضوع الحلم؟
إن فرصة الاجابة عن هذا السؤال يوفرها لنا اليوم ميشال جوفيه وهو أخصائي عالمي بالنوم نشر الحصيلة الاولى لابحاثه في كتاب تحت عنوان: "النوم والحلم" منشورات اوديل جاكوب، الى جانب رواية لدى الناشر ذاته تحمل اسم "قصر الاحلام" حيث يكشف عن مواهب قصصية لا يستهان بها. وهذا الاخصائي في فيزيولوجية الجهاز العصبي معروف بسعة علمه كما هو معروف بتكتمه، وقد خص جوفيه الصحافية الفرنسية دومينيك سيمونيه بحصيلة الليالي البيضاء التي قضاها مع القطط والفئران والكائنات البشرية النائمة في مقابلة تنشرها "الوسط" حيث يبدو الرجل خلالها متأثراً الى حد بعيد بموضوعه الى درجة انه أخضع نفسه شخصياً للتجربة ووضع جردة بأحلامه الخاصة منذ سنوات.
تأخر العلم
تبدأ سيمونيه حوارها مع جوفيه بالسؤال الآتي:
بقيت دراسة الاحلام لفترة حكراً على الشعراء وعلماء النفس على اختلافهم، ولم يبدأ بعض العلماء الاخصائيين الرواد الاهتمام بالاحلام الا منذ حوالي ثلاثين سنة. لماذا تأخر العلم كثيراً عن خوض غمار الاحلام؟
يجيب جوفيه:
- ان الذهنيات لم تكن مهيأة في السابق لذلك، وعندما اعلنت في الستينات انني سأدرس الحلم لدى القطط راحوا ينظرون الي كما لو كنت مجنوناً. وفي تلك الحقبة، على الرغم من الاعمال التي قام بها بعض الفيزيولوجيين الرواد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كان ثمة ميل الى اعتبار ان النشاط الحلمي، يتعلق بالمجرد وبالوضع النفسي او على الارجح بالتحليل النفسي وهذا يخص الذهن وليس الدماغ، ولذا لم يكن من شأن العلم ان يهتم بالامر. وتجدر الاشارة الى ان علم الاعصاب الحيوي كان يحبو آنذاك ولم تكن لدينا معدات ملائمة لدراسة النوم.
وقد اتاحت لنا اجهزة متطورة خلال الحرب العالمية الثانية قادرة على التقاط موجات خفيفة جداً - على مستوى الميكروفولت - ان ننطلق في الابحاث فرحنا نحلل بث الدماغ الكهربائي وحركات الاعين وان نجمع اميالاً من التسجيلات التي ما فتئنا نقوم بها ولكن بتقنيات اكثر تطوراً.
الى اين وصلت بعد ثلاثين سنة من الليالي البيضاء مع النائمين؟
- في نهاية الستينات خلال اجتماع للباحثين في شؤون النوم في سانتافي في الولايات المتحدة الاميركية وضعنا جردة حساب للسنوات الاولى من البحث وقمنا ببعض التكهنات الطائشة. وكان في تقديرنا اننا في سنة 1990 سنتوصل الى معرفة آلية النوم وطريقة عمله وسنستطيع الاجابة عن هذين السؤالين: كيف ينطلق الحلم؟ وما هي الغاية منه؟ ويجب علينا حالياً ان نعترف بأن الحصيلة أقل تفاؤلاً مما كنا نتوقع. صحيح اننا حققنا تقدماً هائلاً في شرح كيفية عمل الدماغ في اثناء النوم غير اننا لا نستطيع الا ان نقدم افتراضات رداً على السؤال التالي: لماذا نحلم؟
لنبدأ اذا بكيفية عمل الدماغ في اثناء النوم؟
- في الواقع ان اهتمامنا بالاحلام جاء عن طريق المصادفة، فذات يوم وانا اضع قطباً كهربائياً في دماغ هر حصلت على تسجيل لا علاقة له بالموجات البطيئة والواسعة التي هي من مميزات النوم العميق. وقد كشفت الموجات المسجلة عن نشاط دماغي مهم للغاية اشد كثافة من النشاط الذي يمكن ان نسجله لهذا الحيوان خلال النهار وقد كان ذلك بمثابة ثورة حقيقية لاننا اكتشفنا حالة ثالثة للدماغ تختلف بصورة اساسية عن حالتي النوم واليقظة. وقد ادركنا ان هذه الحالة قائمة عند الانسان ايضاً ولذا اطلقت عليها اسم "النوم الملتبس".
