اذا كان علينا ان نخوض غمار حركة التوقعات المحتملة لاحداث عام 1993، فانه يتعين في ظني - بادئ ذي بدء - ان نختار بين منظورين للرؤية. نلخص المنظور الأول في سؤال: هل سيكون عام 1993 امتداداً لعصر المتغيرات الهائلة غير المسبوقة في التاريخ الانساني، وعلى الاخص في القرن العشرين بحربيه العالميتين الساخنتين وحربه الباردة ذات الثقل النووي وحروبه الاقليمية التي تجاوزت المئتين وخمسين صراعاً عسكرياً؟ نعني بهذه المتغيرات - تحديداً - تلك التي فاجأت العالم مع التغيير النوعي للقيادة في موسكو عاصمة إحدى القوتين العظميين المتصارعتين، وذلك بانطلاق بيرسترويكا الاتحاد السوفياتي بقيادة ميخائيل غورباتشوف عام 1985، وهو الذي تميز بشبابه النسبي ومعاداته للحرب في افغانستان وديكتاتورية الحزب الواحد. اذا صحت هذه الرؤية فان عام 1993 يغدو العام الثامن من الزمن العالمي الجاري الذي ما زال مفتوحاً أمام مزيد من حركة المتغيرات الكبرى. اما المنظور الثاني فهو ان عام 1993 الذي يبدأ في واشنطن عاصمة الدولة العظمى الاكثر قوة ونفوذاً بصعود قيادة نوعية جديدة، هو عام بداية خمود بركان المتغيرات. وذلك انه في اطاره تكتمل الدائرة الناقصة للمتغيرات العالمية من خلال التقاء نقطة التغيير القيادي السوفياتي، الامر الذي يعيد التوازن في العالم على نحو مختلف، حيث ان انتصار بيل كلينتون الديموقراطي الشاب ابن جيل المناهضين لحرب فيتنام على جورج بوش السياسي المخضرم المحافظ ابن "الاستبلشمنت" الاميركي المؤسسة الحاكمة التقليدي يمثل الوجه الآخر لسقوط "الاستبلشمنت" السوفياتي. في هذا الضوء يصبح عام 1993 بداية لزمن عالمي جديد. زمن التقاط الأنفاس والعمل على استيعاب ما حدث من المتغيرات الكبرى التي تبدو مشرفة على الانحسار ومحاولة تطويعها وتقنينها في قواعد وسلوكيات ونظم وعلاقات محلية وإقليمية ودولية جديدة، ينبثق منها - مع مشارف القرن الحادي والعشرين الذي يفصله عن عام 1993 سبع سنوات فقط - ما ظل يطرح خلال سنوات التغيير الثماني الماضية تحت اسم "النظام الدولي الجديد". أميل الى ترجيح المنظور الأول واختيار رؤية ان عام 1993 هو امتداد لسنوات المتغيرات التي ما تزال تعصف بالعالم منذ عام 1985 مفتاحاً لعملية الحدس والتوقع بالآتي من الاحداث. لماذا؟ لدي اكثر من سبب، لكنني أركز هنا على ثلاثة رئيسية منها: السبب الأول كامن في ملاحظة ان قوة دفع حركة المتغيرات ما برحت على حيويتها وديناميتها تضرب ضربات مفاجئة في كل انحاء العالم، لم تخفت على أي مستوى أو في أي مجال، ولا يستطيع احد ان يزعم بعد بأن نقطة النهاية لهذه المتغيرات المتمردة على سيطرة الجميع تلوح في الأفق القريب. على سبيل المثال تصدع قاعدة وحدة السوق الاوروبية المتجسدة في معاهدة ماستريخت والوحدة النقدية الاوروبية الى الدرجة التي بات معها مستقبل الجماعة الاوروبية محفوفاً بالشكوك في الموعد التاريخي الذي كان حدد للبنية الاقتصادية النقدية الموحدة مع نهاية عام 1992. انفجار بوادر الحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة وبين اوروبا، خصوصاً فرنسا. عودة الشيوعيين للفوز بالأغلبية في الانتخابات التشريعية في ليتوانيا. خرق موسكو لاتفاقها مع واشنطن حول الرقابة على تجارة السلاح وبيعها غواصات الى ايران، بروز النزاعات بين عدد من الدول العربية. وفي تصوري ان تغيير القيادة في واشنطن ليس خاتمة المطاف لحركة المتغيرات وإنما هو بداية عاصفة جديدة من المتغيرات تبرز معها اميركا جديدة "تحت التكوين". استطيع ان احدد السبب الثاني في ما اسميه الاخفاق شبه الكلي في السيطرة على حركة المتغيرات