قبل نحو عامين، وامام المؤتمر المنعقد لمباركة الميثاق الوطني قال الملك حسين: "ان كثرة الازدحام تعيق الحركة"، في اشارة واضحة الى العدد الكبير من الاحزاب تحت التأسيس التي بدأت بالاعلان عن نفسها منذ مطلع عام 1990، بعد عودة الحياة النيابية الى الاردن. والاحزاب السياسية في الاردن، جميعها، ما زالت تحت التأسيس لأن قانون الاحزاب ما زال في طور التشريع. وحتى لو وافق عليه مجلس الاعيان من دون اي تعديل على الصيغة التي ورد بها في مجلس النواب فلا بد من مصادقة الملك عليه ثم مرور ثلاثين يوماً من نشره في الجريدة الرسمية قبل نفاذه، كما يقضي القانون نفسه. ولا بد هنا من الاشارة الى الالية التشريعية في الاردن. فحسب الدستور الاردني تحيل الحكومة مشاريع القوانين الى مجلس النواب الذي يرفضها او يوافق عليها من دون تعديل او يضيف تعديلات على المواد القانونية ثم يحيلها الى مجلس الاعيان، فان وافق عليها كما وردت من مجلس النواب صادق عليها الملك ووضعت موضع التنفيذ. اما اذا ادخل مجلس الاعيان تعديلات او رفض مشروع القانون فانه يعود الى مجلس النواب، فاذا اصر على موقفه الاول يعيده الى مجلس الاعيان. وفي مثل هذا الحال اذا عاد مجلس الاعيان وأصر على موقفه يجتمع المجلسان معاً ويصوتان كمجلس واحد على القانون. وعلى رغم بوادر الخلاف التي ظهرت لدى مناقشة مجلس الاعيان لمشروع قانون الاحزاب السياسية، بالصيغة التي ورد بها من مجلس النواب، الا ان المراقبين يؤكدون ان القانون سينجز خلال الدورة الاستثنائية لمجلس الامة الاردني الحالية والتي يعتقد ان تفض قبل نهاية آب اغسطس الجاري. ونعود لقصة الاحزاب الاردنية التي بدأت بالظهور الى العلن منذ نحو ثلاث سنوات بانتظار صدور القانون، بعد نحو اربعين سنة من حظر الاحزاب في الاردن. يمكن حصر عدد الاحزاب الاردنية تحت التأسيس بنحو 65 حزباً تتوزع على اربعة اتجاهات على النحو الآتي: 1 - الاتجاه القومي، ويضم القوميين المستقلين والبعثيين والوحدويين وله 14 تنظيماً. 2 - الاتجاه الاسلامي، ويضم الاخوان المسلمين والجهاد الاسلامي وكتائب الجهاد ودار القرآن والمعتزلة وحزب التحرير، ويضم 12 تنظيماً. 3 - الوسط او الليبراليون او المحافظون 17 تنظيماً. 4 - اليسار، ويضم الاشتراكيين بمختلف ميولهم، 22 تنظيماً. على ان هذه الارقام لا تشير بشكل واقعي الى عدد الاحزاب التي ستظهر في الاردن عند تطبيق قانون الاحزاب السياسية. فبالاضافة الى الشروط التي يضعها القانون للموافقة على الترخيص للاحزاب، فان معظم الاحزاب تحت التأسيس - المشار اليها ما زالت تمر بمرحلة هلامية تتحرك بجميع الاتجاهات عساها تجد مظلة اخرى تندرج تحتها لأن عدداً منها لا وزن له ولا يستطيع تأمين شروط الترخيص للاحزاب. ويعرّف قانون الاحزاب الاردني الحزب السياسي على النحو التالي: "الحزب كل تنظيم سياسي يتألف من جماعة من الاردنيين وفقاً للدستور واحكام القانون بقصد المشاركة في الحياة السياسية وتحقيق اهداف محددة تتعلق بالشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية ويعمل بوسائل مشروعة وسلمية". وتشترط المادتان 19 و21 من القانون على الاحزاب الاعتماد الكلي في مواردها المالية على مصادر اردنية محلية معروفة ومعلنة ومحددة. وعدم ارتباط قيادة الحزب واعضائه تنظيمياً او مالياً باية جهة غير اردنية، وعدم جواز توجيه النشاط الحزبي بناء على اوامر او توجيهات من اية دولة او جهة خارجية. كما اشترط القانون ألا يقل عدد الاعضاء المؤسسين للحزب عن خمسين شخصاً، اضافة الى عدد من الشروط الكفيلة بان تجعل عدداً كبيراً من الاحزاب تحت التأسيس حالياً مجرد عناوين او شعارات، فاما ان تبحث عن تنظيمات اخرى للاندماج معها. او تختفي عن الساحة عند البدء بالترخيص للاحزاب. القوميون واليسار الى ذلك فقد وعى السياسيون الاردنيون انه من غير المعقول ان تبدأ مرحلة الاحزاب الفعلية في مثل هذه الاجواء حيث العدد الكبير