مسألة التركيبة السكانية في الكويت من القضايا - حتى لا نقول الامراض - المزمنة في البلاد التي نالت من النقاش والبحث ما لم تنله اية قضية اخرى، مع انها مطروحة في معظم الدول الخليجية وتختلف حدتها من دولة لاخرى. واذا كانت كارثة الغزو العراقي للكويت قد حملت سلبيات لا تحصى لهذا البلد، وعلى كل المستويات، فإنها افسحت في المجال لاعادة فتح ملف التركيبة السكانية على مصراعيه، وجعلته احد المواضيع الاكثر حدة والحاحاً في ضوء موقف الجاليات التي كانت تعيش في الكويت من الغزو، وكذلك بعدما غادرت معظم العمالة الوافدة الاراضي الكويتية بسبب الغزو، عائدة الى بلادها. واذا كان شعار الخطط الحكومية وكذلك ابحاث المختصين في هذا المجال هو جعل الكويتيين اكثرية في بلدهم، فإن ذلك تحقق بنسبة لا بأس بها عملياً بعد التحرير، فعدد الكويتيين كان قبل الغزو لا يتعدى نسبة 27 في المئة من مجموع السكان وهي نسبة مساوية تقريباً لعدد الآسيويين 26 في المئة من مجموع السكان بينما كان العرب يشكلون 46 في المئة من من مجموع السكان نصفهم كان من الفلسطينيين. اما الآن، فإن الاحصاءات التقديرية تشير الى ان عدد الكويتيين وصل الى حوالي 700 الف نسمة من اصل حوالي 1.5 مليون نسمة يعيشون على ارض الكويت. واذا كانت الجاليات الوافدة، من عربية وآسيوية، تسببت في الماضي بمشاكل ديموغرافية، فإن الوجود الفلسطيني الكثيف الذي كان يترواح تعداده ما بين 350 الفاً و400 الف نسمة، شكّل مشكلة ديموغرافية - سياسية، بالنسبة الى الكويتيين الذين تخوفوا من توطين معظم الفلسطينيين في بلدهم بعد ان بات مؤكداً ان سقف الحل المطروح لازمة الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية لا يسمح بعودة فلسطينيي الشتات الى اي كيان فلسطيني يمكن ان يقام في الضفة الغربية وغزة. لقد بدأ البحث الفعلي بموضوع الوجود الفلسطيني وضرورة تحجيمه قبل الاجتياح العراقي للكويت، وجاءت الانتفاضة في الاراضي المحتلة لتوقف اي بحث في الموضوع، حيث وقفت الكويت بقوة الى جانب الانتفاضة، ووفرت لها الدعم المالي والمعنوي، بما في ذلك توفير فرص العمل للفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة، والذين كانوا يستخدمون جزءاً من مداخيلهم لمساعدة اهلهم في الاراضي المحتلة، كشكل من اشكال دعم صمودهم، وتوفير الاساس الاقتصادي لهذا الصمود. لكن الغزو العراقي للكويت وموقف القيادة الفلسطينية المؤيد لصدام حسين احدث خيبة امل كبرى لدى الكويتيين الذين حملوا القضية الفلسطينية ودافعوا عنها على نحو متميز دائماً، وكان لا بد بعد التحرير ان يتم طرح قضية الوجود الفلسطيني برمته بعدما تحولت الى مشكلة مثلثة: ديموغرافية - سياسية - امنية بالنسبة الى الكويتيين. وقد شهدت الكويت خلال العام الماضي تقليصاً ملحوظاً لعدد الجاليات التي وقفت قياداتها او حكوماتها مع الغزو. واصبح الوجود الفلسطيني الآن يشكل عشر ما كان يمثله قبل 2 آب اغسطس 1990، وكذلك الامر بالنسبة الى العراقيين واليمنيين والسودانيين، الذين ابعدوا عن البلاد او رحلوا طواعية منها، بعدما كفلت الدولة الكويتية حصولهم على كافة حقوقهم من مدخرات ومستحقات وتعويضات. جالية "البدون" وهناك اضافة الى هؤلاء "جالية" كبرى اخرى هي "البدون"، او الذين لا يحملون الجنسية الكويتية. وهؤلاء من اصول مختلفة، بعضهم كان موجودا في الكويت منذ زمن بعيد، لكنه لم يسجل نفسه في تعداد السكان لانه كان ينظر الى الجنسية باعتبارها وثيقة "زائدة عن الحاجة" لاثبات وضعه القانوني، اما الاكثرية من "البدون" فقد نزحت على فترات متباينة الى الكويت من العراق او بادية الشام او ايران. وتعمل الحكومة الكويتية على معالجة اوضاع هؤلاء استناداً الى اسس عدة اهمها تجنيس من يستحق منهم، وترتيب الاوضاع القانونية لمن لا يستحق منهم على اساس انهم وافدون الى البلاد. وقد شكل مجلس الوزراء الكويتي لجنة لدراسة اوضاعهم، ومن المنتظر ان تظهر نتائج خططها خلال وقت