قائد القوات الخاصة للأمن والحماية يزور جناح وزارة الداخلية في "ليب 2025"    «السعودي - الأمريكي» يبحث الشراكات وتبادل الخبرات في صناعة الطيران    وزير خارجية سورية: حكومة جديدة مطلع مارس    أمير الشرقية يدشن فروع شمعة التوحد بالأحساء والظهران ويفتتح جمعية "نمو"    صندوق الاستثمارات العامة يعلن استثماره في شركة مصدر لمواد البناء    ركن الحرفيين يجذب زوّار معرض جازان للكتاب    جامعة الملك عبدالعزيز تحتفل بتخريج الدفعة ال ( 54 )    الأردن: لا توطين.. لا تهجير.. ولا حلول على حسابنا    كوريا الجنوبية تتجه لإقامة علاقات دبلوماسية مع سورية    "زين السعودية" و"هواوي" توقعان مذكرة تفاهم لتعزيز تجربة "حج 2025" عبر الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات    استشهاد فلسطيني في قصف إسرائيلي على رفح.. واعتقال 70 فلسطينيًا في الخليل    تراجع أسعار الذهب بعد تصريحات جيروم باول    حكومة لبنان: بيان وزاري يُسقط «ثلاثية حزب الله»    منصة "حوار في العمق" تناقش التحولات الإعلامية واستراتيجيات التطوير    «اليونسكو» تستشهد ب«سدايا» نموذجاً عالمياً في دمج البيانات والذكاء الاصطناعي    السعودية تتسلّم رئاسة الشبكة العالمية لسلطات إنفاذ قانون مكافحة الفساد    «أرسين فينغر» يطلع على استراتيجية المنتخبات والإدارة الفنية    ليث نائباً لرئيس الاتحاد العربي لكمال الأجسام    المملكة تواصل جهودها الإنسانية عالميًا عبر «الملك سلمان للإغاثة»    الدول العربية تبلغ واشنطن رفض خطة ترمب لغزة    بعد البشر والحجر.. الاحتلال يستهدف «المكتبات الفلسطينية»    مملكة الأمن والأمان    سلمان بن سلطان: القيادة تولي اهتمامًا بتنمية المحافظات    القيادة تهنئ الرئيس الإيراني بذكرى اليوم الوطني لبلاده    نيابة عن خادم الحرمين.. ولي العهد يرعى الحفل الختامي لمهرجان الملك عبدالعزيز للإبل    «ريمونتادا» مثيرة تقود ريال مدريد لكسر عقدة مانشستر سيتي بفوز تاريخي    شعرت بالاستياء لرحيل نيمار.. جيسوس: إمكانات" صلاح" تناسب الهلال.. ورونالدو فخر للبرتغاليين    "بونهور" مديراً فنياً لاتحاد كرة القاعدة والكرة الناعمة    أمير القصيم يكرم 27 يتيمًا حافظًا للقرآن    مجلس الوزراء برئاسة ولي العهد يؤكد : رفض قاطع لتصريحات إسرائيل المتطرفة بتهجير الفلسطينيين    مناقشة سبل مكافحة الأطفال المتسولين    إزالة «العقارات العشوائية» بمكة ينشط أسواق المستعمل والسكراب    قرد يقطع الكهرباء عن بلد بالكامل    من أعلام جازان.. المهندس يحيى جابر محسن غزواني    انطلاق فعاليات الاحتفاء بيوم التأسيس بتعليم جازان تحت شعار "يوم بدينا"    الصيد.. تجربة متكاملة    المملكة 11 عالميًا والأولى إقليميًا في المؤشر العالمي لسلامة الذكاء الاصطناعي    فنانة مصرية تتعرض لحادث سير مروع في تايلاند    توثيق تطور الصناعة السعودية    الساعاتي..عاشق الكتب والمكتبات    رأس اجتماع لجنة الحج والزيارة بالمنطقة.. أمير المدينة: رفع مستوى الجاهزية لراحة المصلين في المسجد النبوي    أمير منطقة المدينة المنورة يرأس اجتماع لجنة الحج والزيارة بالمنطقة    أمريكية تفقد بصرها بسبب «تيك توك»    «حملة أمل» السعودية تعيد السمع ل 500 طفل سوري    بعض نقاط التمييز بين اضطرابات الشخصية    بصراحة مع وزير التعليم !    