منذ طفولتها المبكرة وهي غارقة في العمل السينمائي. عمرها اليوم ثلاثون عاماً، لكن لائحة افلامها تحمل عشرات العناوين.. وفي العام المنصرم وحده حملت اسمها ثلاثة افلام، اولها "صمت الحملان" حقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً... والثاني حمل توقيع وودي آلن كمخرج "ظلال وضباب"، اما الثالث فحمل اسمها نفسه: جودي فوستر كمخرجة... مخرجة وهي بعد تحتفظ على وجهها بكل سمات الطفولة التي لا تنتهي... فمن هي جودي فوستر.. وإلام تتطلع؟ عشاق فيلم مارتن سكورسيزي الكبير "سائق التاكسي" يذكرونها بالطبع، وربما احياناً، اكثر مما يذكرون روبير دي نيرو بطل الفيلم نفسه، يذكرونها بسروالها القصير وارتجاج مشيتها وبراءة وجهها المطلة بالحاح من خلف المساحيق التي حاولت ان تغيّب صورة ابنة الخامسة عشرة، خلف قناع المومس المتمردة. يومها، من اجلها - تقريباً - ارتكب روبير دي نيرو في الفيلم تلك المجزرة التي تظل علامة من علامات السينما الاميركية الجديدة. طفلة الفيلم تغيرت اليوم كثيراً، صارت اليوم في الثلاثين من عمرها، والنجمة المبتدئة تحولت الى سيدة كبيرة من سيدات السينما.. ونالت في طريقها جائزة الاوسكار، وتربعت على عرش عشرات الافلام، كل هذا دون ان تفقد براءة نظرتها وسحرها، ووجهها الطفولي المشبع بحزن عميق المنبع. اسمها جودي فوستر، ولدت في العام 1962 في البرونكس نيويورك.. وكانت بدايتها السينمائية مع اقترابها من عامها الثالث حيث ظهرت في العديدم من افلام والت ديزني.. ثم لم تترك السينما بعد ذلك ابداً. اليوم صارت جودي فوستر، الى جانب كونها ممثلة كبيرة، مخرجة، انتقلت اخيراً من امام الكاميرا الى ورائها. وعلى هذا النحو، حمل فيلمها الاخير اسمها مرتين، مرة كبطلة للفيلم ومرة كمخرجة له.. شخصيتي كمخرجة بين الافلام الاولى التي مثلتها وهي بعد طفلة تحبو، وفيلمها الاخير، قطعت جودي فوستر رحلة سينمائية متميزة، واشتغلت مع عدد من اهم معلمي السينما المعاصرين، من مارتن سكورسيزي الى طوني ريتشاردسون، ومن دون تايلور الى دنيس هوبر، وصولا، اخيراً، الى وودي آلن الذي اسند اليها دوراً هاماً الى جانب ميا فارو وجون ملكوفيتش في فيلمه الجديد "ظلال وضباب". ولعل العمل مع عدد من المخرجين الطليعيين هو الذي جعل جودي راغبة في تجربة حظها كمخرجة. فكان فيلمها "الرجل الصغير" الذي يعرض اليوم على نطاق واسع ويلقى نجاحاً كبيراً.. ليس في اوساط المتفرجين وحدهم، بل كذلك لدى النقاد والصحافة التي كرست لها عدداً من الاغلفة منذ اسابيع فوضعت "التايم" صورتها على غلافها مع عنوان يقول: "مولد مخرجة" وكذلك فعلت مجلات ذات سمعة مثل "انترفيو" و"كالندر" و"موفي لاين" و"موفيز" وغيرها... وهو امر نادر... فالحال ان الصحافة الاميركية نادراً ما اخذت على محمل الجد رغبات الممثلين والممثلات الذين حاولوا في لحظة او في اخرى ان يجربوا حظهم وراء الكاميرا. وهذا الاستثناء يرضي اليوم جودي فوستر التي تقول انها في الحقيقة لم تتوقع مثل هذا النجاح ابداً.. بل وهي لم تكن واثقة من ان الحكاية البسيطة التي تحكيها في فيلمها ستثير اهتمام احد. ولكن، اصلا، لماذا رغبت جودي فوستر في العمل كمخرجة؟ "مذ كنت صغيرة.. كنت احب ان اوجه الامور تبعاً لمشيئتي"، تقول جودي مبتسمة، وتضيف "لقد رغبت دائماً في ان اعمل في الاخراج لاني اعتقد ان هذا العمل يتلاءم كل التلاؤم مع شخصيتي. فأنت حين تكون ممثلا، تستدعي جوانب من شخصيتك لا تكون بالضرورة الجوانب نفسها التي تستدعيها وانت واقف خلف الكاميرا. التمثيل يتطلب حضوراً وانفتاحاً بالتأكيد، لكنه لا يتضمن بالضرورة ذهنية تحليلية...". سيناريو ملعون عن الذكرى التي ستحتفظ بها الى الابد عن اول يوم من ايام عملها في فيلم "الرجل الصغير" كمخرجة، تقول جودي: "لقد كان اصعب يوم من ايام حياتي، بل وكان اصعب يوم من ايام العمل في الفيلم، كانت درجة الحرارة تصل الى الاربعين، والمطر لا يكف عن التساقط، ووجدتني جالسة في غرفة مقفلة لا تتمتع بأي تكييف للمناخ، وحولي اربعون طفلا ناهيك عن فريق التصوير والتقنيين. اضف الى هذا انه كان مشهداً عليّ أن امثل فيه وأن أخرج في الوقت نفسه. في النهاية أجلت لقطاتي كممثلة الى يوم آخر، واشتغلت على بقية اللقطات...". وعندما يلفت نظرها محدثها الى ان الفيلم يبدو وكأنه مفصل على قياسها كممثلة.. بل وكمخرجة، تبتسم جودي وتقول: "الحقيقة ان سيناريو الفيلم موجود في مكاتب المنتجين منذ عشرة اعوام، ولقد رغب الكثيرون في تحقيقه وشهد العديد من التبدلات.. ثم منذ اربعة اعوام فوتحت بأمر القيام بدوره الرئيسي، ونُبهت الى انه فيلم قد لا يتحقق ابداً.. فقلت لمن نبهوني: "انا مستعدة للعب دور الام، بل ولايجاد المال الكافي له، ان تركتم لي فرصة اعادة كتابة السيناريو بنفسي.. امنحوني ثلاثة اسابيع فان لم اتمكن من هذا، سأترك الامر كله وابتعد، فمنحوني تلك الاسابيع وانتظروا.. اما انا فانني حين رحت اقرأ السيناريو من جديد واعدّ له، تنبهت الى ان بامكاني ان اخرجه بنفسي. لانني فتنت بجانب منه يتعلق بالكيفية التي سوف يتعامل بها الطفل بطل الفيلم مع امه ومع العالمة النفسية... وهكذا كان". هي والبراءة مهما يكن، فان ما يمكن ملاحظته هو ان فيلم "الرجل الصغير" هو اولا واخيراً فيلم عن الوحدة.. لكن جودي تقول انها لم تتنبه الى هذا الواقع الا وهي منكبة على توليف الفيلم بعد انتهائها من تصويره "قبل ذلك كنت اشتغلت عليه بوصفه فيلماً كوميدياً"... لكنه سرعان ما اتخذ طريقه الخاصة كفيلم "حول الطفولة عن النظرة التي يلقيها كل واحد منا على طفولته...". والطفولة هي المادة الرئيسية التي حملت جودي فوستر سماتها في معظم ادوارها السينمائية على اي حال. فهذه المرأة ذات الطفولة الابدية، بدأت عملها كطفلة، ثم حين كبرت بعض الشئ لاحظ الذين يختارونها للعمل معهم انها تحافظ في سماتها على طفولة دائمة، من هنا غلبت الطفلة على جودي فوستر وتميزت ادوارها جميعاً بذلك الحس الطفولي، حتى حين كانت تلك الطفولة تخفي العديد من العناصر الاخرى، كما هو الحال في "سائق التاكسي" او "صمت الحملان" او "فندق نيوهامشاير" او حتى "المتهمون"... وهذا