اذا حاول المرء ان يوقف موقتاً شلالات الغضب التي تتفجر لدى أي انسان متحضر، وهو يقرأ ما تصفه تقارير المراسلين في كل صحف العالم، عن "حرب الابادة الاجرامية" التي يشنها الصربيون في جمهورية البوسنة والهرسك، ومعسكرات الاعتقال التي اقاموها مما جعلهم يستحقون اوصافاً مثل "البرابرة الصرب" و"النازيين الجدد". وإذا استطعنا ان نتغلب على المشاعر التي يستبد بها الغضب تجاه ما يحدث على أرض البوسنة وتجاه تقاعس ردود الفعل الدولية، وتجاه قصور جهود الدول الاسلامية التي طال انتظارها وترددها منذ بدء القتال في آذار مارس الماضي. وإذا استطعنا التغلب على هذه المشاعر، وحاولنا فهم ما يحدث على الأرض في هذه الجمهورية الضحية، وإذا تصورنا ان وقفاً لاطلاق النار يمكن ان يحصل، فماذا نجد على أرض الواقع؟ سنجد، للأسف، ان جمهورية البوسنة والهرسك التي صوّت شعبها لصالح الاستقلال عما كان يسمى يوغوسلافيا سابقاً مزقها العدوان الصربي، فالقوات الصربية تحتل حوالي ثلثي مساحة الجمهورية وأعلنت كياناً سياسياً خاصاً بها، والقوات الكرواتية - المفروض انها حليفة للقوات الاسلامية - احتلت حوالي ربع المساحة وأعلنت هي الاخرى كياناً خاصاً بها. اما المسلمون الذين يشكلون حوالي 44 في المئة من عدد السكان فإنهم يتركزون في عدد من الجيوب الآهلة بالبشر والتي يحاصرها الصربيون. وهكذا فان مدينة ساراييفو عاصمة البوسنة والهرسك اصبحت عاصمة من الناحية "القانونية والنظرية" وحسب. اما في الواقع فإن اقليمها تسيطر عليه قوات وجيوش لا تدين لها بالولاء. وتبدو ساراييفو مثل برلين الغربية في فترة انقسام المانيا، مدينة معزولة عما حولها ويحاصرها الأعداء من كل جانب. إن فهم ما يحدث في البوسنة والهرسك يفرض الاخذ في الاعتبار تفاعل ثلاث مجموعات من العوامل. اولها المشاكل المرتبطة بوراثة الاتحاد اليوغوسلافي ورغبة القومية الاكبر - وهي القومية الصربية - الاحتفاظ بموقعها المتميز والمسيطر. ففي اطار الاتحاد كان لها - بحكم قوتها العددية والسياسية - اليد الطولى، وكانت حريصة على استمرار هذا الوضع، وثانيها، إختلاط القوميات والأديان. فعلى أرض البوسنة يعيش المسلمون 44 في المئة والصربيون 33 في المئة وهم من المسيحيين الأرثوذكس، والكروات وهم من المسيحيين الكاثوليك، وفي مثل هذه المجتمعات التي يسميها اساتذة علم الاجتماع بالمجتمعات التعددية مثل لبنان مثلاً تكون التربة صالحة للنزاعات الطائفية. وثالثها، ذكريات العداوة التاريخية التي تحتفظ بها الذاكرة الجماعية للشعوب وتسترجعها من حين لآخر. فالصربيون يتذكرون ان المسلمين كان لهم الدور الأول في تحطيم امبراطورية الصرب القديمة التي دمرها العثمانيون في معركة كوزوفو في عام 1389 بمعاونة محاربي البوسنة. وهم ايضا يتذكرون احداث الحرب العالمية الثانية عندما تحالف الكروات مع النازي بينما وقفت قوات الانصار البارتيزان الصربية بقيادة تيتو ضد المانيا ومع الحلفاء. لقد