من الاحزاب والاتجاهات الامر الذي سيقود الى الانفلات ومن ثم التصادم داخل الاتجاه الواحد وليس بين الاتجاهات السياسية فحسب. الاسلاميون اخذوا زمام المبادرة منذ البداية فشكلوا "جبهة العمل الاسلامي" كحزب سياسي اصبح من اكبر التنظيمات السياسية او - ربما - اكبرها على الاطلاق، وقد تكونت نواة الحزب من حركة الاخوان المسلمين التي تمارس النشاط السياسي منذ نصف قرن تقريباً، اضافة الى عدد من الحركات والاتجاهات الاسلامية. على ان الجبهة لن تضم كافة الاحزاب الاسلامية تحت التأسيس. فهناك احزاب اسلامية تتناقض مع توجهات الاخوان المسلمين لكنها ستظل احزاباً صغيرة ضمن الاتجاه الاسلامي، وقد لا تستطيع غالبيتها ضمان شروط الترخيص كأحزاب سياسية. من جانبها، تجمعت بعض الاتجاهات القومية واليسارية فانخرطت في تجمع حمل اسم "التجمع القومي العربي الديموقراطي"، وضم قوميين من مختلف الاتجاهات بعثيين وقوميين مستقلين واشتراكيين. غير ان هذا التجمع لا يسعى لان يكون حزباً بل هو مجموعة من الاحزاب تجمعت للتنسيق في ما بينها، وهو، اي التجمع - غير مرشح للاستمرار كتكتل سياسي، وقد يجتمع اعضاؤه عند الاحساس بخطر مشترك او بتحقيق مصلحة مشتركة. على صعيد الاتجاه القومي لم تبرز جهود حقيقية للاندماج، ولا تبدو في الافق علامات على محاولات جادة، بسبب تناقض التنظيمات داخله بين جناح العراق وجناح سورية وحركة 21 شباط المناقضة للجناحين والتنظيم الموحد، وكلها في اطار حزب البعث. وكذلك الناصريون والمستقلون والديموقراطيون ضمن اتجاه القوميين العرب. وليس حال القوميين بأفضل من حال اليساريين الذين يتوزعون بين عدد من الاتجاهات الاشتراكية والشيوعية المتناقضة في ما بينها احياناً. الوسط لكن احوال احزاب الوسط المحافظة تبدو احسن بكثير من احوال القوميين واليساريين وربما الاسلاميين ايضاً. صحيح ان عددها بلغ 17 تنظيماً الا ان محاولات التقريب بينها اثمرت واصبحت في طريقها الى نجاح قد يؤدي الى احتلالها مركز الصدارة في التركيبة السياسية المنتظرة. ويقصد باحزاب الوسط المحافظة. تلك التي يتزعمها سياسيون ممن تبوأوا مناصب وزارية او قيادة اجهزة في السلطة الاردنية خلال السنوات الماضية او من السياسيين التقليديين. فمنذ مطلع العام الماضي رأى عدد من المسؤولين السابقين وفي مقدمتهم الدكتور فايز الطراونة عضو الوفد الاردني الى مفاوضات السلام ان تعدد احزاب الوسط لا يفيد العمل السياسي في المرحلة المقبلة لانه يشتت جهودها ويتيح المجال لغيرها، فكونوا نواة للجنة توسعت حتى ضمت 70 شخصية اردنية وترأسها الدكتور عبدالسلام المجالي وهو رئيس الوفد الاردني لمفاوضات السلام حالياً. كان ذلك قبل ان يتحدث احد بشأن مؤتمر السلام، ويبدو ان تزعم المجالي والطراونة للمفاوضات السياسية بين احزاب الوسط في الداخل وللوفد الاردني للتفاوض مع اسرائيل مجرد مصادفة. الدكتور فايز الطراونة مقرر لجنة السبعين للحوار بين احزاب الوسط شرح لپ"الوسط" مهام اللجنة واعمالها فقال "ان اللجنة وجدت ان الاغلبية الصامتة من الناس، وبعد غياب 35 سنة للعمل الحزبي، ما زالت في حالة ترقب لما ستتمخض عنه التوجهات الحزبية في الاردن بعد صدور الميثاق الوطني وبعدما اصبح قانون الاحزاب على الابواب. وقد وجدنا ان ثمة مجالاً لتنظيم كافة الاتجاهات التي تدعو الى الاعتدال السياسي والوسطية في معالجة الامور والانطلاق من الدستور والميثاق وموقع الاردن في المجموعة العربية، اي من الهموم الداخلية والخارجية للوطن - اي الاحزاب التي لا تأخذ المنحى اليميني او الديني او اليساري. وهدفنا هو البحث عن صيغة تجمع هذه الاحزاب لتتكامل مع التنظيمات القائمة، سواء في اليمين او اليسار لخدمة الاردن والامة، تتنافس معها ولا تتصادم او تتناحر وجدنا اننا امام تسميات كثيرة وصلت في الادبيات الى 27 تنظيماً ثم تبين لنا ان 10 منها لم تكن جدية. فعقدنا الاجتماع الاول للحوار الوطني في حزيران