واندفاعها، وسرعة تآكل او انهيار ما يظهر لها من قيادات او مؤسسات سياسية - اقتصادية - اجتماعية جديدة. على سبيل المثال سقوط غورباتشوف قائد البيرسترويكا وحلول يلتسن على رأس السلطة في موسكو ببرنامج اصلاحي يتعثر ويتهاوى. اندلاع حروب القوميات ذات العنصرية الدموية في الكثير من بلدان ما كان يسمى الاتحاد السوفياتي، الاوروبية والآسيوية على السواء، وكذلك في يوغوسلافيا والبانيا ورومانيا. الصعود المتنامي للقوى الفاشية والنازية في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. التفجرات العرقية الحادة في نسيج المجتمع الاميركي والتي توجت بأحداث لوس انجليس. ان هذه الاخفاقات تعني ان طوفان المتغيرات ما زال هادرا يكتسح بفوضويته العارمة كل السدود التي تقام في وجهه. ربما يكون السبب الثالث هو ذلك التناقض الرهيب على مستوى العالم كله، رأسياً وأفقياً، بين تنامي الاحساس لدى الانسان المعاصر في كل بلد، أياً تكن اوضاعه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالتمسك بفرديته وروحانياته، وبين اتجاهه الجامح في الوقت نفسه الى ضمان احتياجاته المادية المتزايدة في ان يكون - مع بلاده - جزءاً من سوق اقوى وأوسع من وطنه، وهو تناقض اسقط كل الايديولوجيات السائدة، ولم يستطع العقل الانساني اللاهث وراء معدل سرعة المتغيرات وفوضويتها ان يملأ الفراغ بأيديولوجيات بديلة بعد، بمعنى ان العالم يدخل عام 1993 للمرة الاولى في التاريخ وهو في حالة خواء ايديولوجي رهيب. سقوط يلتسن؟ حسن، ماذا نتوقع لعام 1993 في اطار المنظور الذي نرجحه؟ في تقديري ان كلا من روسياوالولاياتالمتحدة الاميركية ستعاني، من زوايا مختلفة، انواعاً من التقلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية تقرب من حالة الفوضى. كيف؟ القفزة الكبيرة التي حاول معها الرئيس الروسي يلتسن وجماعاته من الليبراليين الاصلاحيين الانتقال بمعدل سريع وتقليد شبه أعمى للنموذج الاميركي من الاقتصاد المخطط الى اقتصاد السوق الحر ومن حكم الحزب الواحد الى التعددية الحزبية الديموقراطية، تبدو كأنها استنفدت قوتها في الفراغ وعلى وشك السقوط في ركام المشاكل المتفاقمة للتضخم والبطالة وتدني الانتاج الزراعي والصناعي وقطاع الخدمات وتفاهة المساعدات الاجنبية الموعودة خصوصاً الاميركية منها 24 مليار دولار، وانتشار الفساد واتساع رقعة الجريمة المنظمة، وتفكك الطاقم القيادي للحكم تحت ضغط الصراعات الداخلية وفوضوية التعددية الحزبية وبروز مافيات الطفيليين في السوق فضلاً عن التمزقات العرقية داخل الاتحاد الروسي وعدم التوصل الى صياغة جديدة للتعاون بين دول رابطة الكومنولث التي حلت محل الاتحاد السوفياتي المنهار. وتبدو الازمة الروسية مع عام 1993 كأنها تندفع نحو حائط مسدود، حيث يحاول يلتسن وجماعاته التعامل مع الازمة بحلول مستحيلة: بناء رأسمالية من دون رأسماليين، وديموقراطية من دون ديموقراطيين، في بلد لا تاريخ ديموقراطياً له، سواء في عصر القياصرة او في عصر الشيوعيين وحتى "الديموقراطي يلتسن" يمارس الديموقراطية بمفهوم "المستبد العادل" الذي يتهم جميع معارضيه بالخيانة. وهكذا اذا كان التأني في الحركة وفي التعامل مع المتغيرات اسقطت غورباتشوف، فأغلب الظن ان التعجل في الحركة والتعامل معها أيضا سيؤدي الى سقوط يلتسن. مع سقوط يلتسن يبرز احد احتمالين: اما ان تغرق البلاد في دوامة هائلة من الصراعات وتفكيك اوصال الاتحاد الروسي، كما حدث للاتحاد السوفياتي من قبل، الامر الذي قد يصل الى حد الحروب الاهلية المتعددة بتعدد القوميات في روسيا، وإما بروز تحالف سياسي - اجتماعي جديد يضم