قريب. ولا يقتصر الخلل الديموغرافي على التركيبة السكانية، انما يمتد الى تركيبة العمالة نفسها في الكويت. وقد تكون المشكلة الاولى نتيجة للثانية، لا العكس. فمجتمع النفط والوفرة المالية، اوجد نوعاً من الاحتقار للعمل اليدوي والمهني والحرفي في الكويت، كما في سائر دول الخليج الغنية. وقد تدفق الكويتيون، خصوصاً اصحاب الشهادات المتوسطة والعليا منهم للعمل في الدوائر الرسمية، نظراً الى سهولة العمل في المؤسسات الرسمية، اضافة الى انه مضمون وذو مردود مرتفع نسبياً من دون اية انتاجية فعلية في المقابل. فيما يحتل معظم وظائف القطاع الخاص - على مختلف مستوياتها - العمالة الوافدة، بما في ذلك اصحاب الكفاءات العالية. وتشير ارقام آخر ندوة نظمها المعهد العربي للتخطيط في الكويت والارقام هي اصلاً لوزارة التخطيط ان 39 في المئة من الكويتيين عملوا قبل الغزو في الوظائف الكتابية مقابل 10 في المئة من العمالة الوافدة، فيما عمل 28 في المئة من العمالة الكويتية في وظائف علمية وفنية، مقارنة مع 12 في المئة من الفئة المقابلة. اما في قطاع الخدمات فقد اشتغل 13 في المئة من الكويتيين مقابل 28 في المئة من العمالة الوافدة. بمعنى آخر، فإن 52 في المئة من العمالة الكويتية يعملون في مهن كتابية، بينما عمل 8 في المئة في المجالات الانتاجية. وخلصت الندوة المذكورة الى جملة مقترحات بعدما اقرت بأن لا علاج قريباً لهذه المشاكل، بينها الاقتراح بتطبيق انتقائي ودقيق لسياسة التجنيس بهدف زيادة عدد الكويتيين، وكذلك تشجيع الكويتيين على الانخراط في القطاع الخاص، ومشاركة اكبر للنساء في سوق العمل، والتطبيق الحازم لسياسة الثواب والعقاب، والحد من العمالة الوافدة غير المؤهلة، خصوصا ان العمالة الهامشية خدم، سائقون، فراشون، حراس عمارات هي الفئة الطاغية، والتركيز على العمالة المؤهلة تأهيلاً عالياً كي يستفيد الكويتيون من خبراتها وتجاربها. واقترحت الندوة تشكيل هيئة استشارية تتابع الوضع بعدما اكدت ان المعالجات تتطلب ارادة وجرأة سياسيتين واستراتيجية بعيدة المدى. ولكن على رغم بعض الارقام المتوفرة، فإن الملاحظ هو غياب الاحصاءات العلمية الدقيقة حول الخريطة السكانية للكويت بعد التحرير. وان كانت تسربت المعلومات التي وردت آنفاً ونشير الى ان الكويتيين يشكلون الآن 47 في المئة من سكان الكويت. وهناك مخاوف من استمرار هذه النسبة. وقد اشارت الخطوط العريضة لوثيقة الاصلاح والتنمية التي تبحثها الحكومة الكويتية حالياً الى ان الوصول الى نسبة 50 في المئة يتطلب خمس سنوات على الاقل. كيف تبدو الصورة الآن؟ الانطباع الاولي الذي يخرج به المراقب في الكويت ان هناك سياسة واضحة تقوم على توزيع العمالة على الجاليات العربية والآسيوية بنسب متقاربة بحيث لا يتعدى اكبرها 100 الف الجالية المصرية بلغت الآن 115 الفاً ربما لان حوالي 15 الف مصري لم يغادروا الكويت اثناء الغزو وهذه السياسة تتجنب وجود كتلة كبرى مؤثرة لوبي كالكتلة الفلسطينية سابقاً. واذا كانت المنطلقات الامنية والسياسية ضرورية جداً عند النظر الى التركيبة السكانية الملائمة للكويت، فلا بد من النظر الى المسألة من جوانب اخرى لا تقل اهمية، خصوصاً الجانب الاقتصادي، باعتبار ان وضع الكويت يختلف عن بعض الدول الاخرى اذ فيها مجتمع مدني اكثر تبلوراً وحركة تجارية ناشطة تمتد الى عقود، بل الى قرون قبل عصر النفط. وسيكون من الصعب ان تستقيم الدورة الاقتصادية مع كتلة بشرية تعدادهااقل من مليون ونصف المليون نسمة، خصوصاً ان نصفها من العمالة الوافدة التي تحصر نفقاتها في الكويت بالضروريات، بعد ان كان يقيم في الكويت حوالي المليوني نسمة قبل الغزو، الكتلة الاساسية منهم كانت تتصرف على انها باقية في الكويت الى امد طويل. وربما هنا تكمن المعادلة الاساسية التي ينبغي ايجاد الحل العلمي والعملي لها، وهي معادلة التوازن بين توفير متطلبات الامن، وبين توفير الشروط لتنشيط الدورة الاقتصادية في الكويت.