لماذا هذه التسمية؟
- لأن جسدنا في هذه اللحظة لا يقوم بأي نشاط عقلي بينما الدماغ في حالة غليان تام. أليس الامر غريباًَ؟ وكلنا يعلم حالياً ان هذه الظاهرة تحدث أربع او خمس مرات كل ليلة لمدة عشرين دقيقة وهكذا فإن مجموع الاحلام في ليلة واحدة هو حوالي مائة دقيقة كمعدل وسطي للانسان.
هل جميع الحيوانات تحلم؟
- كلا... لقد قمنا بتجارب على أجناس مختلفة من الحيوانات أقله على الحيوانات الفقرية وفقاً للتدرج التالي: الضفادع، السلاحف، الحيات والحيوانات الثديية، فتبين لنا انه لا أثر "للنوم الملتبس"، لدى الاسماك والحيوانات البرمائية والحيوانات الفقرية الدنيا. وفي المقابل نجده لدى الحيوانات ذات الدم الحار، ويبدو ان حالة الدماغ الثالثة هذه قد تم اكتشافها عبر التطور انطلاقاً من العصافير.. ولكن ثمة اختلافات شاسعة بين الاجناس.. فالدجاجة تحلم خمساً وعشرين دقيقة في الليلة والشمبانزي ستين دقيقة والانسان مائة دقيقة والهر بطل الحالمين بلا منازع يحلم مائتي دقيقة في الليلة.
الحلم وحجم الدماغ
هل هناك علاقة بين الحلم وحجم الدماغ؟
- لا علاقة على الاطلاق ونحن نعتقد ان هنالك علاقة مع الشعور بالامن. ذلك ان حالة الحلم هي في الواقع فترة خطرة جداً للحيوان لأن الدماغ يوصد بابه على العالم الخارجي. وفي نظر التطور يبدو منطقياً ان الحيوانات الآمنة تكرس للحلم وقتاً أطول من تلك التي يتهددها خطر الهجوم.
وما الذي يثبت لنا ان "الوقت الملتبس" هو ذاته الذي نحلم في اثنائه؟
- ان عدداً من الباحثين في الولايات المتحدة وفي فرنسا قضوا مئات الليالي البيضاء يدرسون اشخاصاً متطوعين في اثناء نومهم ويوقظونهم في الفترات المشار اليها.. وقد أكد هؤلاء باستمرار انهم فعلاً كانوا يحلمون، ولكن لم يكن في وسعنا طبعاً ان نطرح السؤال على القطط. وكان لا بد اولاً من اكتشاف البنى الدماغية للنشاط الحلمي، ولما كان هنالك حالة ثالثة للدماغ صار لزاماً ان تكون فيه منطقة مسؤولة عن ذلك.
هل يعني ذلك وجود مركز لتوجيه الحلم؟
- بالضبط فقد تبين لنا اننا لو احدثنا جرحاً طفيفاً في مكان محدد من دماغ هر فإن ذلك يشوش سلوكه في اثناء الحلم، وبدل ان يبقى الحيوان جامداً، فإنه على الرغم من نومه ينهض ويمرر لسانه على شفتيه ويلاحق طريدة وهمية ويتخذ اوضاعاً مميزة، ففي حالة الخوف يطوي أذنيه الى الوراء، وفي حالة الغضب يفغر شدقيه، وفي حالة الهجوم يحرك قائمتيه الاماميتين بعنف الا انه لا يقوم أبداً بأي رد فعل إزاء محاولاتنا لاثارته فهو لا يندفع مثلاً نحو قطعة اللحم التي نبسطها امامه لانه أعمى وأصم كلياً..