مزيجا مما بات يسمى الشيوعيين الديموقراطيين والاحزاب الديموقراطية والليبرالية المعارضة لنهج يلتسن، ويتوقف ترجيح هذا الاحتمال على امكان الحركة المشتركة لكل من روستكوي نائب الرئيس يلتسن وزعيم أقوى الاحزاب نسبياً والمعروف باسم حزب الشعب الديموقراطي، وبين المجمع الصناعي العسكري بقيادته الجديدة "فولسكي" المقربة من روستكوي في تولي السلطة بانقلاب دستوري سلمي من خلال البرلمان، ولكن يبقى مع ذلك ضرورة حساب علاقة مثل هذا الانقلاب بمواقف كل من القوات المسلحة وجماعات الليبراليين الموالية ليلتسن وجماعات غورباتشوف البيرسترويكية، وأيضاً منظمات الحزب الشيوعي في الأقاليم التي صدر حكم المحكمة الدستورية بشرعيتها وأحقيتها في العمل والحركة السياسية. عنف في اميركا اما بالنسبة الى الولاياتالمتحدة فالأرجح ان "النموذج الاميركي" بكل ابعاده سيتعرض للاهتزاز العنيف ومحاولة اعادة بنائه وتشكيله على نحو جديد. ان دخول كلينتون الى البيت الابيض جاء نتيجة نوع من الصحوة التاريخية لمجموعات الغاضبين والمهمشين والفقراء والأقليات العرقية التي ظلت تدفع ثمن استمرار "النموذج الاميركي" وسوقه الحر المتوحش - اذا صح التعبير - باغراءاته الاستهلاكية المبهرة، وانحسار مظلة الدولة عن تأمين عمل وصحة وتعليم وسكن المواطن، والتفوق العسكري لضمان قيادة العالم. اذا صدقت وعود كلينتون وشرع بتنفيذها، فإن ذلك سيعني في المقام الأول تنقل عبء الثمن عن كاهل الفقراء والمهمشين الى كاهل الاغنياء، هذا في الوقت الذي تعاني الولاياتالمتحدة من ازمة اقتصادية - اجتماعية مستحكمة تفوق في حدتها - من نواح عدة - ازمة الثلاثينات. ومن هنا لا مفر امامه من إحداث تغييرات هيكلية في "النموذج الاميركي التقليدي"، وذلك بتوسيع صلاحيات الدولة في عمليات الانتاج ورقابة حركة قوانين السوق والتدخل في تسييرها من وقت الى آخر والتزامها بتأمين مستوى معيشة المواطنين. هذا من ناحية ومن ناحية اخرى تعديل ميزان الضرائب بحيث ترجح كفة ضرائب الاغنياء المباشرة على كفة ضرائب الفقراء غير المباشرة، ومن ناحية ثالثة الحد من نفوذ التجمع الصناعي - العسكري - المالي على تسيير وتوجيه شؤون المجتمع والحكم الفيديرالي في الأساس. ومن غير المتوقع ان تكون مهمة كلينتون سهلة وميسرة، ذلك ان قوى الاغنياء بمؤسساتهم الاقتصادية والمالية والعسكرية والاعلامية ستنظم حركة مقاومة تبدأ بالضغط وتتصاعد به، الامر الذي ستقابله ضغوط على نحو أعنف في طول وعرض الولاياتالمتحدة من جانب الفقراء والمهمشين، تتفجر معها الصراعات التي طال كبتها او تسكينها "بحقن المورفين الاعلامية والسياسية"، وتتضارب كذلك المؤسسات القديمة ذات الولاء للنموذج الاميركي التقليدي مع تلك المؤسسات الجديدة التي لا بد وان تنشئها ادارة كلينتون لممارسة الوظائف الجديدة في الدولة والمجتمع. من هنا يبدو الوضع امام احتمالين: اما ان يعمد كلينتون، تحت ضغط قوى النموذج التقليدي، الى التراجع بهذا القدر او ذاك، وهذا يحمل مخاطر ان تتحول قوى الفقراء والمهمشين من احداث التغييرات التي عبرت عنها خلال الانتخابات الرئاسية بقوة البيت الابيض الى احداثها من خلال تنظيمات ذات طبيعة ثورية أو متمردة تتكون في الشارع، اما الاحتمال الثاني فهو ان يمضي كلينتون على طريقه في تحدي قوى الاغنياء الى الدرجة التي يتحتم عليه مدفوعاً بقوة المهمشين والفقراء والأقليات الى احداث تغييرات هيكلية اساسية في البنية الاقتصادية - السياسية الاجتماعية للنموذج الأميركي. وفي كل الاحوال هناك قدر من العنف متوقع في الحياة الاميركية خلال عام 1993. ولكن يبدو من السابق لأوانه رؤية