صندوق الاستثمارات العامة شريكاً رسمياً لبطولة السعودية الدولية للسيدات للجولف    «المحتوى الشبكي».. من التفاعلية إلى الاستقطاب!    ما بعد الإنسانية    "ابن حثلين": تشريف ولي العهد لحفل توزيع جوائز مهرجان الإبل يؤكد دعمه الدائم لموروثنا الوطني الأصيل    أوغندا تسجل إصابات بإيبولا    الاستحمام البارد يساعد على النوم    القشطة والفطائر على وجبات الإفطار بالمسجد النبوي    القيادة تعزّي رئيس ناميبيا في وفاة مؤسس الجمهورية    زار" خيبر" واستقبل المواطنين.. أمير المدينة: القيادة مهتمة بتنمية المحافظات والارتقاء بمستوى الخدمات    رئيس الوزراء الصومالي يزور حي حراء الثقافي بمكة    الإنسان قوام التنمية    "مفوض الإفتاء بعسير": يستقبل آل جابر المُعين حديثًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من لبنان الى البوسنة والهرسك ومن لوس انجيلس الى الجزائر : العالم يعيش عصر الفوضى الانتقالية والتحول من تاريخ قديم الى تاريخ جديد
نشر في الحياة يوم 15 - 06 - 1992

يمتد خط من الجنون الملتهب بالأحداث الدامية، يشعل الحرائق ويشيع الخراب في قارات العالم، منذ تفجرت ظاهرة "اللبننة" في اوائل السبعينات من هذا القرن، حتى اندلاع ظاهرة "البوسنة والهرسك" من تحت رماد يوغوسلافيا المنهارة - في اوروبا - في اوائل التسعينات.
ولا يستطيع المرء - على ضوء استقراء حركة الاحداث وردود افعالها المترابطة بعضها مع بعض في هذه المسافة الزمنية التي يصل حجمها الى عشرين عاماً وحسب - الا ان يخرج بنتيجة عامة مرجحة وهي ان ظاهرة البوسنة والهرسك تمثل الوجه الآخر من "اللبننة" وان الظاهرتين معاً تشكلان ملمحاً رئيسياً من ملامح عالم القرن العشرين المضعضع المنهك، والذي يأمل في الوقت نفسه، الولوج الى القرن الحادي والعشرين في صياغة نظام دولي جديد.
غير انه، اياً كانت نوعية النقلة من القرن الهرم الى القرن اليافع، لم يعد ممكناً - في اطار ما تفرزه احداث السنوات الاخيرة من القرن العشرين - استمرار القول بما تواضعت عليه تحليلات الغرب والشرق، من ان "اللبننة" ليست الا ظاهرة عربية بحتة او بالأكثر شرق اوسطية تنتمي الى العالم المتخلف او ما كان يسمى في الادبيات العالمية "العالم الثالث".
كذلك فإنه يبدو نوعاً من العمى السياسي وبلادة الفكر، القول ان البوسنة - هي الاخرى - مجرد ظاهرة من نبت ذلك الجزء الاقل تطوراً من اوروبا، تتصل - فقط - بعملية التبديلات والتغييرات الدرامية في العالم الاشتراكي الذي فقد المبرر السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي لوجوده التاريخي كمنافس للعالم الرأسمالي.
صحيح ان ثمة ظروفاً وعوامل خاصة متصادمة افرخت في واقعين محليين واقليميين هاتين الظاهرتين، ولونت سمات كل ظاهرة وكشفت عن نقطة انفجارها.
لبنان في السبعينات - على سبيل المثال - واجه تراكماً رهيباً من الاحداث جرى تجاهلها بشكل عام، ادى الى انهيار التوليفة الخاصة لتعايش طوائفه السكانية المختلفة والتي ظلت تحكم كيانه وحركته منذ الاستقلال الوطني عام 1943، وذلك تحت ضغوط تفاوت النمو الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بين طوائفه المتعددة في مجتمع ليبرالي مفتوح، تشابكت مع ضغوط الصراعات الاقليمية المتباينة المستويات والاهداف، ابتداء من العدوانية الاسرائيلية التوسعية حتى استباحة النظم العربية المتناحرة الساحة اللبنانية، ميداناً للحرب الباردة والساخنة في ما بينها.