تفاعلت هذه العوامل الثلاثة في عام 1991. كانت البداية بإعلان استقلال سلوفينياوكرواتيا، وحاولت بلغراد منع ذلك بالقوة، وقامت القوات الصربية بالتدخل العسكري للحيلولة دون ذلك. وقادت المانيا الحملة السياسية للاعتراف بالدولتين الجديدتين، وأدى استمرار القتال في كرواتيا الى دعوة 13 ألف جندي من قوات الأممالمتحدة لحفظ السلام ومراقبة وقف اطلاق النار. وكان استقلال كرواتيا عاملاً مشجعاً لأهالي البوسنة والهرسك للموافقة على الاستقلال والتحرر من الهيمنة الصربية. في مواجهة ذلك بدأت القوات الصربية - خلال الشهور الستة الماضية - عملية عسكرية واسعة النطاق، بدعم وتأييد من جمهورية صربيا، تهدف الى "التطهير العرقي"، ومعناه تفريغ المناطق التي يعيش فيها الصرب على أرض البوسنة من سكانها المسلمين، وحصار المدن ذات الأغلبية الاسلامية. والهدف هو توسيع نطاق الجمهورية الصربية، وإيجاد تواصل اقليمي بين ارضها وكل المناطق التي يعيش فيها الصرب في جمهوريتي البوسنة وكرواتيا. لذلك استخدمت القوات الصربية اساليب مختلفة لترويع أهالي البوسنة - من مسلمين وكرواتيين - لإرهابهم وإجبارهم على الرحيل عن ديارهم. وقد ترتب على ذلك ايجاد مشكلة لاجئين في اوروبا لا تجد نظيراً لها - أوروبيا - سوى ما حدث ايام الحرب العالمية الثانية. وتختلف التقديرات من اسبوع لآخر، حيث ان العدد في تزايد مستمر، ووصل الى 5،2 مليون، فهؤلاء المهاجرون إما انهم هربوا خوفاً وذعراً، وفي هذه الحالة قامت القوات الصربية بعد اقتحام مدنهم وقراهم بتدمير المنازل وحرقها، وإما انهم رحلوا بشكل منظم، وفي هذه الحالة اجبرتهم القوات الصربية على التوقيع على اقرارات تنازل عن ممتلكاتهم ومنازلهم، وإنهم غادروا البلاد بمحض ارادتهم!. اساليب الصهيونية إن ما تقوم به القوات الصربية هو الاستخدام المنظم للعنف بقصد الارهاب، وهو التهجير الاجباري للسكان من خلال الاستخدام المتعمد للقوة. والسكان المدنيين في هذه الحالة ليسوا ضحايا غير مباشرين للقتال بين جيوش، ولكنهم الهدف الأول للحرب. وبأساليب تشبه اساليب الحركة الصهيونية. فالهدف هو تفريغ الأرض من سكانها، وإجبار اكبر عدد على الهجرة، لذلك استخدمت القوات الصربية اساليب التخويف والترهيب لإثارة الفزع في القلوب والنفوس، وذلك على غرار ما قامت به القوات الصهيونية مثلاً في دير ياسين في نيسان ابريل 1948، لذلك فإن بعض المجلات الاميركية اسمت اللاجئين من البوسنة بفلسطينيي التسعينات التايم - 17/8 وبفلسطينيي البلقان نيوزويك - 17/8. وإذا كان الموقف العسكري في البوسنة ليس لصالح المسلمين بسبب التفاوت الكبير في القدرات والامكانات العسكرية، فان الموقف السياسي ليس احسن حالاً. فالهدف السياسي للمسلمين وهو اقامة دولة واحدة في البوسنة والهرسك تتعايش فيها الجماعات الثلاث - المسلمون والصربيون والكرواتيون - لا يدافع عنه احد غيرهم. اما جمهورية كرواتيا فلديها اهداف مختلطة، فهي