لم يكن اللقاء مع نورا وليد جنبلاط في قصر المختارة والحديث معها تجاوز القصر ومداراته السياسية والاجتماعية ولم يتناول المواضيع السياسية ولا "الصالونيات" التي تدور فيها الاسئلة المعهودة عن دور زوجة الزعيم السياسي. في غاليري 50 x 70 خمسين بسبعين حيث تزاول نورا وليد جنبلاط اعمالها كصاحبة صالة عرض فنية التقتها "الوسط" في أول مقابلة صحافية لها، فتحدثت عن الحركة الفنية في لبنان قبل الحرب وبعدها، وعن دور بيروت التاريخي "في احتضان الفنانين العرب والغربيين وفي اقامة الاتصال المنفتح والمتفاعل بين عوالم الغرب والشرق". ووصفت سيدة قصر المختارة الفن بپ"مملكة للجميع" وبپ"الوجود الأكثر خصوصية وعمقاً في الانسان"، وقيّمت التراث المشرقي والفن الاسلامي الذي اعتبرته "اهم ارث لدينا، اذ حمل في جوهره هوية فنية استطاعت ان تميزنا عن اوروبا وأميركا". كما اسهبت في الشرح عن دور غاليري "50 x 70" التي افتتحتها مع شريكتها مي مكارم بالطبع غير كاتبة هذه السطور منذ ما يقارب السنتين "لتعيد الى بيروت مكانتها الفنية الثقافية والى الحركة الفنية، التي انقطعت خلال الحرب، استمراريتها وبعضاً من حيويتها الابداعية". "باقية ما دمنا…" وغاليري "50 x 70" بالنسبة لنورا هي المجال المهيأ لپ"ذلك الانفتاح الحيوي والمهم على العالم العربي والمكان المناسب لاعادة التواصل بين مختلف فنونه وفنانيه". مساحة طموحها تقاس على امتداد العالم العربي "الشاسع الذي يجب ان نتعرّف نحن على فنونه، ويتعرف هو على بيروت - المجتمع الفني". والغاليري، تقول سيدتها "باقية ما دمنا لم نغط بعد اعمال كل الفنانين الذين نعرفهم والذين نتعرف عليهم عبر نشاطاتنا واتصالاتنا". في دوائر الفنون البعيدة عن لعبة الزعامة السياسية اشترطت سيدة قصر المختارة ان يتمحور الحديث حول شؤون الحياة الثقافية والفنية وان يبقى خارج مواضيع السياسة والسيرة الذاتية والزعامة الجنبلاطية. ذلك ان نورا وليد جنبلاط تعي تماماً مسؤولياتها كزوجة زعيم سياسي. فهي لا تتجاوز الحدود بل تلتزم بأصول اللعبة السياسية التي لها أربابها في قصر المختارة. ولما اتفقنا على ان تحدثنا عن تجربتها في انشاء صالة عرض فنية في بيروت "ما بعد الحرب"، وعن مشاركتها في تنظيم انشطة ثقافية فنية في قصر بيت الدين اقترحت مباشرة ان يكون اللقاء جماعياً، ودعت اليه مي مكارم شريكتها في الغاليري وسمير الصايغ وهو من حلقة الاصدقاء الذين يساهمون بخبرتهم الفنية والثقافية في دعم سياسة الغاليري وبلورة فلسفتها. وكما تتجنب نورا جنبلاط الاضواء السياسية تحاول ايضا الافلات من النجومية المسلطة على شخصها. فالعمل في دارها الفنية جماعي ومن اجل الجماعة، والنجومية ربما تكون لوناً يبهت امام النجاح المعنوي و… التجاري الذي تهدف الى تحقيقه في هذا المشروع - الحلم، رغم اقرارها بأن "صالة عرض فنية ليست بالنهاية تجارة مربحة". عالمها الخاص وسرعان ما يتبين لجليسها ان محورها هو عالم الفنون وبالذات الفنون التشكيلية، وان اهتماماتها منصبة على تكوين مدارات فنية وثقافية واشراك اوسع للقطاعات الاجتماعية في ذلك المجال "بما فيها تلامذة المدارس وطلاب الجامعات". من هنا كانت مساهمتها الدؤوبة منذ خمس سنوات في تنظيم مهرجانات بيت الدين، بالتعاون مع الادارة المدنية وفعاليات المنطقة والاجهزة التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي الذي يترأسه زوجها وليد جنبلاط. كما استضافت في العام 1988 في القصر نفسه عشرين فناناً عربياً اتوا من سورية ولبنان والعراق ومصر، وأمضوا اسبوعين في القصر يفلتون عنان ابداعهم في باحاته وعند مطلاته. اما المبادرة التي نسجت كل