إنه يعيش حلمه.
- الاصح انه موضوع الحلم، وانه مسير كلياً بنظام داخلي استولى على دماغه وبعض الاشخاص كما اكتشفت منذ فترة وجيزة يقوم بتصرفات مماثلة، ففي احدى عيادات النوم في مينيابوليس ولاية ميناسوتا راح زوجان يرويان مشاهد عائلية خاصة جداً، فالرجل مثلاً كسر معصمه بينما كان يكيل الضربات لزوجته وهو نائم. وبعد مراقبتهما طوال ليال عدة في المستشفى تبين ان المريضين الخاضعين للمعالجة يعبران بصورة حسية عن احلامهما العدوانية، وبفضل التقنيات الحديثة جداً للتصوير الطبي تبين انهما يعانيان من جرح في الدماغ في الموضع ذاته الذي جرح فيه الهر.
اذن يوجد في الدماغ مركز للحلم.
- إن الامر اكثر تعقيداً من ذلك، اذ ثمة انظمة كثيرة لها دور في الامر. أولاً هنالك مجموعة صغيرة من الخلايا العصبية في جزء من الدماغ يطلق عليه اسم "لوكوس كارولوس" يعمل كمحرك كابح للجهاز العضوي في اثناء "النوم الملتبس" اذ يوقف كل نشاط عضلي، فإذا جرح كما حصل للهر او كما حصل للزوجين في مينيابوليس لا يجد الجسم ما يقمعه ولذا يعبر الجسم عن احلامه بصورة حسية. وعلى مقربة من هذا المركز هنالك مجموعة اخرى من الخلايا العصبية اشبه بساعة توقيت داخللية او اشبه بمولد يعمل دورياً. وهو قائد الاوركسترا الذي يوجه بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة مجمل الخلايا العصبية في الدماغ بأسره لكي يجعلها تعزف توليفة الحلم..
ولكن من يأمر قائد الاوركسترا هذا؟
- للاجابة عن سؤالك يجب ان اخبرك عن اكتشاف طريف للغاية فقد خطر لباحث اميركي ان يقيس حرارة خمسين جنساً من الاجناس المختلفة في اثناء نومها بوضعه موازين حرارة لاقطة على مسافة ميلليمترين من جلد الحيوان. وسواء كان الامر يتعلق بالثعالب القطبية التي تتدثر بفرائها الكثىف في العاصفة الثلجية، ام بقواضم الصحراء الافريقية التي تبحث عن البرودة في جحور تلجأ اليها، ام بسكان المدن الذين ينامون في اسرتهم الوثيرة، فإن هؤلاء جميعاً يتدبرون امرهم بحيث تبقى الحرارة على مقربة من الجلد 27 درجة مئوية بالضبط أياً كان الجنس ويا كان المكان على سطح الارض.
النوم ظاهرة حيوية
هذا مثير للاهتمام... ولكن ماذا تستخلص منه؟
- أستخلص ان النوم ظاهرة حيوية وهذا ما غفلنا عنه حتى ذلك الحين، وهذا من اهم الاكتشافات في السنوات الاخيرة.. في اول الليل ينضح جسمنا عرقاً ويطلق الحرارة عبر توسع العروق، وخلال تسعين دقيقة تنخفض الحرارة الداخلية بمقدار 0.8 درجة وهذا في حد ذاته هائل، والواقع انه بمقدار ما يكون الدماغ اقل حرارة بمقدار ما تكون الطاقة التي يستهلكها اقل.. والمراحل الاولى من النوم تتيح له ان يحتفظ باحتياطي لما سيأتي اي للحلم الذي يستهلك طاقة هائلة من الاوكسجين والغلوكوز بصورة خاصة تفوق الطاقة التي نستهلكها خلال اليقظة.. ويمكننا من الآن فصاعداً ان نبدي ذلك للعيان بفضل آلات التصوير التي تعمل بواسطة البوزيترون، ومن هنا يمكننا الاستنتاج ان وظيفة النوم هي التمهيد للحلم والعملية تشبه الى حد ما اقلاع الطائرة. ثمة مؤشرات عدة يجب ان تكون على اهبة الاستعداد: المحيط الآمن وانقطاع الضوضاء وعدم الشعور بالبرد والجوع فاذا توافرت كل هذه المؤشرات انطلق النوم وبعد فترة من الوقت تبلغ تسعين دقيقة ثمة مؤشر آخر يصبح جاهزاً: احتياطي كافي من الطاقة يخولنا ان نطير الى الحلم.
