"إيل نومي ديل روزا" او "إسم الوردة" هو عنوان الرواية الاولى للكاتب الايطالي أمبرتو إيكو، صدرت في عام 1980، ولم يمض على صدورها سوى اشهر قليلة حتى تهافت عليها القراء. وتهاطلت على ناشرها "فابري - بومبياني" بمدينة ميلانو عشرات الرسائل من كبار الناشرين في العالم يطلبون شراء حقوق ترجمتها الى لغاتهم. وتمت بالفعل ترجمة الرواية الى اكثر اللغات، فصارت متوفرة لقراء الانكليزية، والاسبانية، والالمانية، والفرنسية، واليابانية والصينية، والتركية، وذلك في وقت قياسي بالمقارنة مع اعمال اخرى لا تقل اهمية، كما اقتبسها الى السينما المخرج الفرنسي جان جاك أنو في عمل يحمل العنوان نفسه. قام بدور البطولة فيه الممثل البريطاني شون كونري، ونال في اواسط الثمانينات نجاحاً جماهيرياً زاد من انتشار الرواية واقبال القراء عليها بأعداد كبيرة، على رغم ما تستوجبه قراءتها من ثقافة تاريخية وفلسفية واسعة ومعرفة بأساليب القص الحديثة، بحيث صارت "اسم الوردة" ظاهرة ادبية فذة من حيث انتماؤها الى الادب الرفيع من ناحية وانتشارها الجماهيري الواسع من ناحية ثانية. ظل القارئ العربي يقرأ عن هذه الرواية، ويسمع عن كاتبها اشياء كثيرة، بل هناك من شاهد الفيلم المقتبس عنها، فيما تمكن آخرون من الاطلاع عليها في احدى اللغات المترجمة لها، والقلة القليلة ممن هم يحسنون الايطالية قرأوها في لغتها الاصلية، لكن "اسم الوردة" ظلت الى حد الاسابيع الاخيرة غريبة عن اللغة العربية وعن عدد كبير من الناطقين بها. لذلك لا يسعنا الا ان نحيي مبادرة دار التركي للنشر في تونس التي كلفت الدكتور احمد الصمعي استاذ اللغة والادب الايطاليين في كلية الآداب في تونس بترجمة هذه الرواية الضخمة، كما كلفت الدكتور عبدالرزاق الحليوي استاذ اللغة والآداب العربية في الكلية نفسها بمراجعة الترجمة، وأصدرت أخيراً - وبعد اثني عشر عاماً عن صدور النص الاصلي - الصيغة العربية ل "اسم الوردة" في مجلد انيق من 528 صفحة من القطع المتوسط، واضعة بذلك واحداً من أهم كتابات الحداثة الروائية العالمية بين يدي القارئ العربي المتعطش الى مثل هاته الاعمال. واذا كان سعر الكتاب باهظاً 22 ديناراً تونسياً، 25 دولاراً تقريباً!، فعسى ان يدفع نفاد الطبعة الاولى والمقدرة ب1500 نسخة فقط، حسب تصريح الناشر! الى نشر طبعة ثانية من حجم الجيب تكون في متناول اكبر عدد ممكن من القراء. تحقيق بوليسي رواية "إسم الوردة" جاءت في شكل سرد لنتائج تحقيق بوليسي قام به راهب فرانسيسكاني يدعى غوليالمو دا باسكارفيل بمعية تلميذه الطالب البينيدكتي أدسو دا مالك حول احداث رهيبة وغامضة وقعت في دير رهبان في شمال ايطاليا في اواخر شهر تشرين الثاني نوفمبر من السنة الميلادية 1327، وتمثلت في سلسلة من الجرائم الفظيعة التي تمادت طيلة سبعة ايام، وانتهت بحريق هائل دمر الدير الذي كان عامراً بالعلم والحكمة والتقوى، وتركه خرائب مهجورة مغلقة على لغز دمارها. الراوي هنا هو الراهب ادسو نفسه الذي اصر في آخر حياته ان يدون ما حدث له في فترة شبابه الاولى من اطوار غريبة في دير رأى من "الافضل والارحم" ان لا يذكر اسمه. ومتن الرواية هو المخطوط الذي خلفه هذا الراهب، ولكن