هذه النشاطات "فهي تعود الى وليد زوجي"، وترجمتها الى اعمال ومشاريع كانت ايماناً مشتركاً "اراد عبره وليد ان يكرس مبدأ الفن والثقافة كحق حيوي لكل الناس ولكافة الفئات الاجتماعية، فكان ثمن التذاكر رمزياً واشتراك الفنانين شبه تطوعي. على أساس هذا المفهوم وبهذا الجوهر اقيمت المهرجانات والنشاطات الفنية والثقافية في قصر بيت الدين المعروف اصلاً بقصر الشعب". زائرة مبكرة اذا تحدثت نورا جنبلاط عن الانشطة الفنية والثقافية التي تقام في ديار بيت الدين باشراف سيد قصر المختارة، او كانت تقوم مع لفيف من النقاد الفنيين والاصدقاء بتقييم معارض الفنانين في قاعة غاليري "50 x 70"، فهي في الحالتين "تسبح في مياهها"، ولا تتطفل على قطاع غير عالمة بقوانينه وأجوائه ومعارفه الجمة. فمن والدتها الروسية الأصل تشرّبت حب الفن واغتنى خيالها بايحاءات كانت لوحات الأم الفنانة مصدرها. وفي الپ"بوزار"، معهد باريس للفنون الجميلة، اختصت نورا بتاريخ الفن وعمّقت معرفتها به. وهي تعتبر الفن "من أقدم وأرقى التعابير البشرية التي ظهرت منذ 35 الف سنة في بواطن المغاور وما زالت تحيط بيومياتنا، جزءاً لا يتجزأ من حياة المجتمعات" في البدء كان الفن وهو كما تؤمن سيدة قصر المختارة "باق حتى نهاية الأزمنة". وما يميز نورا عن غيرها من سيدات المجتمع النافذ اللواتي تعاطين سوق الفنون كونها لم تدخل مملكة الفن سعياً وراء أضواء النجومية ورهجة الموقع وسط المثقفين. فقد كانت زائرة مبكرة لحدائق تلك المملكة وذواقة دؤوبة لأطاييبها و"طالبة ساعية أبداً" تتوق الى قطف المزيد من ثمار المعرفة الفنية ولا تشبع مما تختزن. لهذا تعتبر أنها "ما زالت تحتاج الى نضج ذهني لتبدع وتقدم انتاجاً فنياً محترفاً" على المستوى التي تتطلبه من نفسها. فهي كما تقول "لم تستوعب من العوالم الفنية ما فيه الكفاية لتنتقل الى مصاف الفنانين والرسامين المحترفين". إلا انها اختارت التحرك في مداراتهم، بل ذهبت الى أبعد من ذلك اذ قامت بتكوين مدار خاص ومميز لهم، فأتى التزامها بالغاليري منذ البدء مؤيداً بجدية قناعاتها وحيوية مسعاها. وهذا امر تجلّى تدريجياً مع كل طية كلام. إحياء الاتصال بين بيروت والفنانين في غاليري خمسين بسبعين تفيض ذاكرة ما بعد الحرب بمخزونها السابق وبالطاقة الآتية في آن معاً. وبين الاثنين ينشر الحاضرون "غسيل" الحركة الفنية في لبنان والعالم العربي. انطلق الحديث من تشخيص "الحالة الفنية" التي دفعت الى القيام بمشروع انشاء غاليري خمسين بسبعين. فتحدث سمير الصايغ عن بيروت ما قبل الحرب التي كانت تشكل "الملتقى الدائم للتجارب الاساسية الموجودة في العالم العربي، والمجتمع الفني الذي تألف من جمهور متحمس للقضايا الفنية، وفنانين كانوا كلما ارادوا ان يعبروا عن جديد ابداعهم وجدوا في بيروت تلك الفسحة التي تسمح لهم بذلك". وبيروت الحرب لم تفقد صالات العرض وجمهورها الفني فحسب انما اجهضت الحلم وخسرت القدرة على الاتصال، فانحصرت في حدود انشطة فنية صغيرة بقيت على مستوى الاحياء ضمن اطر الحرب وأجوائها. وعلى الرغم من سنوات الحرب الطويلة، لم ينشأ سوق فني آخر في العالم العربي فبقيت بيروت تتفرد بالمقام. من هنا انطلق مشروع الغاليري "محاولة" كما تسميها نورا "لاعادة بيروت مرة ثانية الى موقعها كمحطة استراتيجية في الاتصال او التفاعل الفني مع العالم وبالاخص مع العالم العربي". فأمسكت غاليري "50 x 70" بطرف الخيط الفني المقطوع منذ السبعينات، و"لحقت نضج حسين ماضي وجديد فاتح المدرس وضياء العزاوي وأحضرتهم جميعاً الى بيروت في معارض استقطبت الناس من جديد"، كما يقول سمير الصايغ مشيراً الى ان "اهم دور