"البوسنة" في التسعينات، جزء من كيان متعدد القوميات والاديان تولد من خلال المقاومة الوطنية الجماعية للاحتلال النازي، ظهر الى الوجود بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، في شكل دولة يوغوسلافيا الاشتراكية بزعامة قيادية تاريخية ذات وزن عالمي تجسدت في شخصية تيتو وطريقه الخاص الى الاشتراكية التي عرفت باسم "التسيير الذاتي" تمييزاً وتعارضاً مع نموذج اشتراكية الدولة البيروقراطية السوفياتية الذي فرضه ستالين على بقية دول اوروبا الشرقية. بوفاة تيتو اخذ "الاسمنت الفكري - الاجتماعي - الاقتصادي" الذي كان يلحم اجزاء الدولة الاشتراكية اليوغوسلافية في التحلل والتفتت. وذلك تحت ضغط الهيمنة الصربية المستبدة، وتفاوت التطور الاجتماعي - الاقتصادي بين المناطق القومية التي تكونت منها الدولة. والذي لم يحقق نموذجها الاشتراكي الخاص ما كان يعد به من مساواة بين شعوبها والوصول بها جميعاً الى درجة من التقدم قريبة من مستوى التطور الذي انجزته بلدان اوروبا الرأسمالية، ان لم يتجاوزه.
اللافت للانتباه ان "اللبننة" على رغم محاولات ما عرف باسم "جيش لبنان الجنوبي" الذي سيطر على اجزاء من جنوب البلاد متحالفاً مع اسرائيل، لم تفرز حركات انفصالية للطوائف المتصارعة عن كيان لبنان واحد. وانما حاولت ان تطرح صياغات جديدة مثل الكونفيدرالية او الكانتونات السويسرية، تعدل من التوليفة التقليدية وتصب جميعها في ضمان استقلالية لبنان وأمنه في مواجهة كل من العدوان الاسرائيلي والتدخلات العربية في شؤونه. في حين ان "البوسنة" هي في صميمها حركة انفصال قومي لمنطقتي البوسنة والهرسك الاسلاميتين عن الكيان اليوغوسلافي التقليدي، الذي كانت كرواتيا وسلوفينيا غادرتاه بعمليات قيصرية عنيفة من قبل.
اسلوب العنف الدموي
واذا كانت اسباب "اللبننة" و "البوسنة" تعددت وتباينت، الا ان السمة الجوهرية المشتركة بين الظاهرتين برزت في كون ان التعبير عن الصراع السياسي - الاجتماعي بين القوى المتصادمة داخلهما اتخذ - في الاساس - اسلوب العنف الدموي واستخدام القوة المسلحة بين الجماعات المتعارضة تجسد في الغالب الاعم في ميليشيات افرزت حروباً اهلية. وهي السمة نفسها التي طبعت حركات القلق والتوتر والتمرد التي شملت العالم كله، على امتداد العشرين عاماً الاخيرة وعلى رغم تعدد اسبابها الاجتماعية والسياسية والقومية والدينية.
اذا كانت "اللبننة" مجرد ظاهرة عربية او شرق اوسطية وحسب، فماذا عن "الظاهرة الهندية" التي اشتعلت معها نيران حرب ضروس بين الطوائف راح ضحيتها الآلاف وكان من بينها اثنان من رؤساء الوزارات في فترة لا تزيد على ثلاث سنوات، انديرا غاندي ثم ابنها راجيف غاندي الذي خلفها. وتزامنت مع "الظاهرة الهندية" - ولا يزال - ظواهر اخرى باكستانية وتايلاندية وبورمية وتركية الحركة الكردية وصينية وكمبودية فضلاً عن الايرانية والافغانية، بين الجماعات التي استولت على السلطة او باتت داخل حرمها.