يبدو الامر وكأنه لا يصدق فهل كان النوم لكي يقودنا الى الحلم؟
- ان للنوم وظائف اخرى منها تجديد قوى الجهاز العضوي واطلاق بعض المواد كهورمونات النمو لدى الاطفال مثلاً. ولئن كان في العالم بعض الافراد الذي يكتفي بثلاث ساعات من النوم في الليلة فالناس لا يمكنهم العيش من دون نوم.
هل يمكننا العيش من دون احلام؟
- ان بعض العقاقير التي تستخدم بصورة خاصة في معالجة حالات الانهيار العصبي او حالات الاكتئاب تلغي الاحلام… واذا وضعنا جانباً بعض التغييرات البسيطة التي تطرأ على الشخصية فإن المرضى الذين حرموا من "النوم الملتبس" يواجهون متاعب خطيرة ولا يتعرضون لفقدان الذاكرة كما كنا نفترض. وقد نام بعضهم من دون ان يحلم طوال ستة اشهر تقريباً وهذه اطول مدة سجلناها حتى الآن.
انها قصة مجانين. فأنت تقول ان النوم موجه نحو فعل الغاية منه ان يجعلنا نحلم مع انه يمكننا الاستغناء عن هذا الفعل طوال اسابيع عدة.
- الحلم آلة جهنمية كما نعلم وهذا ما يجعله مثيراً للاهتمام. ثمة امر آخر، اذا الغينا الحلم بطريقة اصطناعية لفترة من الزمن فان الدماغ يقوم بعملية استلحاق، وفي الليلة الاولى التي يعود الى وضعه الطبيعي يحلم طوال 250 دقيقة بدلاً من 100 دقيقة… ولما اكتشفنا ذلك قلنا في انفسنا: ينبغي ان يكون هنالك ما يشبه "ذرة الحلم" التي تتجمع في الدماغ كما يتجمع الماء في خزان وينطلق مع ازدياد الضغط عندما تفتح الحنفية الصنبور وللاسف لقد بهر الباحثون دائماً بمثل هذه المقارنات المائية، ولذلك بحثنا طوال عشر سنوات عن المادة التي تجعلنا نحلم وقد عثرنا على واحدة على اثنتين على ثلاث على عشر… مما يعني ان تلك المادة لا وجود لها، وقد انتهى بنا المطاف الى الاقرار بأن ليس ثمة سبب واحد لهذه الظاهرة وليس ثمة مادة مسؤولة عنها. وقد حدد علم خلايا الاعصاب الحيوي حوالي مئة من الواصلات العصبية التي تلعب دوراً في عمل الدماغ، وهكذا بقينا متنبهين ليل نهار في مختبراتنا طوال سنوات بحثاً عن ذرة لا وجود لها…
لماذا نحلم؟
ولكن اذا كان الحلم يعود بقوة بعد الغائه بصورة اصطناعية، واذا لم يكن الا وقفاً على الحيوانات الاكثر تطوراً فمعنى ذلك انه يصلح لشيء ما وهنا نصل الى السؤال الدائم: لماذا نحلم؟
- لقد اثار هذا السؤال نظريات عدة اشهرها نظرية فرويد التي ترى ان الحلم هو حارس النوم اذ يتيح له ان يتم بصورة ملائمة محققاً رغباته… والواقع هو عكس ذلك تماماً فالنوم هو حارس الحلم، ومع اننا حرمنا مراراً القطط التي نخضعها للتجارب من الشراب فنحن لم نرها ابداً تقوم بحركة الشراب خلال تجلياتها في الحلم، ولكن من غير المجدي ان ندخل في جدل مع علماء التحليل النفسي لأننا على مستويات مختلفة من التأويل ومن المتعذر ان نلتقي بعدما قدم رجال العلم اجابات مختلفة.