للغاليري كان يكمن في اعادة فتح الحوار ليس مع الفنانين بل بين الناس والفنانين". وتوحد الكل في التعبير عن "التعطش المتصاعد لثقافة فنية جديدة ولانفتاح على مجريات الفنون في الخارج". فسيدة قصر المختارة من الذين يرفضون "التقوقع في لبنان وفي اللبننة"، اذ ان بيروت "لم تكن يوماً الا تلك المدينة المنفتحة الممتدة في تواصلها الثقافي مع الخارج". والمنطلق كما تقول نورا جنبلاط "كان اعادة هذا الاتصال الفني بالعالم العربي الذي يهمنا كثيرا". فكانت غاليري خمسين بسبعين حسب تعبير صاحبتها "فتحة هامة على العالم العربي ومكاناً للاكتشاف يتم فيه التواصل بين الفنان الرسام والجمهور". لذلك تنظر نورا الى المهمات الملقاة على عاتق صالة العرض الفنية بعين جدية ومحترفة، "اذ ان الغاليري المحترمة تحرص على الالتزام بسلوكية فنية تحددها لنفسها، لتتمكن من فرز خياراتها ومفاهيمها الفنية والتعامل بنزاهة ومصداقية مع الفنان والجمهور معاً". ملتقى الفنانين العرب قراءة لتجربة غاليري 50 x70 خلال السنتين، وللمعارض التي اقامتها لفنانين عرب منهم على سبيل المثال لا الحصر: فاتح المدرس وضياء عزاوي ومنى السعودي وحسين ماضي وريما أميوني، تدل على ان بيروت بدأت بالاستيقاظ الا انها ما زالت في "مرحلة التثاؤب الفني" سمير الصايغ ميال الى التشاؤم لأن "الآمال ما زالت محبطة والاتصال صعباً والجمهور متفرقاً. مي مكارم تشكو من اجترار "النوستالجيا" في اللوحات الفنية المحلية "التي تفرط في رسم البيت اللبناني بقرميده الاحمر المعهود والمناظر الطبيعية اللبنانية المتشابهة والمتكررة". اما نورا جنبلاط فتعتبر ان "تجربة الحرب لم تنضج بعد لتثمر فنياً"، والهدف يبقى في توظيف "نوستالجيا الفنانين العرب في بيروت وتحويل الغاليري الى نافذة على العالم العربي يطل منها الفنانون المصريون والمغاربة والسودانيون واليمنيون الى جانب السوريين والفلسطينيين والعراقيين. وهكذا يستطيع اللبنانيون ان يتابعوا ما يجري من اعمال فنية جديدة في الخارج، تأتي بأفكار وإيحاءات متطورة وفريدة في ابداعيتها". وبامكان صالة عرض فنية كما تطرح نورا "ان تساند دور معهد للفنون الجميلة وقد تقوم بدور تثقيفي. فكما يعلم الولد على حب الطبيعة واحترام الاشجار فباستطاعة الغاليري ان تتيح للناس فرصاً اكبر للتعرف على الفن واحترامه والتقرب منه". في الازمنة القاحلة لا تتوقف الحركة الفنية عن بلورة قيم ومفاهيم جديدة. وكما يقول سمير الصايغ، فان "زمن الحياة الثقافية يكون أوسع من الزمن السياسي والاجتماعي، ويحوي على احتمالات اكثر". من هنا، والى ان يتقدم جيل بنتاج جديد تستمر غاليري 50 x 70 في قطف القدرات الفنية من ارجاء العالم العربي واستضافتها في بيروت. وفي اطار مهرجانات بيت الدين، قصر الشعب، تعمل نورا وليد جنبلاط هذا العام، بمعاونة اصدقاء تخص منهم بالذكر انطوان مدوّر وابنه، على استحضار باتريك دوبون وفرقته من دار اوبرا باريس، وطاقم من فرقة البولشوي الروسية لاحياء مهرجانات "لكل الشعب". لكن القرار مهدد بصيف انتخابي عاصف "والوضع في المنطقة بشكل عام سيكون صعباً كما اتصور". قد تكون نورا جنبلاط من النساء الجميلات ولكن تمايزها الجمالي الفعلي يفرض نفسه في كونها سيدة قصر تنشط بدل ان تتصدر، وتزرع بيد خضراء اثلاماً حصادها يعد بمواسم ثقافية وفنية جديدة. فالفن كما ذكرت في حديثها "تجربة انسانية عتيقة وعميقة جداً في تاريخ الحضارات والمجتمعات، وتعبير ابداعي راقٍ روحاني متأصل في الانسان الذي استفرد دون غيره من الكائنات بمملكتي "الابداع والخيال". فهل هناك ولد واحد لم يأخذ قلمه لأول مرة في الرسم صور وجه قمر له عينان وفم؟