ربما لو أردنا البحث عن خيط رفيع يمكن من خلاله الوصول إلى توصيف علمي مختصر لما يحترب في هذه المنطقة من اضطرابات وحروب أهلية بواجهة الدين، لألفينا كل الصراعات التي بدأت كانت تتعلق ب"إشكالية المعنى"، وهي الإشكالية التي ستفجّر نفسها داخل نفق التاريخ بطوله وعرضه، ولا تزال ألغام إشكالية"المعنى"تفاجئنا على أرض أحداثنا حتى اليوم، وإذا كانت"الفلسفة"بمفهومها العريض تبحث في الأعمدة الفقرية للنصوص والعروق الخضر أو السود للأحداث فإنها تبحث أيضاً في أزمة غامضة، هذه الحروب الرعناء، وهذا التوحش المخيف وصعود التصفية الدينية والمحاكم على الأرصفة إنما تعيدنا إلى مشكلة المعنى والحقيقة، والتطابق المأمول بين النص والتفسير، وإحالة إرادة التطابق لتكون ملزمةً لكل فرد على هذه الأرض. وحينما يتملى الباحث في سبيل اجتلاء مكنونات هذا الصخب، رغبةً في البحث عن أسباب مقنعة يجد نفسه تائهاً، لا ينتبه إلا وقد غرق في طوفان من الإشكاليات والأسباب، وهذا ما يجعل من الوضع مظلماً ذلك أننا واقعياً لم نزل بعدُ في مرحلة بعيدة من"العصر الذي نعيش فيه"، وهذا ربما شكّل جزءاً عضوياً في تذبذب أثّر حتى المثقف العربي الذي يعيش بين عصرين، الفيلسوف الفرنسي بول ريكور وفي كتابه"محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا"يوصّف هذه العلاقة ? عيش المثقف لأكثر من عصر في آن واحد - وخصّ حديثه عن"مثقف البلاد النامية"، فهو وبحكم زيارته المتكررة للشرق الأوسط توصل إلى التوصيف الآتي:"أن مثقف الدولة النامية يعاني أكثر من مرارة ذلك أنه واقعياً يعيش في القرن ال18 - وفق تفاؤل ريكور معنا - وفكرياً يعيش عصر الحداثة الفائقة بكل فوريتها وتوالداتها". تلك كانت توصيفات أحد الفلاسفة المعاصرين للمثقف العربي الذي يعاني الأمرّين من جهة إشكالية التوصيف، خصوصاً حينما تكون التوصيفات متصلةً بأجواء مكبوتة لأسباب اجتماعية أو سياسية. وما زاد الطين بلةً أن المنطقة تمتدّ على نحوٍ خطر ضمن بؤر الصراع الداخليّ، كما تحوّل الإرهاب من تنظيمٍ إلى ثقافة، حتى تعثر في مواقع التواصل الاجتماعي على إرهابيين ثقافياً وإن لم يحملوا السلاح، بات الإرهاب شبحاً داخلياً. كل تلك الصراعات الطائفية والتصفيات على الأرصفة ترتدّ نحو مسائل فكرية لها جذورها العميقة في التراث، ولعلّ هذا ما رسم على السطح"إشكالية المعنى في الفكر العربي"، وعلى رغم كون العالم العربي ليس أكثر من أي عالم آخر في تعدد طوائفه ومذاهبه إلا أنه لا يزال يخطو وئيداً باتجاه نزع فتيل التفريق الطائفي والعرقي والأثني. يقول"مطاع صفدي":"إن الحرب العالمية الثانية سرّعت من نضج الحداثة إبانها وأسهمت في العبور إلى مرحلة ما بعد الصراع". بل أسهمت في تشكيل قالب إنساني جيد نشهده في أوروبا، على رغم تعداد التيارات الفكرية واختلاف الأعراق، والعالم العربي، على رغم الحروب التي طحنته طويلاً وأكلت من دمه على مدى قرون إلا أن الحروب تردّه تارةً أخرى نحو إحياء النزعات القومية والعرقية وإذكاء الحرب المعنوية الدينية تحت يافطات"الطوائف"و"ميلشيات الأحزاب"، و"نموّ بذرة الإرهاب"! لم نصل بعد عربياً إلى توصيف دقيق لإشكالية الصراع التي تكوّنت عن إشكالية المعنى الفكري، ففي كل دراسة للحركات الأصولية، أو للتجمّعات البشرية، أو للحروب والنكسات تذكر نتائج مختلفة السياق، إن العجز البشري الخطر الذي نشهده عربياً إزاء ما يخصنا كلنا من أحداث عبر توصيفها أو ذكر نتائجها ودلالتها يعتبر من أبرز إشكاليات الصراع العنيف، الذي نما مع بروز الحكومات العسكرية، والثورات الوهمية الاستبدادية، والحركات الإسلامية الأصولية! السؤال، إلى متى هذه الحرب على"المعنى"؟ إلى متى تظل كل طائفة أو حزبٍ أو تيارٍ فكري تحتكر الدلالات؟ [email protected]