ان الحلم بالنسبة الى البعض يجعلنا نعيش من جديد او ننسى بعض احداث النهار المهمة، وبالنسبة الى البعض الآخر يقوم على المدى الطويل بترسيخ الذاكرة اما بالنسبة اليّ شخصياً فأنا اعتقد انه يقوم بدور معيد التنظيم الوراثي للدماغ لأنه يتيح لنا ان نعثر من جديد على الجانب الفطري من شخصيتنا.
على أي اساس تبني نظريتك هذه؟
- اولاً على دراسة الحيوانات فنحن نعلم ان مقدار "النوم الملتبس" يزداد بمقدار ما يكون الدماغ فجاً اذ يبلغ النوم الملتبس 90 في المئة من نوم الهر لدى ولادته بينما يبلغ ثلثي مدة النوم لدى الكائن البشري الطفل. ولذا يبدو الحلم ضرورياً للحيوانات الثديية وللحيوانات ذات الدم الحار في المرحلة التي تستكمل نضجها الدماغي بينما هو غائب كلياً لدى الحيونات ذات الدم البارد التي تستمر خلاياها العصبية بالتجزؤ طوال حياتها. والخلاصة ان الحلم لدى الاجناس المتطورة يبدو وكأنه ينوب عن النمو العصبي.
وهل ينطبق ذلك على الانسان ايضاً؟
- نعم، اذ ثمة دراسات اخرى تعزز هذا الافتراض فالبروفسور بوشارد في جامعة ميناسوتا درس مئة زوج من توائم حقيقيين فصلوا منذ ولادتهم بعد وفاة امهاتهم ونشأوا في بيئات مختلفة وقد تبين له انهم كانوا يتشابهون لا من الناحية الجسدية فقط بل من الناحية النفسية ايضاً. فتصرفاتهم واحدة، واذواقهم واحدة، وقصصهم العاطفية واحدة وطبائعهم واحدة وعاداتهم واحدة، وباختصار فإن شخصياتهم واحدة. اذن كيف نفسر هذه الوراثة النفسية؟ من الصعب ان نتصور انها تكونت نهائياً في الجينات اذ ينبغي ان تكون الجينات اوفر عدداً بكثير، ومن جهة ثانية فإن بيئات مختلفة منذ الولادة وتدريبات مختلفة كان يجب ان تؤدي الى طبائع مختلفة. واذا كان للتوائم صورة نفسية مماثلة فيجب ان تتعزز هذه الصورة بانتظام وان تتم اعادة برمجة دماغهم بانتظام ايضاً والحلم هو الوقت المثالي لذلك، من هنا هذا الافتراض ان الحلم المعزز لبعض مدارات الدفاع واللاغي لمدارات اخرى يزيد من تأثير العالم الخارجي او يقلل من شأنه لكي يعيد الدماغ من جديد الى طريق شخصيته الفطرية وهكذا نحن بطريقة ما لا نحلم انما نحن موضوع الحلم عن طريق الوراثة.
يقول رامبو: "أنا هو الآخر".
- نعم انه حدس الشاعر العبقري، فنحن لسنا "أنا" الحلم لأننا لا نستطيع ان نتحكم به أو أن نراقبه، وليس في وسعنا حتى ان نحس به.