وماذا عن الظواهر الافريقية المخضبة بالدم الذي لا يتوقف سفكه في الصومال واثيوبيا وزائير وغيرها؟ وكذلك الظواهر المتعددة في اميركا اللاتينية: تشيلي والسلفادور والارجنتين وبيرو؟
واذا كانت "البوسنة" مجرد ظاهرة لبلد اوروبي اقل تطوراً فماذا عن "الظاهرة الالمانية" في البلد الاعلى تطوراً في كل اوروبا، والتي حققت وحدتها فعصفت بها احداث العنف السياسي بين شرقها وغربها وبين الدولة وعمالها، وراحت تفرخ ما بات يعرف بالنازية الجديدة، من رحم النظام الديموقراطي، وهو الوضع نفسه الذي نلمسه وان كان بصورة اقل حدة في "الظاهرة الايطالية" او "الظاهرة الفرنسية" حيث تختلط صدامات المافيا وجماعات الخضر والطلاب والعمال والمثقفين مع الدولة، وعودة الفاشية في ثوب جديد الى ايطاليا وظهور جان ماري لوبن وحزبه العنصري الذي يتصاعد وزنه الانتخابي في فرنسا؟
واذا كانت "اللبننة" و "البوسنة" معاً هما نتاج واقع متخلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً فماذا عن ظاهرة لوس انجيلس في الولايات المتحدة الاميركية الدولة الاعظم ديموقراطياً واقتصادياً وتكنولوجيا، في نهاية القرن العشرين، وهي التي انتشر حريقها في عدد من المدن الاميركية الكبيرة والصغيرة؟ وماذا عن اليابان وظاهرة جيشها الاحمر، وكوريا الجنوبية وصراعات العنف الارهابي بين النظام وبين فصائل المعارضة وجنوب افريقيا المتقدمة اقتصادياً وصراعاتها العرقية الدامية؟
واذا كانت "البوسنة" اخيراً وليس آخراً، تعبيراً عن افلاس النماذج الاشتراكية سواء في يوغوسلافيا بنظام التسيير الذاتي، او الاتحاد السوفياتي الذي تفكك وانهار نظامه الاشتراكي البيروقراطي غير الديموقراطي، فماذا عن النظام الرأسمالي الليبرالي المتقدم في اميركا والمانيا وبريطانيا المواجهة مع الجيش السري الايرلندي؟
اذن، الظاهرة بمعنى استخدام العنف الدموي في الصراعات السياسية، اياً كانت اسبابها واياً كانت وسائلها الارهاب ? او الميليشيات او الحروب الاهلية باتت عالمية وتشمل الكرة الارضية وتشعل الحريق بكل الدول والنظم والمجتمعات المتخلف منها والمتقدم، الاشتراكي، او الرأسمالي، او العالم ثالثي، الديموقراطي والدكتاتوري، وما "اللبننة" او "البوسنة" الا علامتان تاريخيتان على هذا "الوباء" الذي كثف هجومه على البشرية خلال العشرين عاماً الاخيرة بصورة خاصة.
من لوس انجيلس الى الجزائر
ولا اظنه بات يجدي في سبيل الفهم المتعمق لهذه الظاهرة السياسية الدموية العالمية الراهنة، بهدف احكام السيطرة عليها وعلاجها، ان نهرب الى العموميات بأسبابها ومسبباتها المعروفة: الهيمنة الاستعمارية، العنصرية، التمييز القومي والعرقي والديني، انتفاء العدل الاجتماعي والديموقراطية، التخلف الاقتصادي.
صحيح، تظل هذه الاسباب والمسببات صحيحة وواقعية ولا يمكن اغفالها، ولكنها وحدها لم تعد تفسر هذه "الظاهرة الوبائية" التي يبدو وكأن، فيروساً غير معلوم من نوع شبيه بفيروس الايدز، هو الذي يحركها ويعمل دوماً على انعاشها بصور متجددة في جسم كل نظام اجتماعي - سياسي معاصر.
على سبيل المثال، ان بعض الاسباب والمسببات العمومية متوافرة ولا شك في حالة لوس انجيلس. ولكن يظل السؤال الذي يبحث عن جواب هو: ما الذي جعل "العرق" الابيض يتحد مع "العرق" الاسود اذا صح التعبير، على رغم الصراعات الناشبة بينهما، في لحظة جنونية - اجتماعية، في ضرب "كل اميركا" مؤسسات وطرقات ومتاجر وبشراً.