الى أين ينتهي، بيد ان المرجح ان "اميركا جديدة" باتت تحت التكوين. وليس من شك في انه أياً تكن الاحتمالات فإن ذلك سيؤثر بالسلب على ما درجت تسميته "الدور الاميركي المتميز في قيادة العالم" بمعنى ان اميركا لن تكون - كما كان التصور الذي أيدته بعض الشواهد، خصوصاً خلال حرب الخليج الثانية - القطب الواحد المتحكم او الوريث الوحيد لتركة الاتحاد السوفياتي المنهار، على الصعيد العالمي. ويمكن للمرء ان يتوقع ايضا قدراً من الفوضى الصراعية في المجموعة الاوروبية، بحيث نرجح ان السوق المشتركة تصبح "أسواقاً" مترابطة بشكل ما. وان اوروبا الموحدة تغدو "اوروبيات" متعددة، يجمع بينها اطار مرن، وليس معاهدة ذات نصوص حديدية مثل معاهدة ماستريخت. وفي تقديرنا، ان هذا سيتوقف على الاجابة عن سؤال حول حدود الوزن والدور الألماني في اوروبا في السوق وهل تتجه المانيا شرقاً والفرصة التاريخية متاحة لروسيا وأوروبا الشرقية؟ ام تواصل الاتجاه غرباً. وفي اتجاهها غرباً هل يكون ذلك من خلال تحالف خاص مع فرنسا ام تنفتح على بقية دول المجموعة الاوروبية ككل؟ ايران وتصدير الثورة في الشرق الاوسط، اميل الى الاعتقاد بأن عام 1993 سيكتسب اهمية خاصة بالنسبة الى جميع بلدانه العربية وغير العربية. فعلى رغم كل ما يبدو على سطح الاحداث من عوامل سلبية ومحبطة لعملية التفاوض من اجل تسوية سياسية سلمية للصراع العربي - الاسرائيلي بعمقه الفلسطيني، فان الظروف الموضوعية - على رغم ارادة الاطراف - باتت ناضجة لمثل هذه التسوية. وإذا كانت القوة الدافعة الاولى لقطار التسوية هي المصلحة الاميركية التي تبلورت خلال حرب الخليج، فان قوة الاندفاع الثانية تنبع من الارهاق الاقتصادي الذي باتت اسرائيل تعاني منه، على رغم تفوقها العسكري النسبي. اما قوة الاندفاع الثالثة فهي تتمثل من ناحية، في التعب العربي العام الملحوظ من استمرار الصراع، ومن ناحية اخرى ان استمرار الصراع يعني في المدى المتوسط انخراط قوى جديدة فيه حماس مثلاً تحمل معها مخاطر امنية متباينة للنظم والحكومات العربية. من هنا نرجح ان يشهد عام 1993 كثيراً من التقلصات والتحرشات السياسية والعسكرية المحدودة بين اطراف الصراع، ولكن يظل الاتجاه مضطرداً على طريق التسوية التي من المحتمل التوصل الى خطوطها العريضة قبل أفول عام 1993. غير ان الشرق الاوسط ليس كله عربياً، ويبرز في المجال غير العربي، ايران ودورها، سواء على مستوى منطقة الخليج او على مستوى البلدان العربية والاسلامية، وما يسمى الحركات الاصولية. ومن المرجح ان يترافق الصراع الداخلي بين "المعتدلين" بقيادة الرئيس الايراني رفسنجاني وبين "الخمينيين الاوفياء" الذين بات يمثلهم في السلطة مرشد الثورة علي خامنئي مع تصدير الثورة الاسلامية والنفوذ الايراني الى المنطقة العربية وبقية الدول الاسلامية، وذلك في محاولة لبلورة "القوة الايرانية الاقليمية العظمى". وهذا يعني حتماً اصطداماً مع قوى ذات وزن اساسي في المنطقة بينها مصر وربما الجزائر وتركيا، ولن تكون اسرائيل ايضا بعيدة عن هذا الصراع الذي سيأخذ ابعاداً دولية وبترولية ودينية وأمنية على درجة كبيرة من الخطورة في عام 1993. ان المجال المحدد لذلك لا يتسع لمواصلة التوقع عن حركة الاحداث في مناطق اخرى في العالم، او حول قضايا الفكر وثورة العلم والتكنولوجيا التي ستلح بعلامات استفهامها على عام 1993. بيد ان ما نريد ان ننهي به هذا المقال هو التوقع بأن ينتهي الدور الاميركي القيادي المتميز او القطب العالمي الأوحد للعم سام في عام 1993، حيث تنشأ ظروف جديدة تفتح الباب لعالم متعدد الأقطاب. * كاتب ومفكر سياسي مصري.