يونيو 1991 وحضره 17 تنظيماً، وبعد شهر واحد اي في تموز يوليو وعندما انعقد الاجتماع الثاني للحوار تقلص العدد الى 12 تنظيماً بعد اندماج خمسة تنظيمات. وما زلنا مستمرين في الاتصال بعد اقرار مبدأ الاعتدال السياسي الذي ما زالت صيغته النهائية قيد البحث والصياغة. وقد تبين من خلال الحوار ان ثلاثة ظلال تندرج ضمن مفهوم الوسط او الاعتدال وهي: يمين الوسط والوسط ويسار الوسط. وما يزال الحوار منصباً حول علاقة الوطنية بالقومية والوطنية بالدين والقومية بالدين والاردنية الفلسطينية… ووجدنا ان الخلافات ليست جوهرية. نحن في اللجنة نؤمن بمهفوم الوطن اولاً. لكن هذا لا يعني عدم وجود ثانياً وثالثاً واربعاً. نريد الانطلاق من هموم الوطن على ان تبقى العروبة عنواناً رئيسياً في كل توجهاتنا. فالاردن جزء لا يتجزأ من الامة العربية بحكم موقعه التاريخي والجغرافي والوجداني". وكما يجيب الدكتور الطراونة فان الوسطية ليست ولن تكون في مواجهة التيار القومي. ويقول: "ان اي اتهام لتوجهنا بالقطرية مردود على اصحابه ولكننا في توجهنا القومي لا بد من تحديد الاولويات فنبدأ بالاردن كجزء من امته". ويضيف: "نأمل بان نستمر بالمحاورة الجادة لنصل الى ائتلاف جبهوي يضم الظلال المختلفة. والطموح الاكبر ان نصل الى حزب واحد في الوسط يجمع كل هذه الظلال ضمن ميثاق واحد يجمعها". وعما اذا كان الهدف من هذه الجهود مواجهة التيار الاسلامي يقول الطراونة: "ان الاسلام للجميع ولا يمكن ان يكون حكراً على حزب، فالاسلام ديننا ومنه نستمد كل توجهاتنا. اما عن التيار الاسلامي في تحركه السياسي فاننا نريد ان نتكامل معه بمفهوم التعددية السياسية لتقوية وطننا ولا نقبل بالعزلة". دور السلطة هل كان للسلطة دور في تشكيل لجنة السبعين؟ يجيب الطراونة ان "فكرة انشاء اللجنة برزت خلال جلسة بين عدد من الاصدقاء وكان واحداً منهم، بينما هم يتبادلون الرأي حول الاحزاب التي يمكن ان ينخرطوا فيها حيث وجد ان اغلب احزاب الوسط تتكلم اللغة نفسها تقريباً. وهذه اللغة تشكل قواسم مشتركة ولا بد من قيام جهة تأخذ على عاتقها ابراز هذه القواسم لجميع التنظيمات. وجدنا انه لا بد من الاتصال بشخصيات غير ملتزمة حزبياً ولها وزنها وتأثيرها للقيام بهذه المهمة وبالفعل فقد تشكلت اللجنة من سبعين شخصية". ويضيف: "لم يكن هنالك اي طلب رسمي من اي جهة في الاردن لتشكيل اللجنة، الدافع الوحيد وجود الرغبة في الحوار ووجود الشخصيات الراغبة بادارة الحوار والمشاركة فيه وقد بدأ النجاح يتحقق منذ البداية. واود ان اشير في النهاية الى ان لجنة السبعين لا تضم اي نائب او وزير عامل". الساحة السياسية في الاردن ما زالت مفتوحة امام التيارات الاربعة التي تعمل بكل جد على استقطاب المزيد من المؤيدين. ويبدو واضحاً ان الاغلبية الحزبية ما زالت تتأرجح بين تياري الوسط والاسلاميين، فهؤلاء يسعون الى التجمع واولئك بنوا جبهتهم. لكن السيد حسين مجلي، وهو من القوميين المستقلين، قال لپ"الوسط": "ان الرهان في النهاية سيكون على التوجه القومي". اما المحافظون فيقولون ان الوسط هو البديل. والاسلاميون يرفعون شعار "الاسلام هو الحل". ويرى اليساريون ان الاشتراكية ما زالت البديل الاصلح. ولكن يبقى للعشيرة والتقاليد والعادات دور كبير نراهن على انه هو الذي سيرجح كفة على حساب الاخرى، خصوصاً بين التيارين الوسطي والاسلامي. بقي ان نشير الى الطلاق الذي حدث اخيراً بين التيارين القومي والاسلامي داخل مجلس النواب، حيث تبادل الطرفان اتهامات اثناء مناقشة قانون لانشاء صندوق للتنمية والتشغيل للمساهمة في حل مشكلة البطالة: القوميون اتهموا الاسلاميين بان "الاسلام هو الحل" هو مجرد شعار يحملونه غير جاهز للتطبيق. ورد الاسلاميون بان مصطلح "شعار" لم تعرفه امتنا الا عندما غلب الاتجاه القومي. وكان القوميون والاسلاميون تحالفوا خلال السنوات الثلاث الماضية في مواجهة المحافظين داخل مجلس النواب.