على سبيل المثال ايضاً، كل او بعض الاسباب والمسببات العمومية يمكن للمرء العثور عليها تحت ظلال احداث الجزائر، التي تمحورت حول الصراع بين تفسيرات وتأويلات للاسلام وعلاقته بالدولة والمجتمع، وذلك في بلد تنبع ثورته الاستقلالية وهويته من كون ان "الاسلام" قام تاريخياً بدور الحامي للهوية الوطنية الجزائرية في مواجهة الاستعمار الفرنسي الاستيطاني على مدى 132 عاماً الذي حاول بكل قوته ان يفرنس الجزائر، وطناً وشعباً، ثم حين راح فيما بعد يعمد الى استغلال الاسلام في كبح جماح الثورة التحريرية ويتهم الثوار بالمروق والكفر، خرج له بشجاعة ابو الثورة الشيخ عبدالحميد بن باديس مؤسس "جماعة العلماء" متحدياً رافضاً الهيمنة الفرنسية. واليوم في المسافة بين اللبننة والبوسنة يتحول ذلك الإرث العظيم الاسلام - الوطن الى مصدر للصراع السياسي الدموي في الجزائر.
ما الذي، اذن، يفسر لنا طبيعة "هذا الوباء العالمي" الذي يمتد بين "اللبننة" و "البوسنة"؟
المسافة بين "اللبننة" وبين "البوسنة"، هي بالضبط هذا الوعاء الزمني للسنوات العشرين الاخيرة، الذي تفاعل وتراكم داخله على نحو فوضوي، ذلك القدر الهائل، المتنوع وغير المسبوق، من التمزقات والمتغيرات في العقائد والافكار والسياسة والتكنولوجيا والنظم والعلاقات، التي كان يظن انها استقرت على اساس انها "القدر الابدي" الذي لا فكاك منه.
صحيح، انه سادها هذا القدر او ذاك من التوتر، ولكنه بدا وكأنه تحت السيطرة دوماً بوسائل متاحة، وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وامتداداتها من الحرب الباردة، والحروب الاقليمية بين المعسكرات الدولية والمناطق الجغرافية السياسية الاستراتيجية، على السواء.
واذا لم تكن هذه التمزقات والمتغيرات، غير مرئية بالقدر والعمق الكافيين من الوضوح، او نظر اليها على انها احداث نشاز ذات طابع وقتي، عندما تفجرت "اللبننة" في السبعينات، فان الرؤية اخذت تتضح ويتأكد للجميع - بدرجات متفاوتة - ان الاحداث ليست سطحية او عابرة، منعزلة بعضها عن البعض، خصوصاً بهذا البلد او ذلك الاقليم من دون غيرهما من البلدان والاقاليم في العالم، وذلك مع الجحيم الذي اشتعلت نيرانه بالبوسنة في التسعينات.
لا اميل الى المقارنات والمقابلات الميكانيكية بين احداث الامس واحداث الحاضر، ولكن ذلك لا يمنعني من ان اشير الى انه اذا كانت البوسنة في عام 1914، موطن الشرارة التي اشعلت الحرب العالمية الاولى، التي كانت ظروفها نضجت وقتذاك، فان البوسنة في عام 1992، قد تكون بداية النهاية للفوضى الوبائية الدموية التي تضرب في كل اتجاه، من عالم الصراع العربي - الاسرائيلي، وسباق التسلح التقليدي والنووي، وديون وفقر العالم الثالث، وصلافة القوة والثراء للدول السبع الغنية، وثورات العقائد الكبرى الشمولية، وحرب الخليج، والبيرسترويكا وانهيار الاتحاد السوفياتي والنظم الاشتراكية، وتفريخ الديموقراطيات في بلادها ومن حولها القوى غير الديموقراطية، وتقلصات النظم الاشتراكية، وضآلة الانسان كفرد وكقومية - تحت سماء اي نظام - امام آليات الحكم والقمع المسلحة بانجازات ثورة العلم والتكنولوجيا.
