عند التفكير في الجوار الصعب بين الادب والسينما بين الرواية والفيلم الروائي نتذكر جملة شهيرة للكاتب الفرنسي سانت بوف - والكل يعلم موقع هذا الرجل في الحياة الادبية والفكرية الفرنسية للقرن الفائت: "الرواية تلتهم كل شيء". كان ناقدنا أبدى بعض التخوف من انتشار الرواية في عصره، لانها في تصوره نوع أدبي شعبي هابط، لا يرقى الى مصاف الشعر او الفلسفة، ولا يمكن بالتالي ان يحتوي اي مضمون فكري جاد. بل كان يحتقر الفن الروائي عموماً، ويرى في إقبال القراء المتزايد على روايات بيفو - لوبران وأوجين سو وهما الروائيان الاوسع انتشاراً في عصره علامة على تردي الذوق العام. ولان سانت بوف كان عاجزاً عن الاحاطة بعمق الثورة الفنية التي كان بصدد احداثها كبار روائيي القرن الفائت من معاصريه، فقد ظل يبدي عداء معلناً للفن الروائي، مستشعراً بحدس خاص ما كان يحمله هذا الفن في طياته من بذور ثقافة اخرى، هي جديدة بالضرورة، ومختلفة حتماً، مع ما يتضمنه هذا الاختلاف من حوافز لاعادة النظر في بعض الثوابت الفكرية والقيم الفنية السائدة في ذلك العصر. بل يمكن ان نجزم هنا بأن خوف سانت بوف امام اكتساح الرواية لثقافة القرن التاسع عشر انما يشي بخوف جوهري آخر عبر عنه المفكر العقلاني امام الفوضى الفكرية التي يمكن ان يحدثها اكتساح الخيال الروائي لمختلف مجالات المعرفة، والادب كان ولا يزال اقرب تلك المجالات الى عامة الناس. "الرواية سوف تلتهم كل شيء!". بهذه الكلمات المذعورة توقع سانت بوف انتصار القرن العشرين للرواية كنوع أدبي كامل يختزل في ما يقدمه للكاتب من حيز حرية، وامكانات تجريب، وقدرات تعبير لامنتهية موقعاً له ممتازاً في قلب الحداثة الفنية والفكرية، بل ربما كان في أصلها، كما يرى بعض النقاد. لكن تلك مسألة اخرى... في منتصف هذا القرن، بدأت السينما تكتسح حياة الناس اليومية، فظهرت اعمال سينمائية ذات مرجعية فنية وجمالية ذاتية، كما ارتقى بعض المخرجين بالكتابة السينمائية الى مستوى التعبير الفني الكامل، فتحول الفيلم من مجرد فرجة ووسيلة ترفيه جماهيرية صاخبة الى عمل فني يحمل رسالة فكرية، فانبرى لقراءة تلك الرسالة ومحاورتها رهط جديد من النقاد يمعنون النظر في اللقطة العابرة مثلما يحفرون في صفحات كتاب مفتوح، ويبدون من الهوس والادمان ما يشي فعلا بولادة سلوكات ثقافية جديدة. عندها اطلق بعض الكتاب صيحة فزع ما تزال اصداؤها تتردد الى اليوم على صفحات الجرائد والمجلات: "السينما سوف تلتهم كل شيء" التهام الفنون التقليدية هل نفهم من ذلك ان السينما غول او غولة؟ نعم، ان السينما غولة بمعنى واحد على الاقل: ألم تلتهم بشهية نادرة وقدرة رهيبة على الهضم والاستيعاب كل الفنون التقليدية الاخرى؟ لقد شرعت الرواية في التهام المسرح، والاوبرا والباليه والموسيقى وحتى الفنون التشكيلية المختلفة، وهي تسعى فوق كل ذلك الى تحقيق الحلم البشري القديم المتمثل في المزج بين كل الفنون ضمن كلية شاملة ومنسجمة؟ "السينما سوف تلتهم كل شيء!". لهجة الانذار هنا تحمل في طياتها موقفاً عدائياً مبدئياً من هذا الفن، لعله الموقف الرافض الهش الذي يتخذه الانسان - بحكم العادة في مواجهة اية ظواهر او افكار او سلوكات جديدة تفرض عليه، ويستوجب تفاعله الاضطراري معها اعادة نظر جذرية في بعض الثوابت والقيم السائدة في محيطه والتي يؤسس عليها رؤيته للعالم. السينما جاءت فعلا بجملة من التقنيات - اولاً، وجاءت برؤى جمالية مختلفة - ثانياً، كما جاءت بأساليب كتابة اكثر تعقيداً وتركيباً مما كان شائعاً في التعبيرات الفنية التقليدية الاخرى. ثم جاءت بسلوكات ثقافية جديدة سواء في مستوى الانتاج او التلقي بصورة شكلت نقلة نوعية في مجالات الانتاج الثقافي عموماً: وهي نقلة مزدوجة فنية وسوسيولوجية ما نزال الى اليوم نندهش امام بعض تجلياتها. مما جعل الكاتب الفرنسي اندريه مالرو يجازف بالمقارنة بين الرواية والسينما، وذلك في كتابه "الانسان الهش والادب"، الصادر عام 1977، وعلى رغم الاحتقار الواضح الذي ابداه تجاه الفن السابع على وجه التحديد، والفنون السمعية البصرية عموماً، ونعته لها ب "التفاهة" فإنه اقر في موضع اخر من الكتاب بأن "السينما اصبحت فناً من الدرجة الاولى، ذا انتشار عالمي اوسع مما تحظى به الرواية"، بل ذهب ابعد من ذلك عندما اضاف على شبه مضض ان السينما "قادرة على كسب اهتمام عامة الناس، تماماًمثلما كان الامر بالنسبة الى المأساة اليونانية". لكن، من مآخذ مالرو الكثيرة على السينما ان الصورة - مهما بلغت من دقة وتعقيد - تظل عاجزة عن الاحاطة ب "باطن الانسان" على رغم اهتدائها لتقنية "الصوت الباطن" التي اقتبستها عن المسرح، لكنه ادرك مع ذلك اهمية المعطى الحسي الذي اثرت به السينما وسائل التعبير الفني، فإذا كانت السينما "لغة سريعة" حسب تعبير جان ايبستاين، فلأنها وسيلة سمعية بصرية تختزل كل شيء مادي وكل فكرة مجردة في معطى حسي، فتؤسس لنوع من الخطاب الشامل لا يمر فقط عبر الكلمات، كما هو الشأن في الخطاب الادبي مثلاً. بهذا المعنى لا يكفي ان نتحدث عن تنافس - او تناقض - بين النص الادبي المكتوب والصورة السينمائية - وبين الكتاب والشاشة - لان هناك فارقاً جوهرياً بين هاتين الظاهرتين وبين هذين الاسلوبين في التواصل الجمالي. صحيح ان السينما تظل دوماً في حاجة الى الادب - والى الادب الروائي تحديداً - كي تستمد منه مادتها الحكائية، مثلما احتاجت الى المسرح - على الاقل في مرحلة أولى - من اجل تحديد العلاقات بين الشخوص والاشياء، وتطوير اساليب التجسيد التمثيلي، لكنها تظل محافظة على نوع من الخصوصية الفذة تجعلها في مأمن من كل مقارنة سلبية او تشكيك في مدى قدرتها على التوليد بين اكثر العناصر تنافراً. نحو الاقتصاد في الكلام نذكر في هذا الصدد تلك الجملة الشهيرة التي تنسب عادة الى ستاندال مؤلف "صومعة بارما" والتي تشبه الرواية بكونها "مرآة تدار على طول الطريق"، ونتساءل ما اذا لم تكن السينما حققت هذا الحلم الذي راود اقطاب الواقعية في القرن الفائت، فسمحت اخيرا للروائيين بأن يقتصدوا في مقاطع الوصف الطويلة التي كانت تثقل على القارئ كثيراً. وعندما نقول ان مقاطع الوصف الطويلة عادة ما تثقل على القارئ العادي، فانها تثقل حتى على بعض الكتّاب ايضاً: ألم يعترف اندريه بروتون مرة بأنه شعر بملل قاتل وهو يقرأ وصفا لغرفة راسكولنيكوف بطل "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، كي