أليس من شأن هذا ان يثير نقمة اتباع نظرية الخبرة المكتسبة من دون تحفظ، هؤلاء الذين يرون أن شخصيتنا وثقافتنا تعودان حصراً الى التدرب؟
- انها العقيدة السائدة حالياً فنحن نقبل من دون صعوبة وجود العلم الوراثي للسلوك عند الفأرة اما بالنسبة الى الانسان فإننا نحتج بسلطان العقل ونزعق بأننا نحن اعلى من ذلك كله… بكل تأكيد تلعب البيئة والتدرب والمدرسة دوراً في هذا المجال، ولكن ذلك لا يحول دون ان يكون لكل فرد وراثته الخاصة به، فما من ام الا وتدرك ان أي ولد من اولادها لا يشبه احداً سواه من الناحية النفسية، وعلى الايديولوجيين ان يدركوا حقيقة ان الحلم هو الذي حافظ على تنوع الاجناس الاكثر تطوراً وهو الذي يجعل من كل منا شخصاً يختلف عن الآخر فالحلم هو حارس هويتنا… وهذا هو دور الدقائق المئة في كل ليلة انها دقائق اساسية على امتداد حياتنا لأنها تؤثر تأثيراً بالغاً على تصرفاتنا وعلى ضميرنا الواعي.
وبذلك يغدو الحلم نوعاً من التحلل من الشرط الاجتماعي. أليس كذلك؟
- بالضبط، فمنذ فترة وجيزة رأينا فشل المجتمعات التي ادعت تغيير الانسان من خلال تغيير البيئة… كيف يتصرف الستالينيون مع المعارضين؟ لقد كانوا يسجنونهم في مصحات عقلية ويرغمونهم على تناول عقاقير تلغي الحلم، وفي الوقت ذاته كانوا يلغون شخصيتهم ويجعلونهم اكثر قابلية "للترويض". ان مجتمعاً بلا حلم هو مجتمع من البشر الآليين.
اذا كانت الاحلام مرتبطة بالوراثة فمن الوهم ان ندعي مراقبتها ذاتياً.
- بعض الاشخاص غير قادر وقد تحققنا من ذلك في المختبر، اذ كان يقوم نحونا باشارات عرفان الجميل وهو يغطس في "نومه الملتبس" وانا شخصياً اخضعت نفسي لتجارب من هذا النوع وقد حصل لي ان قمت لا شعورياً بعملية حساب ذهني معقدة جداً وانا احلم بأنني اطير، ولكن يجب الاعتراف بأن ذلك نادر جداً.
هل درست ايضاً محتوى الحلم باخضاع ذاتك للتجربة؟
- نعم على غرار معظم الباحثين الذين يعملون في هذا المجال، فأنا منذ ثلاثين سنة امسك بدفتر مذكرات او بالاحرى دفتر ملاحظات احتفظ به الى جانب سريري وقد دونت فيه خمسة آلاف ومئة حلم. وبمقدار ما تتملكنا عادة تدوين الاحلام بمقدار ما نحفظها عن ظهر قلب بصورة افضل. وثمة نوع من التدرب فاذا تمكنا من الاستىقاظ فوراً بعد "نوم ملتبس" فاننا نحتفظ بذكرى الحلم بألوانه الطبيعية، والا فإن الالوان تتبخر في الدقيقة اللاحقة. ان الاحلام في معظمها ذات طبيعة بصرية، ولكن هنالك احلاماً تتصل بحاسة الشم او بحاسة الذوق، كما ان هنالك احلاماً ترتبط بوضع الجسم كأحلام الطيران المشهورة أنا شخصياً احلم بأنني اطير بمعدل سبع مرات في السنة وثمة قسم لا يستهان به من الاحلام يجعلنا نرى على المسرح وقائع النهار وقد يستمر ذلك طوال ليالٍ عدة… تصوروا انكم تغادرون ليون مدينة فرنسية وانكم تصلون الى بورنايو في جزر الانديز الشرقية حيث يعيش الداياك. ان احلامكم طوال ثماني ليلٍ ستتخذ ديكورها من البيئة الفرنسية المألوفة أما الاشخاص فانهم من الهنود الذين تمرون بمحاذاتهم. وبعد الليلالي الثماني تبدأون بدمج الغابات العذراء في احلامكم وهكذا يستخدم الحلم ذاكرتين: الاولى مكونة من ترسبات النهار مجردة من الثوابت المكانية وهي سرعان ما تزول، والثانية مكانية مسؤولة عن الديكور تستمر كامنة حوالي اسبوع وهكذا يتعين علينا ان نكتشف جغرافية الحلم وهي جغرافيا شاسعة.