في الصيغة التي عثر عليها... أمبرتو إيكو نفسه، وقام بترجمتها عن اللاتينية في اواخر الستينات من هذا القرن! المراوغة هنا لا تخفي على احد، وقد علق عليها إيكو في احد احاديثه الصحافية بقوله: "عندما نكتب رواية، فإننا لا ننجزها اولاً بأول. فأنا كتبت المقدمة، ثم كتبت الخاتمة بعدها مباشرة. اما خرافة المخطوط الذي عثرت عليه فهي التي تمكنني من وضع قناع على وجهي... اي انها تحررني من كل شعور بالحياء او بالخوف امام امكانية ان اكون انا الراوي... تلك الوسيلة تسمح لي بأن اتظاهر بمحاكاة اسلوب كتابة شخص آخر...". ولأن امبرتو إيكو بدأ حياته باحثاً مختصاً في النقد الادبي، وكان وما يزال احد اعلام السيميولوجيا، ومؤلف كتاب "الاثر المفتوح" الذي يعد احد المراجع الاساسية في نظرية النقد الحديث، فإن انتقاله من الكتابة النظرية البحتة الى الكتابة الروائية لم يكن انسلاخاً تاماً عن تجاربه السابقة، او تحولاً جذرياً في مساره الادبي، بل مواصلة تطبيقية لمقارباته النظرية لظاهرة الكتابة، وللاثر الفني عموماً، وعلاقته بالواقع من جهة وبالموروث الفكري والحضاري للانسانية من جهة ثانية. لذلك سعى ان يستثمر في "إسم الوردة" ثقافته التاريخية والفلسفية الواسعة. هنا تكمن عبقرية هذا الكاتب الذي يعرف كيف يجمع بين اكثر الاشياء تباعداً، ويقفز فوق مراحل التاريخ، ويتحرك ضمن جغرافية معرفية ممتدة، فإذا بتحقيق الراهب غوليالمو دا بسكارفيل يتبع منهجي البحث البوليسي من جهة فالاشارات الى نصوص كونان دويل البوليسية، وبالتحديد الى بطله الشهير شارلوك هولمز كثيرة في النص والتحليل الفلسفي من جهة ثانية، بين ظواهر تاريخية محددة ظهرت في اوروبا خلال فترة القرون الوسطى من ناحية وبعض الظواهر المميزة للمجتمع الحديث من ناحية اخرى الطوائف الدينية التي انتشرت في القرن الرابع عشر خلال ازمة الكنيسة تكاد تشبه في الصورة التي يقدمها عنها الكاتب الجماعات اليسارية الارهابية التي روعت اوروبا خلال السبعينات من هذا القرن، الخ. يظل القارئ، اذن يسافر في ذهنه بين الماضي والحاضر، وتتحول تفاصيل الحياة في دير ضائع في شمال ايطاليا ذات عام 1327 الى اشارات عميقة الدلالة حول قدر الانسان في صراعه مع قوى الظلام وسعيه الدائب الى استشراف مزيد من الضوء، في كل زمان وفي كل مكان. في مدى الايام السبعة التي ينقسم اليها الكتاب والساعات الكنسية التي تنظم حياة الدير وايقاع السرد هنا ذو اهمية قصوى في بناء الرواية واضاءة بعض دلالاتها، يعيش القارئ من خلال تأملات غوليمالو الواعية ونظرات أدسو المشحونة بألف سؤال فترة "رهيبة" من تاريخ اوروبا، وصل فيها النزاع بين الكنيسة والامبراطورية اوجه، واشتعلت فيها الفتن، يحرضها هذا الشق او الآخر لخدمة مصالح دنيوية متناقضة، وتضيئها نيران المحارق التي اعدم فوقها من اعتبر زنديقاً او مهرطقاً، حتى وان كان في الحقيقة تقياً. هاته الاحداث المتخمة صخباً وعنفاً هي التي تمثل الاطار التاريخي العام التي تدور فيه وقائع الرواية وهي خيالية من دون شك، وان طعّمها المؤلف بمعرفته العميقة للحياة في اوروبا خلال القرون الوسطى، لكن الحدث هنا لا يُروى فحسب، بل يُضاء بما كان يعتمل من جدل فكري