لماذا اقول ذلك او على الاصح أغامر بهذا القول؟
في تقديري ان الاحداث التي احتشدت بين "اللبننة" وبين "البوسنة"، ليست من قبيل الهدم او الاصلاح الجزئيين للعالم الذي نعيشه، والذي يمكن ان يتواصل بعد تغيير جلده، دون تغيير يذكر في كينونته وعلاقات بعضه ببعض، دولاً ومجتمعات وقوميات وأفكاراً وسياسات وديانات وبشراً، وانما الارجح، انها تعبير عن ظروف السطح المنظور، تدفع بالعالم للخروج من "تاريخ" قارب حالة الافول، الى "تاريخ" جديد على وشك الميلاد. لكن احداً، كائناً من يكون، ليس قادراً - بعد - على توقع ماهية هذا "التاريخ" الذي يلجه العالم بقوة دفع منفلتة عن اية سيطرة، الامر الذي يمكن معه القول، ان النزوع او التطلع او الاحساس الغامض بهذا "الجديد المجهول"، الذي راح، منذ السبعينات، يتزايد ويعنف طرقه لأبواب الانسانية، في جميع القارات والنظم والصياغات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والقومية وبوتقات العقائد والافكار السائدة، هو دافع الحركة.
ولأن هناك سباقاً محموماً وملحاً، على كل المستويات الجماعية والفردية، الفكرية والعملية، الحاكمة والمعارضة، حول مصير ما هو قائم ومزلزل من ناحية، وحول التعرف بقدر الامكان على هذا الجديد المجهول الآتي، من ناحية اخرى، اتسمت الحركة في جميع مجالاتها بطابع العنف المتصاعد.
لماذا؟
في تقديري لسببين:
* الاول، هو ما اسميه، التناقض الثنائي المفجر للغرائز البدائية والطاقات الحضارية معاً الذي عصف بالانسان اياً كان مركزه الجغرافي او الاجتماعي او النظامي، عصفاً شديداً، فمن ناحية ضاقت الثياب العقائدية والفكرية والمجتمعية، التي حشر فيها المواطن داخل كل نظام من دون استثناء، على النمو المادي والمعنوي، لجسد وعقل الانسان، وذلك في الوقت الذي كان فيه المواطن - الانسان نفسه يتضاءل وزنه وقوته وقدراته امام تضخم آليات الدولة وادوات قمعها وانتفاء العدالة والامن والحقوق الانسانية على رغم علو نبرة اناشيدها في العلاقات المحلية والاقليمية والدولية على كل المستويات، من ناحية اخرى.
* الثاني، ما اطلق عليه، فاعلية او اكتشاف عدم جدوى القانون الذي ظل يحكم الصراعات الاجتماعية والسياسية والقومية والدولية، طيلة القرون الماضية، ونعني به قانون "نفي الآخر" وتصفية "العدو" تصفية نهائية، ربما لم يجر اكتشاف ذلك الا متأخراً، خصوصاً بعد انطلاق البيرسترويكا في الاتحاد السوفياتي قبل انهياره، وسقوط جدار برلين، وصحوة القوميات الجديدة العنيفة.
بتعبير آخر، ان "اللبننة" انطلقت في ظل قانون ان الصراع لا يحسم الا بنفي العدو او الآخر وتصفيته، ولكن مع تدافع حركة الاحداث وصولاً الى البوسنة، تكشّف من خلال الدم والدمار، ان هذا القانون الذي حكم الحركة طوال التاريخ الآخذ في الانسحاب، لم يعد مجدياً، وان القانون الذي تفرزه "بواكير" التاريخ الآخذ في الشروق هو ان الصراع، لا يعني نفي الآخر، وانما المساومة معه على شروط للتعايش المشترك لمرحلة او مراحل قادمة، تبدأ بعدها مساومة جديدة بشروط اخرى، ذلك ان الحياة، الفردية او الجماعية، في قرية او مجتمع او دولة او العالم، لم يعد من الممكن تأمين استمرارها وتقديمها بأن ينفي طرف الطرف الآخر، وانما في تعايشهما معاً، بتوازن معقول ومقبول من المصالح والحقوق والواجبات.
عصر الفوضى الانتقالية
والاشكالية الراهنة، هي ان الكثير من القوى الفاعلة في اطار المجتمعات والدول والعالم، التي تتحكم نسبياً - اليوم - في الامكانات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية، ما برحت تمارس الصراع بقانون نفي الآخر، وبالتالي فان الامر، يحتاج موضوعياً، الى قدر مؤلم من العنف المتبادل حتى يتغلب قانون الصراع بالتعايش على قانون الصراع بنفي الآخر.
وربما يكون ما نعيشه اليوم هو عصر الفوضى الانتقالية الذي قد يستغرق ما تبقى من سنوات القرن العشرين الثماني، ولعله يمتد الى سنوات محدودة من العقد الاول للقرن الحادي والعشرين.