قواسم الاحلام المشتركة
هل ثمة قواسم مشتركة بين جميع الاحلام؟
- نعم ففي كثير من الاحلام نرى تفككاً بين الرسالة المرئية والرسالة الصوتية او المكتوبة، كأن تتعرف الى الوجه الذي يتحدث اليك من دون ان تفهم ما يقول كما لو كان الصوت مفككاً او خافتاً جداً بحيث لا يسمع، او كأن يحدث العكس فتكون الكلمات مفهومة وفي هذه الحال يمّحي وجه من يوجه اليك الكلام. ويجري كل ذلك كما لو كان هنالك فصل بين الجهة اليمنى من الدماغ جهة الخيال الفوري والجهة اليسرى من الدماغ جهة الكلام. ويبدو ذلك مؤكداً لغياب أي نشاط كهربائي في المنطقة التي تصل بين الجهتين. ويمكننا ان نحصل على معلومات اوفر من خلال دراسة الدلافين التي تتنفس بقصورة طوعية عبر فوهة تقع فوق قحف الرأس. وهذا ما يرغمها على البقاء مستيقظة باستمرار خشية الموت غرقاً. وقد اثبت بعض الباحثين الروس ان الدلافين في الواقع تنام بالتناوب مع كل جهة من الدماغ، عشرين دقيقة من الجهة اليمنى وبالتالي من الجهة اليسرى خلال الدقائق العشرين اللاحقة. ترى هل تحلم الدلافين بالتناوب ايضاً؟ حتى الآن لا نعرف ذلك لأنه من الصعب جداً دراسة الدلافين.
يبدو ان امامك في الافق ليالي بيضاء طويلة تقضيها في الدراسة والتقصي أليس كذلك؟
- بلى، بلى. ولكنني لست متفائلاً بمستقبل هذه الابحاث فالنوم والحلم لا يجتذبان الباحثين الفرنسيين الشباب الذين يتوجهون نحو علم الاحياء الذري الذي يدر عليهم قدراً اكبر من العائدات. حالياً يحاول جميع الباحثين فك طلاسم الجينات. اما الاميركيون فإنهم يؤثرون تأسيس "عيادات النوم" لمعالجة اغنياء تكساس البدينين وان يبيعوا بأسعار باهظة جداً العقاقير التي تعالج العجز علماً انه ما زال هنالك مناجم من الذهب يجب اكتشافها في اقليم النوم. وعلى سبيل المثال اكتشف احد الباحثين في اميركا الجنوبية منذ فترة وجيزة ان التاتو من الحيوانات آكلات النمل النائم يعرف حالات من الانتصاب عندما يغط في سبات عميق، وليس عندما يحلم… وهذا مغاير لكل ما نعرف. الطبيعة بكل تأكيد تسخر منا وسيبقى الحلم الحدود الاخيرة لعلم خلايا الاعصاب الحيوي. هذا ما يجب الاقرار به اذ يترتب علينا كي نفهم الضمير الحالم ان نفهم الضمير الواعي وهذا امر لم نزل عاجزين عن ادراكه. ونحن في الواقع نصطدم بأكبر سؤال طرحه الانسان على نفسه: هل يستطيع الدماغ ان يفهم الدماغ؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.