من ناحية تشترك مع المسلمين في هدف وضع حد لتطلعات القومية الصربية وعدوانيتها المتزايدة، وشارك الكرواتيون من اهالي البوسنة، وبدعم من جمهورية كرواتيا، في القتال ضد الصربيين مجلس الدفاع الكرواتي وكان لهم دور كبير في الدفاع لشهور عدة عن اقليم بوسافينا في شمال البوسنة حتى تمت هزيمتهم. وكان لسقوط بوسافينا دلالة خاصة، ذلك انها كانت بمثابة شوكة في حلق القوات الصربية لانها تقطع خطوط الاتصال المباشر بين جمهورية صربيا والقوات الصربية في شمال البوسنة وشرق كرواتيا. وتردد بين المسلمين وقتها ان انسحاب القوات الكرواتية من يوسافينا جاء نتيجة "صفقة" بين كرواتيا والصرب. والحكومة الكرواتية لا تشارك في هدف وحدة البوسنة وليس لها مصلحة مباشرة في ذلك، وإنما يقتصر هدفها على ان يكون للكرواتيين من اهالي البوسنة وضع قانوني خاص لحمايتهم أولاً، وربما تمهيداً لضم المنطقة الى جمهورية كرواتيا في ما بعد. وبالفعل اعلن الكرواتيون انشاء جمهورية خاصة بهم في البوسنة، اما الصربيون فإنهم يريدون استمرار الوضع العسكري الذي حققوه، ويريدون ايضاً كياناً خاصاً بالصربيين في البوسنة، تمهيداً لأن يكون جزءاً من جمهورية صربيا. لذلك فإن كلاً من الصرب والكرواتيين - وبمباركة اوروبية - يتحدثون عن تقسيم البوسنة الى ثلاثة كانتونات: صربي وكرواتي وإسلامي. في مواجهة ذلك الوضع العسكري والسياسي من الصعب للغاية استنتاج ماذا يمكن لمؤتمر لندن حول المصالحة في البوسنة - اياً تكن نتائجه - ان يفعل، أو ماذا يمكن لمناقشات الجمعية العامة للأمم المتحدة بطلب من الدول الاسلامية ان تقود اليه. فقد وقعت الكارثة فعلاً، وحدث ضرر بالغ بالبشر والممتلكات من الصعب ازالته، والأبناء الذين شاهدوا آباءهم يقتلون أو اخواتهم وأمهاتهم يغتصبون سيكون من المستحيل عليهم ان يعودوا - اذا كان ممكناً في الأصل - للحياة مرة اخرى في سلام مع الذين قاموا بهذه الفظائع. لقد انتصرت القوات الصربية على الأرض، وحقق الكرواتيون جزءاً من اهدافهم، فهل تستطيع الجهود الديبلوماسية ان تمنع المعتدي من تحويل نصره العسكري الى انتصار سياسي. وهل يستطيع المجتمع الدولي ان يمنع المعتدي من التمتع بثمرة عدوانه؟ وهل يكون ما حدث هو نهاية المطاف ام ان العدوانية الصربية ستنتعش وتستمر. فالصراع مع كرواتيا لم ينته بعد ان 11 في المئة صرب، وهناك سوء معاملة الجماعة الالبانية الكبيرة 90 في المئة في مقاطعة كوزوفو والاقلية المجرية في فوجفودينا 19 في المئة، وهناك العلاقة بين صربيا ومقدونيا. وكل هذا يشير الى ان البلقان سيستمر في القاء حممه على اوروبا. ان هذه الاحداث وضعت الأساس لفترة جديدة من عدم الاستقرار في البلقان. هذه المنطقة التي انفجرت منها شرارة الحرب العالمية الاولى، والتي تخرج منها اليوم اكبر موجة للمهاجرين في اوروبا ستظل رمزاً لعدم الاستقرار في اوروبا لفترة طويلة مقبلة. * رئيس مركز البحوث السياسية في جامعة القاهرة.