خطت الحكومة اللبنانية الخطوة الاقتصادية والمالية التي كان يجب ان تتخذها منذ مدة بعيدة لتقويم فاتورة الحرب التي تسبب بها فرقاء الصراع والقوى الخارجية، والتي يترتب، على الضعفاء والفقراء دفع فاتورتها، حسب منطق الاقوياء. لكن في هذه الخطوة ما هو ايجابي وما هو سلبي. ولعل الايجابي ان الحكومة حددت سقفاً للانفاق العام بلغ 1930 مليار ليرة لبنانية عن السنة 1992، بعدما كان رقم الموازنة 1430 ملياراً، ثم ارتفع الى الالفي مليار وخفض الى 1777 ملياراً. وتحديد سقف الانفاق، اذا عُمل به، من شأنه ضبط النفقات التي تستحدث عن طريق الاقتراض الداخلي، سواء من مصرف لبنان، او من المصارف التجارية، عبر سندات الخزينة المصدرة اسبوعياً. لذلك تلازم ضبط الانفاق مع تدابير رادعة للاستدانة من مصرف لبنان، اذ "نظراً الى ان الاستدانة من مصرف لبنان تشكل عاملاً تضخمياً كبيراً، فان مجلس الوزراء قرر وضع سقف لسحوبات الخزانة من مصرف لبنان بحيث لا تتعدى حدود 9 في المئة من مجموع الانفاق العام المقرر للنصف الثاني من 1992". وقد تمت الموافقة على اتفاق مع مصرف لبنان في هذا الشأن سيعرض على مجلس النواب لاقراره. ولم تحدد الحكومة حجم الانفاق للنصف الثاني من العام. وهو حتماً اكبر بكثير من حجم نصف الانفاق العام المقدر بپ1930 مليار ليرة، ذلك ان الانفاق خلال النصف الاول من السنة تم بموجب القاعدة الاثني عشرية حسب بنود موازنة العام 1991 البالغة 1170 مليار ليرة، بحيث تقسم على 12 شهراً. فيكون الانفاق الشهري حوالي 94 مليار ليرة، ويصير 565 ملياراً في ستة اشهر، بحيث يبقى 1365 مليار ليرة للانفاق في النصف الثاني من السنة وحجم الاقتراض من مصرف لبنان 122 مليار ليرة لبنانية، وهو ايضاً حجم كبير يؤثر على سعر صرف الليرة اللبنانية، لأن اي اقراض من المصرف المركزي للخزانة يقابله اصدار ورقي للعملة، كما ان ضخ مثل هذه السيولة للانفاق الاداري يحدث تضخماً كبيراً. هذه الاجراءات تهدف الى تخفيف العجز في الموازنة العامة للدولة. والذي بلغ في الأعوام الثلاثة الاخيرة 63 و58 و56 في المئة من حجم الانفاق، بمعنى ان واردات الخزينة المالية النظرية لم تتجاوز نسبة 37 في المئة عام 1990 و42 في المئة عام 1991 و44 في المئة مقدرة للسنة الجارية. وترمي الاجراءات الى خفض النسبة الى 38 في المئة من حجم الانفاق، بحيث يصير مستوى الواردات 1200 مليار ليرة لبنانية، وهذا يعني خفضاً للعجز الى 20 في المئة خلال النصف الثاني من السنة الجارية في مقابل 54 في المئة في الفصل الأول. وإذا كانت الدولة تستطيع حصر العجز بعشرين في المئة من النفقات، فهذا يعني انها "تحرك آلة عمياء" لتحقيق هذا الهدف، وهي أقرت الآتي: أولاً: رفع سعر الدولار الجمركي الى 800 ليرة لبنانية، بعدما كان 200 وبغض النظر عن الفائدة الاقتصادية لناحية حماية الصناعة اللبنانية وتعزيز القدرة المالية، فان هذا التحديد سيحقق 210 مليارات ليرة لبنانية في النصف الثاني من السنة الجارية، اذا استمر حجم الاستيراد على وتيرته. ذلك