في تلك الحقبة، ومنها مسائل الفقر، والعلاقة بين السلطتين الزمنية والروحية، وموقع الدين من العقل، والعقل من اليقين، وحكم الضحك والفرح والفكاهة من وجهة نظر الشرع الكنسي، وما الى ذلك... خارج أسوار الدير يكتشف القارئ واقعاً عنيفاً وغريباً في الآن نفسه، يتميز بالصراع الدامي بين القديم والجديد: بين العامية السائدة في الخطاب اليومي واللاتينية المعتمدة رسمياً كلغة ادارة ودين ومعرفة علمية، بين العالم الاقطاعي والفئات المهنية المختلفة، بين السلطة المركزية التي هي في حال تفتت وسلطة المدن الصاعدة، بين المعرفة الكنسية المنغلقة على ذاتها والعلوم الجديدة القادمة من وراء حدود الامبراطورية... اي، بتعبير آخر، بين فكر ممعن في الظلامية، ورافض لكل معرفة طارئة وكل خبرة جديدة، ومنغلق على جملة من القناعات يعتبرها مطلقة وغير قابلة للجدل، لا يتردد في قتل من يتجرأ على التشكيك فيها، وحرق من يجاهر بمعارضتها... وبين فكر جديد يعتمد العقل. ويستعمل المنطق، ويستعين بالتجربة، ويستضيء بما يقتبسه من معارف ظهرت في عوالم اخرى، حتى وان كانت تختلف ديناً وعقيدة. البطلان متأثران بالعرب يصبح الدير اذن كوناً مصغراً او مرآة تعكس ما يجري في الخارج من احداث تاريخية جليلة ومن جدل فكري متشنج، بل صورة مصغرة من المحرقة العظيمة التي ظلت تلتهم اوروبا في القرون الوسطى، فما حدث لبرينغارو مع ادالمو، ورميجيو مع سلفاتوري، واوبارتينو، ويورج، والمحقق غوليالمو المكلف باضاءة كل الالغاز، وكشف سر الجثث التي تتكدس على بعضها بين جنبات الدير، وأدسودا مالك، الراوي الذاهل امام تجليات العنف حوله... كلها قصص مختلفة، لكنها متكاملة، تروي قصة واحدة، هي قصة الانسان في صراعه مع قوى الشر النائمة داخله، وهي قصة قديمة قدم الانسان وقدم حاجته الى التعبير الفني. اذا كان التاريخ حاضراً بكثافة في "إسم الوردة"، فإن غاية امبرتو إيكو لا تكمن في تقديم قراءة لهذا التاريخ من حيث هو محدد بدرجة ما لتطور المجتمع الاوروبي وتحولاته اللاحقة، بل سعى الى تقديم "أثر مفتوح"، قابل لقراءات مختلفة، ومنفتح على مستويات تأويل كثيرة، قد تتعدى حدود الجغرافيا والتاريخ، وتخاطب الانسان اينما كان، فترسّخ في ذهنه قيم العقل، وتبدد عنه الاوهام التي عادة ما يولدها التعصب. وفي مثل هاته المرحلة التاريخية المتميزة بانهيار عدد من الايديولوجيات القامعة للانسان، وانتشار أنواع جديدة من اشكال التعصب العرقي والعقائدي، لعل هذا الكتاب يحرك في القارئ ذلك النزوع الى التحرر والتوق الى المغامرة المعرفية المتجذرين في الانسان، نفس ذلك النزوع الذي دفع غوليالمو وأدسو بطلي الرواية، الى ورود مناهل الفكر العربي ممثلاً في رسائل إبن رشد، وابن سينا، والرازي، وإبن حزم، وآخرين يقع ذكرهم في الرواية بإجلال وتعظيم باعتبارهم دعاة معرفة وحملة مشعل العلم في عصر سادته قوى الظلام. التحية الضمنية التي يوجهها أمبرتو إيكو الى الحضارة العربية الاسلامية، والى دورها الرائد في دفع حركة العقل في اوروبا خلال القرون الوسطى، هي حافز آخر للقارئ العربي كي يطلع على رائعته "إسم الوردة" في ترجمتها التي تجمع بين الدقة العلمية وسلاسة التعبير الادبي.