في هذا العصر، سوف تدور بالضرورة معارك ضارية في كل مجال، لدفن القديم الذي يقاوم وفتح الطريق امام الجديد الطري العود، الآتي بخطوات يغلب عليها التردد في البداية.
معارك من اجل تغيير جوهري في الشكل والمضمون، لقيم الحرية والاستقلال والقومية والعقائد والدولة والمجتمع والعلم والديموقراطية والفن والانسان.
معارك، قد تصل الى تحلل الشعوب الى عناصرها القومية والعرقية والحضارية الاولية، ثم العمل على تركيبها مرة اخرى في صياغات طوعية جديدة.
معارك، من حول توفير الظروف لانضاج نماذج غير مسبوقة للتنمية الاقتصادية الاجتماعية ولنظم الحكم، تأتي من خلال التفاعل التاريخي بين ايجابيات وسلبيات الرأسمالية وايجابيات وسلبيات الاشتراكية.
بيد انه تظل - مع ذلك - عوامل وقوى كامنة لفترة قادمة محدودة، هنا وهناك تفرخ العنف في العلاقات والصراعات، وتكرر اللبننة والبوسنة بطرق واشكال مختلفة.
بعض هذه العوامل والقوى هي على شكل دول ونظم حكم، حيث العنف، ببعده العنصري او ببعده القومي المقصود او ببعد الافتنان النرجسي بالقوة والهيمنة. وفي هذا المجال ترصد - على سبيل المثال - اسرائيل وايران والعراق وسورية وربما تركيا في الشرق الاوسط، وجنوب افريقيا في القارة السوداء، وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وربما اليابان في آسيا والمانيا في اوروبا وقطاعات مهمة حاكمة في جمهورية روسيا والولايات المتحدة الاميركية.
اما البعض الآخر من هذه العوامل والقوى فيتمثل فيما بات يسمى بغابة التأويلات والتفسيرات الحاسمة المبتسرة للأفكار والعقائد، في فترة الفوضى الدولية، مثلما اصبح يعرف - في اوروبا - بتيار "البربرية الجديدة" ذات الاتجاهات العنصرية ضد الشعوب غير البيضاء، او بتيار معركة نهاية التاريخ في الولايات المتحدة بين الثقافة اليهودية - المسيحية وبين الثقافة الاسلامية - العربية، وكذلك تيار الصهيونية الحديثة او الافريقية الجذرية السوداء او تيارات انقاذ المسلمين من جاهلية القرن العشرين.
الآن: هل يصلح ما تقدم من اجتهاد، تفسيراً ابعد من الاسباب والمسببات العمومية التقليدي، لدلالات "اللبننة" و "البوسنة"؟
اعتقد ان الاجابة تحتمل نعم ولا، في الوقت نفسه.
نعم، لأن ما يحدث ليس هو المنشئ للواقع الجديد، وانما هو الذي يلقي اضواء على هذا الواقع الآخذ في التكوين تحت جلد القديم.
ولا، لأن الاضواء، ليست - بعد - من القوة بحيث تعري اكبر مساحة ممكنة تحت الجلد، الذي ما زال يخفي الكثير.
وعلى اية حال، لا بديل امامنا غير التسلح بالجسارة الفكرية للمغامرة بالسباحة في بحر هذا الجديد المجهول، الذي يصدر بين آن وآخر، اشارات ملموسة عن وجوده وحركته الآتية.
ولعلنا، بتضافر جهود جماعية، نستطيع ان نتوصل الى امتلاك قدر من المعرفة وادوات حديثة للبحث والقياس والعمل، ما يمكننا من ان نحاصر مخاطر "اللبننة" و "البوسنة" ونتجاوزها، ونمنع تكرارها في المستقبل، على الاقل في العالم العربي ومنطقة الشرق الاوسط.
ربما تكون الفقرة الاخيرة من هذا المقال مشبوبة العاطفة، تعزف انغاماً من الطرب السياسي، الذي انقده وأحاول دائماً ان اتجنبه، ولكني، مع ذلك، احس هذه المرة، بفقدان الصدق مع القارئ، اذا حذفتها، ذلك انه تتملكني بقوة رغبة التحريض على التفكير الجماعي، المستقل وغير التقليدي.
* كاتب ومفكر سياسي مصري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.