يضيف متسائلا: "بأي حق يفرض علينا المؤلف بطاقاته البريدية؟" ولا اظن ان عرّاب السريالية هو الكاتب الوحيد الذي يستعجل الاحداث عند مطالعته للاعمال الروائية، فهذا الروائي هنري دي مونترلان يكتب ايضا: "عندما اكون بصدد قراءة رواية، وتعترضني فقرات وصفية، أقلب الصفحة". هكذا اذن - وبكل بساطة - يعلن كاتبان اشمئزازهما من فقرات الوصف الطويلة التي يضطر الروائيون عادة لصياغتها بغاية وضع القارئ في صورة الاحداث التي يروونها، وكأنهما بذلك يبرران بصورة غير مباشرة اقبال الناس باعداد متزايدة على قاعات العرض السينمائي وعزوفهم التدريجي عن مطالعة الرواية. وما يدعو للدهشة هنا حقاً هو ان الروائيين لم يحاولوا مقاومة السينما بسلاحها، فلم يتخلوا تدريجياً عن اساليب الوصف، ولم يستعيضوا عنها بأساليب اخرى اكثر نفاذا، بل اصبح بعضهم يدمن الوصف كغاية اسلوبية في ذاتها، بحيث "تحولت الحكاية لديهم الى مجرد مبرر لتكديس فقرات الوصف الجامدة"، حسب تعبير الناقد الروسي تينيانوف، بل ان هذا التكديس لفقرات الوصف المتصلة صار من مميزات الرواية الحديثة عموما، حتى كادت عملية الكتابة ذاتها تتحول الى موضوع روائي مطلق، خصوصاً لدى مجموعة "الرواية الجديدة" في فرنسا. هل ان الروائيين ادركوا اخيراً عجزهم عن مسايرة الوسائل السمعية البصرية في ايصال المواد الحكائية بتلك السرعة، وذلك الاقتصاد، وذلك الشمول، وذلك النفاذ الحسي المباشر، وذلك السحر الذي تملكه السينما مثلا؟ هناك ولا شك جانب من الحقيقة في هذا الزعم، ولا نظن ان انتشار السينما جماهيرياً امر غريب او معزول عن التحولات التي طرأت على اساليب التأليف الروائي في النصف الثاني من هذا القرن. ان حقيقة اقتباس السينما من الفنون الاخرى تخفي عن انظارنا احيانا ظاهرة اقتباس الفنون الاخرى لبعض اساليب التعبير المستحدثة في مجال التعبير السينمائي… عهد العين والعدسة من بين السينمائيين الاميركيين الذين اعتمدوا كثيراً في اعمالهم على النصوص الروائية، نذكر جون هيوستن الذي اخرج فيلم "الباز المالطي" عن رواية لشيستر هايمز، وفيلم "موبي ديك" عن رائعة هيرمان ملفيل التي تحمل العنوان نفسه، وفيلم "فوق البركان" عن مطوّلة مالكولم لوري التي لا تقل روعة. نذكر جون هيوستن لنتوقف قليلا عند تحديده لمفهوم "العبقرية" الذي بدا لنا مميزاً جداً. قال مخرج "كنز سييرا مادري" ان "العبقرية نظرة فريدة تضيء الاشياء". من يتأمل قليلا في هذا التحديد، يلاحظ تأكيد هيوستن حاسة النظر، وعلاقتها بالضوء من جهة، وبالاشياء من جهة ثانية، فپ"العبقرية" في رأيه لا تعدو ان تكون "نظرة"، وهذه النظرة تقوم بدور الوساطة بين الضوء وبين الاشياء. فكأننا بپ"العبقرية" في هذا التحديد ليست سوى رديفة للعين، ورديفة للعدسة اي عين الكاميرا. "العبقرية" تكمن اذن في قدرة الفرد على رؤية الاشياء، وقراءتها، وتأويلها، وعرضها. ولأن هذه الوظائف هي التي تقوم بها السينما عادة في مختلف مراحل انجازها، ففي امكاننا ان نقول ان "العبقرية" هي… القدرة على التعبير السينمائي. لعل هذا هو المعنى المخفي في جملة هيوستن المذكورة، والشيء من مأتاه لا يستغرب، فهيوستن مخرج