أن المعدل الشهري الوسطي للواردات الجمركية بلغ 14 مليار ليرة منها 50 في المئة عن السيارات و50 في المئة عن البضائع المختلفة. ثانياً: رفع الرسم الجمركي على البنزين بحيث لا يقل عن الف ليرة عن كل صفيحة بنزين من 20 ليتراً. ولما كان استهلاك لبنان اليومي من البنزين هو في حدود 5،4 مليون ليتر على مدى 300 يوم في السنة، اي ما يوازي 225 الف صفيحة يومياً، فان الحد الادنى الذي يمكن تحصيله في النصف الثاني من السنة هو 34 مليار ليرة لبنانية. ثالثاً: تفعيل التحقق والجباية في الضرائب والرسوم المباشرة وغير المباشرة، بما فيها استيفاء الاموال المستحقة لمؤسسة كهرباء لبنان، وكانت هذه المؤسسة استوفت العام الماضي 20 مليار ليرة تمثل 25 في المئة في فقط مما لها بدل فواتير اصدرتها بقيمة 80 مليار ليرة، اما الرسوم الباقية فغالبية الذين يدفعونها هم من عامة المواطنين، فيما الاثرياء يتهربون منها او يدفعون نسبة قليلة مما يتوجب عليهم. رابعاً: اكد مجلس الوزراء انه سيحقق عائدات من جراء اقرار مشاريع قوانين مخالفات البناء والاملاك العامة البحرية والرسوم المتعلقة باشغال هذه الاملاك، مما يعني ان الدولة ستثبت هذه المخالفات غير القانونية، وتجعل لها قانوناً يحميها لتؤمن واردات مالية للخزانة، علماً ان واضعي اليد على الاملاك البحرية سيجوا الشاطئ وحرموا المواطنين منه، إلا إذا دفعوا الثمن غالياً، وتقدر العائدات من الاملاك البحرية، اذا نظمت بصورة صحيحة بحوالي 300 مليار ليرة لبنانية. خامساً: زيادة رسوم الميكانيك على السيارات ذلك ان اقتناء السيارات في لبنان يصبح يوماً بعد اخر ضرورة للتنقل، وإن كان غير منظم تنظيماً صحيحاً بسبب غياب النقل المشترك في كل المناطق، او لتردي خدمات النقل المشترك حيث هو، وبات في البلد اكثر من مليون و200 الف سيارة سياحية، يمكنها ان تؤمن مورداً مالياً مهماً لولا ان نسبة 80 في المئة منها هي للمواطنين العاديين الذي ينتقلون يومياً الى اعمالهم، وزيادة الرسوم على المحروقات وعلى الميكانيك تجعل كلفة النقل وشحن البضائع ونقلها مرتفعة جداً، خصوصاً ان الحد الادنى للأجور لا يؤمن اكثر من ثمن 12 صفيحة بنزين. ان النتائج السريعة لهذه القرارات تجلت برفض الفئات العمالية لها اضافة الى بعض مراكز القوى السياسية والروحية. ثم بارتفاع سريع في سعر الدولار الاميركي من 1745 ليرة لبنانية الى 1875 ليرة لبنانية في منتصف الشهر الماضي. غير ان رئيس بعثة البنك الدولي الى لبنان الدكتور يوسف شقير اعتبر "البرنامج الذي اقرته الحكومة لمعالجة الوضعين المالي والاقتصادي مهم جداً لاعادة الثقة من الخارج، ان كان من ناحية المؤسسات الدولية، كالبنك الدولي، او الدول التي تريد مساعدة لبنان بتمويل اعادة الاعمار". وعبّر عن استعداد البنك الدولي لتمويل مشاريع اعادة الاعمار بعد هذه الاجراءات. فهل تكون الحكومة اللبنانية ربحت ثقة الخارج، وخسرت ثقة الداخل؟ ام انها تستطيع ضبط الامور وتجبي من جميع الفئات فتخفف الاعباء عن المواطنين العاديين؟!