كشف الطيب بوضياف، الابن الاكبر لمحمد بوضياف رئيس المجلس الاعلى للدولة في الجزائر، جوانب سياسية وشخصية غير معروفة عن والده، وذلك في لقاء خاص مع "الوسط" تناول خصوصاً الفترة التي امضاها بوضياف في المغرب خلال سنوات المنفى الطويلة، وكذلك الاتصالات السرية التي سبقت عودته الى الجزائر لتسلم رئاسة المجلس الاعلى، وانطباعاته الحالية عن الوضع الجزائري. اللقاء مع الطيب بوضياف تم في مدينة القنيطرة قرب قرية تملك فيها العائلة مصنعاً للطابوق يعمل فيه 42 شخصاً. وفي ما يأتي الحوار مع الطيب بوضياف، وهو مهندس كهربائي درس في سويسرا، ويبدأ بتسجيل انطباعات الابن عن والده: "اذا كان والدي غادر الجزائر فان الجزائر لم تغادره. كانت تعيش معه وتشاركه الساعات والايام والفصول. وفي الرابعة من عمري، حيث بدأت ادرك ما يدور حولي، كانت الجزائر اول الاحاديث، كان والدي يحدثني عنها كما لو كانت املاً بعيد المنال، وفي كل مرة يرد الحديث فيها عن الجزائر يزداد احساسي بما يعانيه بعيداً عنها، ولم يكن يخفي استياءه من الحكومات التي تعاقبت عليها، وكثيراً ما سمعته يكرر العبارة: "ان جبهة التحرير الوطني ماتت. ماتت عام 1962". متى أدركت انه يقود حركة للمعارضة؟ - حتى عام 1978 كنت اعرف انه ينشط في حزب الثورة الاشتراكية الذي انشىء في المنفى واصدر من باريس جريدة "الجريدة" باللغتين الفرنسية والعربية. لكنه بعد ذلك العام تخلى عن اي شكل من اشكال المعارضة العلنية، كان كثير السؤال عن جدوى ما يقوم به، وظل ينظر الى تطور الاوضاع في الجزائر دون اهتمام، وكان منذ 1972 انصرف كلياً لادارة معمل للطابوق في قرية عصام القريبة من مدينة القنيطرة. هل تعني ان اليأس اصابه من امكانية اصلاح ما يجري في الجزائر؟ - استطيع ان اقول انه تخلى عن نشاطه العلني، لكنه لم يفقد الأمل نهائياً. وهل كانت له اتصالات سرية مع سياسيين جزائريين؟ - كانت اتصالاته قليلة، وتقتصر على اشخاص معدودين. وهل كان بينهم احد من اعضاء المجلس الاعلى للدولة الحالي؟ - كان يعرف علي هارون معرفة وثيقة، ولا اعرف مدى علاقته بالاعضاء الآخرين. وما مدى اطلاعك على المفاوضات التي سبقت تعيينه في منصبه؟ - كانت البداية اتصال هاتفي من الجزائر قبل اسبوع تقريباً من موعد مغادرته المغرب، ثم وصل القنيطرة وفد للمفاوضة. كان متأثراً بالعرض فعلاً، لكنه كان يدرك ان عليه معرفة الكثير عما سينتظره هناك، وقد طرح على المفاوضين الكثير من الاسئلة. ولم يتخذ قراره الاّ بعد ان تأكد ان الحاجة اليه كانت ضرورية وليست شكلية. بماذا اوصاك قبل مغادرته؟ - عرض علينا مصاحبته الى الجزائر. لكنني قلت له: في هذا الوقت لا. ولم يلح. فطلب اليّ ان اتكفل بمعمله وادارته. ثم زرت الجزائر بعد تعيينه رئيساً للمجلس قبل اسبوعين زيارة سريعة لكنني لم استطع رؤية ما كنت اود رؤيته. وكان والدي مشغولاً بمهامه، ولم اجد الاّ القليل من الوقت لأتحدث معه. وكيف وجدته؟ - كان سعيداً، على رغم انه وصف لي الوضع في الجزائر بانه صعب، وان هناك ارادة حقيقية للتغلب عليه. ولمست لديه استعداداً كبيراً للعمل تحت ضغط الوقت. وما التغيير الذي طرأ على حياته الجديدة؟ - لم اره كثيراً، تناولت الطعام مرة واحدة على مائدته، وكانت مختلفة بعض الشيء، لكنني لاحظت انه اصبح يواصل السهر الى ما بعد منتصف الليل، وهو تعود ان يخلد مبكراً الى النوم، عند الساعة العاشرة عادة، واعتقد انه ما زال يحافظ على موعد استيقاظه في السادسة صباحاً. وفي الوقت القليل الذي قضيته معه، كان حديثه منصباً على العائلة والاصدقاء والمصنع. ما زال المصنع يشغل تفكيره؟ - لقد أوصاني به كثيراً، انه مصدر عيشنا الوحيد في المغرب. كان متعلقاً به، يقضي فيه اغلب ساعات النهار، وكثيراً ما كان يشارك العمال عملهم. واراك ايضاً تعمل فيه كما لو لم تعد ابن رئيس دولة؟ - قد لا تصدقني اذا قلت لك انني حتى هذه الساعة لم استوعب ما جرى، لم اتصور ان ما حدث قد حدث. ومع ذلك احاول مع نفسي ومع الآخرين ان افهم هذا التغيير لأكون طبيعياً في علاقاتي التي اريدها ان تستمر على ما كانت عليه. لقد كان والدي قليل الاصدقاء لكنه لم يكن انطوائياً، وربما اكتسبت طباعه بعض الصرامة بسبب عمله في التنظيمات السرية التي كان يشرف عليها خلال سنوات المقاومة، ونتيجة ما عانى في حياته من متاعب ومشاق، واستطيع ان اقول انه يتمتع بقدرة نادرة على الاحتمال والصبر، وبشيء من التكتّم عن شخصيته حتى ان العديد من جيرانه لم يكن يعرفه الا كمواطن مغربي. كيف كان اسلوب معاملته معكم؟ - كان يهمه ان نتابع دراستنا بجد، واعترف انه كان قاسياً في هذه المتابعة، ولكن دون ان يتدخل في اختياراتنا، واتذكر انني عندما توجهت لدراسة الهندسة سألني: ولماذا لا تدرس الطب؟ لكنه لم يعترض ولم يفرض قناعته في النهاية. وماذا كان يميز حياته اليومية؟ - كانت حياته عادية تبدأ وتنتهي بالمنزل. كان حريصاً ان يصل المعمل قبل وصول العمال بعد ان يقضي وقتاً قصيراً في مقهى "لوفيلاج" - القرية - وكان مثابراً على القراءة ومطالعة الصحف، لكنه لم يكن يقرأ سوى الصحف الفرنسية او المغربية الصادرة بالفرنسية. والصحف الجزائرية؟ - لم يقرأ صحيفة جزائرية - ولم تكن تصله من الجزائر اية صحف او مجلات. وما هي مشاعر المغاربة نحوك الآن؟ - البعض لا يريد ان يعرفني الآن الاّ كابن لرئيس دولة. والبعض يكتفي بمباركتي "لكن لم المس منهم سوى مشاعر الاحترام للرجل الذي عاش بينهم دون مشاكل. والسلطات المغربية تحيطنا بالاهتمام وقد عززت دارتنا بالحراسة.
في تلك الدارة الصغيرة يمكن ان نعرف الكثير مما لم يقله الطيب. نعرف بوضياف البسيط الى حد الزهد، المتميز بذوقه ولمساته الجميلة على كل ركن فيها، القارىء الباحث عن المعرفة على رغم تقدم العمر. وفي مكتبته يثيرك وجود ست طبعات مختلفة للمصحف الكريم. وفي المصنع تصل فاتورة الهاتف باسم المشترك محمد بوضياف لتأدية مبلغ أقل من درهمين مغربيين. ماذا، الم يكن يكلم احداً؟ ويسارع الطيب الى الردّ: "كلا، ولكن الهاتف مقطوع".