سينمائي، اي ان عمله يتمثل في تحويل الحكايات، والعواطف، والافكار، والرؤى الاكثر تجريدا الى صور محسوسة ذات اطار، ولون، وحركة واضاءة خاصة. وهو يشتغل على الصورة لانها وسيلة متميزة وممتازة في الوقت نفسه للتعبير الفني الكامل. وما يقال عن السينما، في الامكان سحبه ايضا على فنون اخرى، بل على كل الفنون اطلاقا، خصوصاً تلك التي تعتمد اسلوب السرد الحكائي الذي تعد تقنيات التصوير من ركائزه الاساسية، ولا نفشي هنا سراً اذا قلنا ان الفنون الحكائية كالقصة، والرواية، والمسرح، والباليه، الخ… مدينة كلها الى السينما بمعظم انجازاتها الجمالية الحديثة، ومنها تقطيع جسد الحكاية الى وحدات سردية متلاحقة او مركبة تركيبا معقدا في صيغة مشاهد دالة، كذلك المقاربة الموضوعية المتيقظة للاشياء في تفاصيلها الصغيرة والسعي الى تقديمها كما تبدو من خلال عين الكاميرا، كذلك الاشتغال على زمنية السرد le tempo وايقاعه le rythme ضمن محاولة للاقتصاد تطمح الى تحقيق درجة من السرعة والفعالية في عملية الابلاغ، كذلك الاهتداء الى اسلوب غير مباشر وغير تقريري في تصوير سيكولوجيا الشخوص، وذلك من خلال تصوير علاقاتها المميزة بمحيطها الحيوي، الى غير ذلك من التقنيات والاساليب المقتبسة - عن وعي او عدم وعي - عن لغة السينما. الروائيون يخطئون كثيراً في حق السينما، وضروري ان يعترفوا بذلك، فهم يخطئون اولاً عندما يعتبون على السينمائيين في تعاملهم مع الاعمال الروائية الكبرى، ويرون في اقتباسهم لها اعتداء على بعض ابعادها الاسلوبية، في حين انهم يعرفون جيداً ان الصورة لا تتحمل بعض الاساليب البلاغية الخاصة بالرواية. كيف نطالب الفيلم بأن يكون ثرثارا في حين ان الصورة لا تتحمل الاطناب والتكرار وايقاع التداعيات الذهنية البطيء؟ وهم يخطئون ثانياً او يتظاهرون بعدم رؤية الابعاد الجمالية الجديدة - والمختلفة ضرورة - التي يضفيها الفيلم على نسيج الرواية المقتبسة. كما يخطئون ثالثة اذ يتعامون عن تأثير الكتابة السينمائية من حيث تقنياتها المستحدثة على اساليب السرد الحكائي في القصة والرواية على وجه الخصوص. هذا العصر انما هو بالاساس "عصر الصورة" في مختلف وسائل بثها انه عصر السينما، والتلفزيون، والفيديو، والملصق الاعلاني، والسلاسل المصورة، الخ…، ومن واجب الكتّاب تطوير اساليبهم في الكتابة الادبية من اجل التوصل الى شد اهتمام القارئ الى الاثر المكتوب، على رغم سيل الصور المنصبة عليه من كل صوب، والتي تكاد تغرقه في عالم وهمي مواز يكاد ان ينفي عالمه المادي المعيوش. ربما وجد بعض المبدعين الغربيين الحل الافضل المتمثل في تعاطي فنّي الكتابة الروائية والكتابة السينمائية في الوقت نفسه كألفريد هيتشكوك، وانغمار بيرغمان، وألان روب غرييه ومارغريت دوراس… لكن الثابت اليوم ان على الكتّاب تطوير ادواتهم واساليبهم من اجل جعلها قادرة على رفع تحدي الحداثة السينمائية التي من شأنها ان تساعد الرواية على اعادة صياغة ذاتها من الداخل كتعبير فني انساني متطور باستمرار. خصوصاً لأن فن السينما التهم كل شيء، وهضمه، وأسس لنفسه مرجعية اسلوبية وجمالية تبدو في عصر الاتصال هذا بمثابة مفتاح البلاغة وشرط الابلاغ الاول.