ما يدفع المرء الى سؤال جودي فوستر عما اذا كانت، اليوم، ترى سمات مشتركة بين شتى الشخصيات والادوار التي لعبتها طوال عملها السينمائي فيكون جوابها: "هناك ضروب تشابه، بالتأكيد، لكن هذا لا يعود الى عجزي عن القيام بأكثر من نمط واحد من الشخصيات، بل يعود - ربما - الى وجود تشابه بين الافلام التي تهمني. انا اشتغل في فيلم واحد في السنة، كمعدل وسطي، لكني اقرأ خمسة وسبعين سيناريو قبل ان اختار الفيلم الواحد الذي امثله.. هنا يكون من الطبيعي للفيلم الذي اختاره ان يكون قبل ذلك مسّني لأسباب شخصية. هناك سيناريوهات ممتازة، لكنها لا تمسني. ان النساء اللواتي احب ان اللعب ادوارهن هن بشكل عام نساء يبقين على قيد الوجود رغم كل شيء. وحين اقول يبقين، لا اعني بقاءهن رغم الشرخ الذي يحدثه فيهن اغتصابهن كما في فيلم "المتهمون"، بل اعني فقط نساء يكن في البداية عند مستوى معين، وحين ينتهي الفيلم يكن انتقلن الى مستوى آخر. بهذاپالمعنى اعتبرهن عادة نساء بطلات، بريئات لم يخترن الخروج من الطفولة... بل ان المجتمع بنفسه، بقسوته، هو الذي اخرجهن منها". والآن... الى الكتابة فهل تفضل جودي فوستر واحدة من شخصياتها على اخرى؟ "بالتأكيد.. انني اليوم مغرمة بالشخصية التي العبها في فيلمي الجديد "الرجل الصغيرة".. فالمرأة التي اتقمصها هنا هي، دون شك، المرأة الاكثر رقة والاكثر بساطة.. فيها اجد سمات من شخصيتي الحقيقية لا اعتقد انه قد قُيض لي ان اظهرها في اي فيلم من قبل... ومع هذا لا اعتقد ان احداً سوف يتنبه الى هذا الامر. لماذا؟ لان شخصيتي في هذا الفيلم ليست شخصية بارزة... ولان الدور نفسه ثانوي...". لكن من يتأمل لائحة الافلام التي مثلت جودي فوستر فيها، منذ العام 1976 حين كانت في الرابعة عشرة من عمرها انطلاقاً من دورهاپفي "سائق التاكسي" سيلاحظ ان معظم الادوار التي قامت بها، كانت في الاساس ادواراً ثانوية، بالمعنى الهوليوودي للكلمة.. وهي نادراً ما كانت الانثى الاولى في الفيلم، غير انه ندر لها - مع ذلك - ان مرت في فيلم من الافلام مرور الكرام، فهي، لقدرة هائلة في اعماقها، وربما بسبب ذلك التناقض الهائل بين براءتها الاساسية وبين المصير الذي ينتظرها في الفيلم، عرفت دائماً كيف تنقل الى الدور اهميته وتجعله يعيش طويلا بعد ان ينسى الفيلم نفسه، بل وربما حدث في افلام عديدة ان ارتبط الفيلم بها، حتى ولئن كان دورها فيه ثانوياً كما هو الحال في "سائق التاكسي" و"كارني" و"زوجة اوهارا" و"فندق نيو هامشاير" و"المتهمون" وحتى في فيلم وودي آلن الاخير.... من هنا ما يراه بعض النقاد من ان جودي فوستر لا يصح اعتبارها "نجمة" بل "نجمة - مضادة"، اي ممثلة تتلاعب بالدور الذي تقوم به وتمتزج به الى درجة مدهشة حيث بالكاد يتذكر المرء ان امامه ممثلة تقوم بدور ما.. بل يخيل اليه انها صاحبة الدور نفسه، الفتاة المعذبة المرهقة المتعبة ضحية المجتمع. ومع ذلك تؤكد لك جودي فوستر انها ابداً لم تقع ضحية للمجتمع خارج الشاشة. لقد كانت على الدوام طفلة مدللة، عملية، تحصل على ما تريد.