عندما حزمت الشابة الصغيرة لطيفة العرفاوي حقائبها وغادرت وطنها الام تونس متجهة الى القاهرة قبل ثماني سنوات، لم تكن تضع نصب عينيها ان تحقق النجاح في عالم الغناء والالحان فقط، بل عاهدت نفسها ان تكمل دراستها الموسيقية، وكان اول ما فعلته ان التحقت بالمعهد العالي للموسيقى العربية، وهذه كانت اول امنية لها. اما الامنية الثانية، فكانت ان تلتقي بالملحن محمد عبدالوهاب لتحصل على تأشيرة الدخول الى عالم الفن الاصيل، وتحققت الامنية الثانية بالمثابرة، وبعد فترة، التقت لطيفة بموسيقار الاجيال واستمع الى صوتها وشجّعها على ان تستمر في طريق الفن. البداية لطيفة العرفاوي - كما تُعرف في تونس - حملت لقب لطيفة التونسية اولا لدى وصولها الى القاهرة، لكنها الآن اصبحت مجرد لطيفة من دون لقب، ولكن لا يزعجها ان يمنحها الناس لقبا أو لا، المهم لديها ان يستمع الناس لما تقدمه ويطربوا له ويدركوا هدفها الكبير من الغناء والذي تلخصه في جملة واحدة ببساطة وهي "محاولة الحفاظ على روح الاصالة في الالحان ذات الشكل الجديد التي تقدمها". ولطيفة، لطيفة المعشر بالفعل، ابتسامتها العذبة لا تفارق شفتيها، وحديثها سلس جذّاب تنتقل فيه بيسر ما بين اللهجتين التونسية والمصرية، وتحكي بدايتها مع الفن وهي تضحك بين الحين والآخر كلما تذكرت ذكرى او حادثة معينة. تقول: "حبي للغناء كان هوساً مستمراً لم يتوقف منذ طفولتي، وشجعتني عائلتي التي تحب الفن على ان اخوض غماره، وخاصة والدتي التي كانت تصحبني الى برامج الاطفال في الاذاعة والتلفزة التونسية. وكنت بالطبع أحب تقليد اسمهان وام كلثوم، وهذه فترة اعتقد ان كل مطربة جديدة تمر بها قبل ان تحترف لسببين: الاول هو جودة الالحان التي قدمتها كلتا المطربتين، والثاني أداء الاغاني الكلاسيكية يعتبر تدريباً للصوت في خطواته الاولى. المهم الا يتقوقع الفنان في قالب مطرب او مطربة اخرى ويظل اسير تقليد اعمالهم، او كما يقولون بالمصري "محلك سر". بعد ذلك كان من الطبيعي ان اشارك في مهرجانات الاصوات الشابة في تونس، وهي الفرصة الكبرى لظهور الاصوات الجديدة وتقديمها الى قطاع عريض من الجمهور. واذكر انني بعد ان تقدمت لعدد من المهرجانات بأغنيات نالت نجاحاً وتشجيعاً، عاهدت نفسي على ان اسعى لتحقيق الشهرة الاوسع على نطاق العالم العربي كله. عندئذ قررت السفر الى مصر، وكنت اتمنى ان اكمل دراستي للموسيقى لاصقل موهبتي، والحمد الله تحققت الامنيات، وان كنت اعتبر نفسي ما زلت تلميذة في مدرسة الفن الكبرى". وتلميذة الفن قاربت الحصول على درجة الماجستير من المعهد العالي للموسيقى، وهي اعمق تجربة يمكن ان يمر بها الفنان، ان يدرس لهدف الدراسة فقط دون هدف الكسب. ودراسة الموسيقى بالنسبة للطيفة هي اروع الانجازات التي حققتها في حياتها فقد كانت على حد تعبيرها "مثل الانسان الذي يعيش في الظلام ثم يرى النور فجأة". هذا النور لم يكن سوى معرفة معنى الالفاظ والمصطلحات الموسيقية العلمية، وفهم النوتة وقراءة الاعمال المختلفة للملحنين. تقول لطيفة ل"الوسط" "عندما عرفت معنى النوتة والطقطوقة والمقام الموسيقي كنت كمن يدخل مغارة علاء الدين ليكتشف الكنوز واللآلئ والمرجان. فهذه المعلومات على بساطتها هي الجواهر بالنسبة للفنان لأنها ادوات المهنة، اذا جاز التعبير. وهذه المعلومات على بساطتها ايضا لا يحصل عليها الانسان الا بالدراسة. ولذلك فإن دراسة الموسيقى في نظري هي حجر زاوية في شخصية الفنان، لا بد منه ليكتمل نجاحه". ولكن هل تجعل دراسة الموسيقى المطرب يتدخل في الالحان التي يؤديها؟ تجيب لطيفة بالنفي، فهي ترى ان الدراسة تكمل عطاء المطرب، وينبغي الا تكون عبئا عليه وسبباً للخلاف مع الملحن، لأن المؤلف والملحن والمطرب هم اعضاء فريق يهدف الى اخراج عمل جيد يرضي الجمهور ويثقفه ويسليه ويسمو بذوقه. أزمة الغناء العربي عبارة "يسمو بذوق الجمهور" تلفت النظر في حديث لطيفة، فماذا قصدت بذلك؟ وهل معنى هذا انها تلقي اللوم على الجمهور بالنسبة لما وصل اليه حال الاغنية العربية من هبوط احياناً؟ تجيب لطيفة "لا استطيع ان القي اللوم على الجمهور تماما، صحيح ان في السوق اغنيات هابطة، ولكن هناك ايضا الفن الجيد الذي اعتقد انه سيفرض نفسه بحكم طبيعة الاشياء. واذا كان الجمهور مسؤولا الى حدّ ما بسبب اقباله على شراء الشريط الهابط فالمسؤولية الكبرى تقع على عاتق الفنيين في الدول العربية. ولذلك فإني أطالب بالقيام بحملات اعلانية رقابية لتعريف الجمهور بقواعد الفن الاصيل واهمية هذه الفنون في حياتنا. كذلك لا بد ان يوجد جهاز رقابي فعّال تكون مهمته الارتقاء بمضمون الاغنيات، وانقاذ السوق والجمهور من الاعمال الغثة". اذا فالمسؤولية مقسمة من وجهة نظر لطيفة بين المسؤولين والجمهور فما هو دور الفنان؟ الا يحمل بعضا منها؟ فقالت بتأكيد جازم: "الفنان هو المسؤول الاول، لأن الفن التزام، وعندما يؤدي واجبه من حيث انتقاء الكلمات واللحن والاداء الراقي تعود الاغنية العربية الى عصورها المزدهرة مرة اخرى، ومهم هنا ان اركز على دور الاعلام في تقديم الفن الجيد، والعمل على الحد من الظواهر الضعيفة او الهابطة حتى لا تستشري". وترى لطيفة ان ساحة الغناء العربي ينقصها حالياً نشاط على مستوى جماهيري موسع، والمتنفس الرئيسي لهذا النشاط لا يكون الا من خلال المهرجانات، وتضيف: "المهرجانات الغنائية هي الرئة التي تتنفس بها الشعوب هذا اللون من الفن، وبالرغم من ان لدينا مهرجانات سينمائية وتلفزيونية مستقرة ومنتشرة الى حد ما، فإن المهرجان الغنائي ما يزال قاصرا، قديما كانت مهرجانات بعلبك فرصة طيبة، ولكن الساحة خالية الآن من مثل هذه المناسبات الهامة، والتي يجب ان تشمل في نظري الى جانب الاداء، حلقات للدراسة والبحث في القضايا التي تهم الاغنية العربية". وعن أحدث اغنياتها تقول لطيفة انها قدمت للجمهور ثلاث اغنيات هي "مسا الجمال" و"أرجوك أوعى تغيب"، و"الدنيا بتضحك ليه". ولكن لماذا لم تغنّ لطيفة القصيدة على رغم انها تملك مقومات غناء هذا اللون الصعب، فصوتها قوي ونبراته واضحة، ولغتها العربية على مستوى جيد؟ أجابت لطيفة بعد تفكير قليل: "فن غناء القصيدة هو من أرقى الوان الغناء، وبه نستطيع ان تخلق مع الجمهور في سماء الثقافة الممزوجة بالفن، فأم كلثوم مثلا أفلحت في ان جعلت رجل الشارع العادي يغني معها "هل رأى الحب سكارى مثلنا" ومحمد عبدالوهاب تلاعب بخيال المستمعين في عديد من القصائد، مثل كليوباترا، قالت، نجوى، والنهر الخالد وغيرها من القصائد المغنّاة، وانا من محبي الغناء بالفصحى وقدمت بالفعل ثلاث قصائد غنائية لم تذع بعد. ولكن بصراحة لا بد ان اعترف بأن المناخ الفني حاليا لا يوائم تقديم مثل هذه الاعمال، فالفنان يهمه ان يماشي العصر ويواكب التيار الساري من حوله، ولكني مع ذلك واثقة من ان غناء القصيدة سيعود للازدهار مرة اخرى في المستقبل". الفن الاستعراضي واسأل لطيفة عن تقديم الفن الاستعراضي، ولماذا أحجمت عنه الى الآن على رغم انها تملك مواصفات النجمة الاستعراضية من حيث الصوت والشكل والقدرة على الحركة، سواء على المسرح او في السينما؟ وتجيب وفي صوتها رنة أمل وكأن السؤال لقي صدى في نفسها "فن الاستعراض من اجمل الفنون الغنائية التي نفتقدها على الساحة الفنية الآن، وبعدما كانت السينما العربية تقوم عليه في عصر ليلى مراد وانور وجدي ومحمد فوزي وفريد الاطرش، اصبحنا الآن لا نقدم هذا اللون الجميل الا خلال الفوازير في شهر رمضان، وربما يرجع السبب في ذلك الى التكلفة العالية التي يتطلبها هذا الفن والاستعدادات والتمرينات والتجارب الشاقة له. ولكني احب فن الاستعراضات، واتمنى تقديم اغنية استعراضية او الاشتراك في تقديم عمل استعراضي، سواء على المسرح او السينما، ودلوني على من يقوم بانتاج مثل هذا العمل المكلف". سؤال آخر اوجهه الى لطيفة عن رأيها في الذين يتهمون جيلها من المغنين بأنهم لم يتركوا بصماتهم على الحياة الغنائية، وان انعدام التمرينات والتجارب بين المطرب والفرقة، والاعتماد على التسجيل على نظام "التراكات" يؤثر على مستوى الفن الذي يقدمونه، ومن هنا نلمس ازدهار الاغنيات السريعة شبيهة الفرانكو آراب، فتقول: "سؤال يحمل اكثر من شق، فبالنسبة للاتهام الموجه الى جيلنا بأنه لم يترك بصمة ربما في هذا بعض الظلم. توجد على الساحة اسماء لامعة اليوم مثل ميادة وسميرة سعيد وعلي الحجار وهاني شاكر، ونحن نحاول ان نقدم الجديد مع الحفاظ على روح الطرب الاصيل في الاغنية، اما من حيث "البصمة" فحاسبونا عليها بعد عشر سنين، لأن ترك مثل هذا الاثر مسألة تتطلب وقتاً. اما عن التسجيل حاليا من دون تجارب مكررة فهذه طبيعة العصر، اما انا فأحب النظام القديم، واتمنى ان اعمل به، ولكن هيهات، فطبيعة العصر هي الغالبة، ولا مفر من ان نساير التكنولوجيا. واخيراً بالنسبة لموجة الفرانكو آراب فهي مجرد لون موجود على الساحة، ولكنه لا يمكن ان يسمى فنا غنائيا بالمعنى الصحيح، واعتقد ان الاصوات التي تؤدي هذا اللون تدرك انها لا تقدم غناء اصيلا، وتعرف ان امكاناتها الصوتية محدودة، فالبعض يستخدمونه للوصول الى الشهرة السريعة وبهدف الكسب، ويقابل هؤلاء فنانون جادون يكدون لتقديم الفن الجيد والموسيقى العربية الاصيلة". واخيراً سألت لطيفة عن مواصفات المطرب الناجح في ضوء ما ذكرته عن هذه الموجة فقالت "مواصفات كثيرة، اهمها الموهبة بالطبع ثم البيئة المحيطة بالفنان، فهي عنصر اساسي يساعد على تكوينه، ويأتي بعد ذلك الاهتمام بالموسيقى، كأن يسمع الفنان كل المدارس الغنائية لكي يكوّن لنفسه ما يشبه الموسوعة، وفي هذا الاطار يمكن ان تلعب الدراسة الموسيقية دوراً مهما، لأنها تسهل عليه عملية تكوين هذه الموسوعة وتقصر له مشواره الى الشهرة والنجاح، وبالمناسبة، فالشهرة يسهل تحقيقها، اذ لا تتطلب أصالة، ولكن الصعب هو تحقيق النجاح الذي هو في نظري دوام الشهرة، وهو دليل على ان الفنان الناجح فنان اصيل ذو عطاء متجدد.